نحن وشمس تبريزي

كتب بواسطة خالد محمد عبده

والدي لم يفهمني ألبتة، كنتُ غريبًا في مدينتي، والدي كان غريبًا عليّ، وكان يخشاه قلبي، كنت أظنّ أنه سيقع عليَّ، كان يكلّمني بلطفٍ، فكنتُ أظنُّ أنه يضربني، ويخرجني من البيت، كان والدي يسألني: ماذا حدث لك؟ أعرف أنك لست مجنونًا لكنني لا أفهمُ أي سلوك لديك!

في عام 2011صدرت عن وزارة الثقافة السورية الترجمة العربية لكتاب Rumi – Past and Present, East and West: The Life, Teachings, and Poetry of Jalâl al-Din Rumi تحت عنوان: (الرومي ماضيًا وحاضرًا، شرقًا وغربًا- حياة جلال الدين الرومي وتعاليمه وشعره) وقد ترجم لنا هذا العمل العلاّمة المحبّ العاشق للرومي: عيسى علي العاكوب، وتأتي هذه الترجمة لهذا العمل كلبنة متممة للبناء الذي بدأه منذ سنوات خلت، ترجم فيها نصوص الرومي عن الفارسية وترجم دراسات العاشقين له كـ إيفا ميروفيتش وأنّا ماري شيمل، وقد أحسن إلى القارئ العربي بترجمة هذا العمل إحسانًا كبيرًا، فإضافة إلى المعلومات الواردة في (من بلخ إلى قونيه) و(الشمس المنتصرة) عن شمس تبريزي، يوفّر لنا هذا العمل ما يمكن الاعتماد عليه في الحديث عن شمس، وقد آثرت أن أشير إلى هذا العمل في صدر هذه المقالة لاعتمادها عليه، وفي سياق آخر سوف أعرض لهذا الكتاب الرائع.

