قاضيك الطبيعي

كتب بواسطة سامي السعدي

 

لأنه إنسان وحسب ، وجب أن يتمتع بحقوقه الإنسانية كافة ، وله أن يحتمي بالقواعد القانونية المنبثقة من تلك الحقوق ، ويأنس إلى دستورأسبغ له الحماية , وإلى قانون سن له الإجراء ، وإلى قضاء قادر على صون وضمان ذلك . ولذلك تسابقت الدساتير، وتفاوتت في رسم الضمانات التي يجب أن يستظل بظلها المتهم , وتمايزت بتمايز مراحل حراك الدعوى الجزائية . وقد صار مثول المتهم أمام قاضيه الطبيعي من الضمانات  الهامة التي ترسخ مبدأ العدالة . فلمن يتساءل : كيف الطريق إلى عدل سهل المنال مأمون الطريق؟ نجيبه : بالحفاظ على تلك الضمانات وعدم النيل منها أو تسورها عن طريق الافتعال والإلتفاف.

ولما كان المعني  بمحاكمة الإجراءات وبسط الرقابة على مدى تحقق تلك الضمانات هو القضاء ، كان من الطبيعي أن تنشأ للمتهم ضمانات أثناء مرحلة المحاكمة . ومن أهم تلك الضمانات حقه في أن يمثل أمام قاضيه الطبيعي . وعليه فإن السؤال الذي يطرح نفسه من هو القاضي الطبيعي ؟ّ!

بداية وحيث أن القضاء الجنائي الطبيعي يخضع لقاعدة شرعية الإجراءات الجنائية والتي بدورها تفترض أن يكون القانون هو مصدر قواعد الإجراءات الجنائية , فإن التنظيم القضائي بدوره ليس استثناءً من هذه المنظومة. وعلى ذلك فإن القاضي الذي ينظر قضية ما ، ينبغي حتى يصح اتصاله بتلك القضية , أن يحافظ على المبادئ التي أرساها الدستور ثم القانون ثم النظام الداخلي للمحكمة ( اللائحة ) وذلك جميعه وفق قواعد تتصف بالعمومية والتجريد.

وعلى ذلك ذهب الفقه والقانون إلى تعريف القاضي الطبيعي بأنه القاضي الذي ينظر الدعوى طبقاً للقواعد القانونية العامة المجردة المعمول بها , أما إذا صدر قرار بإحالة دعوى عن جريمة ما إلى دائرة غير الدائرة المختصة التي تحددها اللائحة الداخلية للجمعية العمومية لمحكمة الإستئناف بمحافظة من المحافظات ، كان المتهم الذي يمثل أمام هذه الدائرة يحاكم أمام قاض ليس هو قاضيه الطبيعي , والأمر سيان إذا صدر قانون جديد بعد وقوع الجريمة يخرج دعوى معينة من اختصاص قاضيها الأصيل إلى اختصاص محكمة أخرى ، عندها  يكون هذا التشريع قد انحرف عن الغاية المشروعة من إصدار القانون. ولا تكون هذه المحكمة هي المحكمة أو القاضي الطبيعي.

ونلحظ من ذلك التعريف أن الغاية أو العلة من رسم هذه الضمانة هو جعل القاضي يتصل بالواقعة لا بالمتهم تحقيقا لأعلى درجات الحيدة ، وهو الأمر الذي لا يتأتى إلا بوساطة القواعد العامة المجردة التي ترسم نطاقا لنظر الجرائم بغض النظر عن مرتكبيها أو نوعيتها , ولذلك وجب أن تكون وسائل اتصال القاضي مرسومة وواضحة قبل وقوع الجريمة لا بعدها . ولا ينال من ذلك أن يحدد القانون قضاء خاصاً كأن يكون للعسكريين أو الأحداث أو الجرائم المالية والإقتصادية , طالما كان سارياً قبل وقوع الجريمة ضمن إطار العمومية والتجريد.

ولمزيد من الإيضاح نتناول مثالين ( الأول) يتناول الخروج عن مبدأ القاضي الطبيعي خارج  نطاق المحكمة و ( الثاني) داخل نطاق المحكمة نفسها.

المثال الأول˿الجرائم التي حدثت في العام 2011م في ولاية (صحار) والمعروفة باسم{ دوار صحار}ْ.

القانون الساري والمعمول به لحظة وقوع تلك الجرائم هو القانون العام والذي يقيم الاختصاص بناء على قسائم ثلاث هي : مكان وقوع الجريمة ومكان القبض على المتهم ومكان إقامة المتهم. ولما كان إعمال أياً من تلك القسائم يجعل الإختصاص لمحكمة (صحار) فإن القاضي الطبيعي لأولئك المتهمين هو قاضي محكمة صحار , غير أنه صدر تعديل قانوني {لاحق على الجريمة} يجيز نقل المحاكمات إلى محاكم أخرى ، وقد صار أن تم نقل مكان المحاكمة من صحار إلى محكمة مسقط , وهو الأمر الذي يجعل قضاء محكمة (مسقط) قضاءاً غير طبيعي لأولئك المتهمين . بغض النظر عن نطاق الحراك الزمني لقواعد قانون الإجراءات الجزائية . وآية تلك المخالفة أن اتصال (قضاء محكمة مسقط) تم وفق قانون لاحق على وقوع الجريمة خلاف القانون الساري حينها, وهو الأمر الذي يجعل القضاء قد اتصل بالجريمة وليس بالواقعة المادية , مما يعني أن أولئك المتهمين قد فقدوا ضمانة هامة تمثلت في عدم محاكمتهم أمام قاضيهم الطبيعي والذي تحدد لهم قبل تكون الواقعة من خلال القسائم الثلاث التي ترسم مكان المحاكمة .

أما المثال الثاني: لنبقى في (محكمة صحار للجنايات) والتي استقرالعمل فيها وفق اللوائح المطابقة للقانون والمتصفة بالعمومية والتجريد على إنشاء دائرتين للجنايات, يكون نطاق الدائرة الأولى الولايات الجنوبية من المحافظة وهي (السويق ,والخابورة وصحم) وتعقد جلساتها في يوم ( الأحد) ويرأس الدائرة القاضي (أ) وبتشكيل معين ، في حين يكون نطاق الدائرة الثانية هي الولايات الشمالية من المحافظة وهي (صحار ولوى وشناص) وتنعقد جلساتها في يوم الثلاثاء ويرأس الدائرة القاضي (ب ) وبتشكيل معين.

وعلى هذا التوزيع المتصف بالعمومية والتجريد يكون بوسعنا أن نعلم مدى اتصال القضية بالقاضي، بمجرد تكونها أمام سلطة الاستدلال (مركز الشرطة) فالقضية التي تنبثق من مركز شرطة السويق ويحقق فيها (إدعاء السويق) ستتبع دائرة ( الأحد ) أمام المحكمة التي يرأسها القاضي (أ) , وعلى ذلك فإذا تكونت الجريمة وعرف متهمها ثم صدر قرار بإحالتها إلى غير الدائرة التي تتبعها ، يكون ذاك القرار قد نال من ضمانة القاضي الطبيعي الذي كان يتعين أن يمثل أمامه المتهم .

ولتأكيد هذه الحماية أو الضمانة , ذهبت العديد من الدساتير إلى فرض حماية دستورية لها ، مثل الدستور المصري وكذلك الدستور الايطالي الذي نص في المادة (25) ” لا يجوز أن يحرم شخص من القاضي الطبيعي الذي يعينه القانون”  وجاء في نص المادة (102) ” يباشر الوظيفة القضائية قضاة عاديون يختارون وفقا للوائح الترتيب التي تنظم نشاطهم , ولا يجوز أن يعين قضاة استثنائيون أو قضاة خاصون”.

وجاء في توصيات مؤتمر العدالة الأول الذي أقامه نادي القضاه المصري في عام 1986م ” المناط في القضاء الطبيعي أن يكون القضاء محددا وفق قواعد قانونية مجردة في وقت سابق على نشوء النزاع وارتكاب الجريمة لكي ينظر في دعوى معينة بالذات”.

الحادي والستون سياسة

عن الكاتب

سامي السعدي

محامي عماني