(1)
والدي لم يفهمني ألبتة، كنتُ غريبًا في مدينتي، والدي كان غريبًا عليّ، وكان يخشاه قلبي، كنت أظنّ أنه سيقع عليَّ، كان يكلّمني بلطفٍ، فكنتُ أظنُّ أنه يضربني، ويخرجني من البيت، كان والدي يسألني: ماذا حدث لك؟ أعرف أنك لست مجنونًا لكنني لا أفهمُ أي سلوك لديك!
كان والد شمس من قماشة مختلفة، ومن جيل آخر، لم يشهد ما يدور في خيال شمس أو يفكر فيه يومًا، لأنه لم يُخلق بعد، أو ربما رضي والده بأن يموت حيًّا كما تموت آلاف مؤلفة وهي تسعى بين الناس ولا تدري، وجد شمس أن المتاح لا يليق به، فأنَّ وضجِر، وقلق وتحرّك، وانتقل من هنا إلى هناك، لم يتوقّف لحظة ولم يقنع بما يُعرض عليه مما لا يرى فيه نفسه، شمس بذلك في صورة (السّاخط) أو أنه لم يبلغ (الرضا) بعد كما بلغه أهله وأقرانه، أو هو ثائرٌ على كل الصور وما يوصف بـ(القيم) والحقيقة أن شمسًا لم ينشغل بالأوصاف كثيرًا أو قليلاً، المهم عنده أن يجد نفسه ويحصل على ما يريد، دون أن يقنع بزائفٍ مما يؤمن به غيره أو يعتقده، لم يرض عنه معاصروه بالطبع، وهو غيرُ راضٍ عنهم، ولن يتوقف والده أو من يهمه أمره عن الاندهاش من اعتراضه وأفكاره التي تهشّم ما استقرّوا عليه، وسيظل سؤالهم قائم: أي سلوك لديك؟ ماذا تريد غير ما هو كائن؟ أحوالنا أفضل من أحوال غيرنا! وكل خروج عن المألوف مفسدٌ!
(2)
أيكتبُ أحدٌ على ورقة مكتوبة؟!
أو يغرسُ أحدٌ في مكانٍ مغروس؟!
أيّها الأخُ كُنْ مكانًا غيرَ مزروعٍ
كُنْ ورقةً بيضاء لم يُكتب عليها شيء!
قال مولانا جلال الدين الرومي هذه الكلمات ذات يوم، لكنه لم يكن يومًا يسبق لقاءه بشمس تبريزي، كانت تصرفات شمس -الذي يستحق لقب الطيّار بجدارة لعدم مكثه في مكان وانتقاله عبر دوائر البلدان لتكتمل دورة حياته التي رآها ما نضجت بعد رغم احتراقه وبلوغه الستين عامًا- مثيرة للدهشة من (الآباء) و (المشايخ) و (المعاصرين) كان يجيب المعاصرين دومًا بعبارات واحدة: (لم يحدث شيءٌ! هل أنا مجنون؟ هل مزّقتُ ثيابي؟ هل آذيتُ أحدًا؟ هل تعديت حدودي معكم؟). إنما الألم والقلق وتحمّل الأعباء يقع على كاهلي وحدي، ومعاناتي لا يشعر بها غيري، أريد أن أكتب عبارتي التي لا تُبنى على حروفٍ لا أومن بها، ولا أراها ومعبّرة عني.
لست مؤمنًا (أن ليس في الإمكان أبدع مما كان) بل أنا مؤمن بـ(يزيد في الخلق ما يشاء). سُبِق شمس بعشرات المشايخ بل ومئات المرشدين الروحيين، لكنه لم ير حرجًا في توجيه النقد إلى الجميع، فالغاية المنشودة لديه أن يتحقق، لذلك لم يكن نقده منصبًّا على أشخاص المشايخ بقدر طيّه لكلماتهم وذر غبارها في الهواء، هو يريد أن يتخلّص من طين زائد على قلبه حتى تتحرر نفسه من سجنها، فلن يزاحم نفسه بكلام حفظته الأجيال وقد آن أوان بعث جديد! فشمس وإن كان صوفيًّا قد استغرق في المحبة وعاش تجربة العشق وصار ثملاً جوّالا، يطلب المزيد ويطمح إلى التجريد، إلاّ أنه لم يسلّم بما سلّم به السابقون، ولم يكن راضيًا عن أحد من السابقين أو المعاصرين، ولم يكن يرى في أحدهم من يستحق أن يصبح شيخًا صوفيًا له أو يُنظر إليه بعين التبجيل! فالشيخ الأكبر رضي الله عنه الذي وصف بالكبريت الأحمر انتقده شمسُ ورآه غير متابع لطريق النبي الأكرم ورأى كثيرًا من أفعاله خطأ بيّنًا! وكذلك لم يكن يرى البسطامي في عداد الأولياء وكثيرًا ما وجّه النقد إليه ورغم أنه في لقائه الأول بالرومي سأله عن أقوال البسطامي، وشرح له الرومي معانيها إلاّ أنه ظل ناقدًا لكثير من أقوال البسطامي كما يتضح ذلك من خلال المقالات التي رويت عنه. كما وجّه شمسُ نقدًا عنيفًا لمشايخ عصره، ولم يرض بأن يكون مريدًا خانعًا لأحدٍ منهم، على الرغم من معاصرته لأولياء كبار، وتوصف مدينته (تبريز) بأنها مدينة الأولياء.
(3)
كم من كبيرٍ لم يتحقق دمّر صغيرًا كانت الحياةُ أمله ومنّى النفس أن تظفر برغباتها يومًا؟! كم من مدرّسٍ لم يتعلّم جيدًا مبادئ القراءة والكتابة شوّه وعينا وكان سببًا في تلويث عقولنا بكلمات هدّامة لكل معنى إنساني بسيط! قليلون جدًّا من أشفقوا علينا يومًا وقالوا من قلوبهم نودُّ أن تعلوا على أكتافنا لتشاهدوا ما لم نستطع رؤيته يومًا أو لم نفر فيه، وكثيرون جدًّا قالوا ما لم يفعلوه يومًا حينما طُلب منهم الفعل!
ما ظفر به شمس كان مختلفًا وإن ظلّت الطريق واضحة أمام عينيه، يتحدث شمس عن انفصاله عن حلقات أحد مشايخه قائلاً: انفصلتُ عن القاضي شمس الدين لأنه لم يكن يعلمني. قال لا أستطيع أن أخجل من الله! خلقك الله جميلاً ظاهرًا وباطنا مثلما خلقك، ولست بمستطيع تشويه خلق الله. أرى جوهرًا في غاية النفاسة والشرف، ولا أستطيع الكتابة على هذا الجوهر.
كانت الإرادة والعزيمة من شمس أولاً على الانفصال -رغم جمال قلب شيخه ومدى معرفته بذكاء تلميذه وبقدر نفسه- فما يخطه الشيخ في دفتر التلاميذ يزيد عقبات الطريق ولا يُيسر المسيرة، انتصرت الإرادة واختار شمس ما يريد ولم يترك نفسه لما يُراد به، يستطيعُ أن يُذيب الآن بحرارة إيمانه بقلبه وذاته كل تلال الثلوج.
(4)
قبل زمان حضرة مولانا جلال الدين الرومي ما كان مخلوقٌ مطلعًا على حال شمس تبريزي-كما يخبرنا سپهسالار- وحتى الآن لم يدرك أحدٌ حقائق أسراره، كان دائمًا يحرص على إخفاء نفسه عن النّاس حتى وإن ظهرت من أفعاله بعض الكرامات! كان يلبس زيّ التجار ويتصرّف كما يتصرفون، وفي كل مكان ذهب إليه كان ينزل في خان المسافرين، ويضع قفلاً ضخمًا على باب حجرته برغم أنه في الداخل لم يكن يوجد سوى حصير من قش!
إظهار الأنا للآخرين آفة من آفات الجميع اليوم، لا أحد يريد أن يدفن نفسه قليلاً حتى يتمّ خراجه، وقبل أن تكتحل العينُ حتى تبرأ مما فيها من حاجب للرؤية الكاملة تسرد علينا من مشاهداتها وتضخّم الأحداث كما يعنّ لها، ولا خبر يستحق الإعلان فيما تقول.
إن سلوك الصّوفيّ اليوم كسلوك غيره من الآخرين، ولا يمتاز عن أحدٍ هو ينكر عليه، فالصوفي يقطع في كل الأمور تاريخًا وواقعًا بيقينٍ لا ندري من أين أتاه وكيف بلغه، كذلك لا يقل تعصبًا وعصبية لما عنده، مخالفًا ما يعلنه من التماس سبعين وجها من وجوه التأويل للأمر الواحد! فهل المحبّ لشمس اليوم يسير على نفس نهجه أم أنه يردد بعض المقولات فحسب دون إدراك لما تعنيه أو التمثّل بها في حياته.

الحادي والستون ثقافة وفكر

عن الكاتب

خالد محمد عبده