الهرمينوطيقا

والمعلوم أن القاريء إنما هو منتج للنص وتتجلى إعادة إنتاج القاريء لذات النص في فهمه له ، حيث تتم عملية الفهم ذهنياً بالعبور من خلال مساحات التأويل التي تتكيء في المقام الأول على مقدمات لغوية ومسارات قسرية للتأويل من خلال تلك المقدمات لذلك فإن الأصل في مهمة التأويل أنها عملية غير متناهية ومتجددة باعتبار إعادة إنتاج النصوص وفقاً لتفاوت رتب الأذهان من خلال فهمها ثم تأويلها وإنتاجها ضمن خطابات جديدة

في ظل رتابة المعاني التي تحملها اللغة والتسليم بتمام المهمة اللغوية في تجسيد دلالات النصوص واكتمالها ، يظهر فقه اللغة أو فن الفهم ومهارة استنطاق النصوص الهرمينوطيقا كأحد المباحث الفلسفية التي تختزل ثلاثة معان بحسب مذهب شلايرماخر – مؤسس نظرية الفهم الصحيح – وهي التعبير عن الفكرة بواسطة الكلام وتعريف الشيء وأخيراً تأويله وهذا الأخير (التأويل) يعد موضوع اللغة أساساً، ثم من بعده دلتاي الذي عمل على توسيع مهمة الهرمينوطيقا لتشمل كافة العلوم الإنسانية .
والمعلوم أن القاريء إنما هو منتج للنص وتتجلى إعادة إنتاج القاريء لذات النص في فهمه له ، حيث تتم عملية الفهم ذهنياً بالعبور من خلال مساحات التأويل التي تتكيء في المقام الأول على مقدمات لغوية ومسارات قسرية للتأويل من خلال تلك المقدمات لذلك فإن الأصل في مهمة التأويل أنها عملية غير متناهية ومتجددة باعتبار إعادة إنتاج النصوص وفقاً لتفاوت رتب الأذهان من خلال فهمها ثم تأويلها وإنتاجها ضمن خطابات جديدة ، ثم فهم التأويل ثم إعادة تأويل الفهم بخطابات أخرى وهكذا ، ويفرق أهل هذا الفن بين دلالة الألفاظ ومعانيها فيجعلون كل من ذلك شيئاً مستقلاً عن الآخر ، حيث تتحكم في معاني الألفاظ الأطر اللغوية عادة من خلال إحكام وجودها ضمن قوالب معجمية ونحوية ، فضلاً عن أن تواضع وجود تلك الألفاظ ومواطن الكلام ضمن تلك القوالب النحوية إنما يتم انطلاقاً من فهم المؤلف هو الآخر لغاياته ومقاصد كلامه ، لذلك قيل أن الكلام ليس في دلالة الألفاظ فحسب بل كذلك في المعنى الذي تتلبسه تلك الألفاظ داخل نطاقها اللغوي وداخل نطاق فهم المتكلم لنفسه على السواء ، ذلك أن اللفظ لا تتوقف تمام دلالته على ضبط الجوانب اللغوية فيه فقط ، فقد يتم ذلك ولا يكون اللفظ حاملاً للدلالة على التمام وهنا مبعث الحاجة المستمرة في الفهم وربما التأويل خاصة عندما ننظر إلى تلك السلسلة التأويلية التي قد تؤسس نصاً جديداً داخل النص الأصلي ، على أن المهمة التأويلية في جانبها الذاتي (يقصد بها غير النحوي) يجب أن تراعي ذلك عند عمليات التأويل بحيث تتجاوز الدلالات الشكلية للألفاظ والمعاني الظاهرة المعجمية بمعنى أن تكون ذات بُعد منهجي في الفهم ، إلى جانب مراعاة السياقات التاريخية والخطابية المجردة والأطر التي انعقد عليها إجماع أهل اللغة بمعنى أن تنطلق التأويلية الذاتية في فهمها للنصوص من خلال تلك الأدوات وصولاً إلى محصلة تأويلية تقنية يمكن وصفها بأنها حالة دلالية جديدة ومستقلة .
للمهمة التأويلية قيمة خلافية نظراً لكونها عملية غير متناهية ومتجددة تعكس تعددية قرائية للنصوص وبالتالي إعادة إنتاج قراءة تأويلية جديدة للنص ولعل خير شاهد على هذا وجود أكثر من تأويل للآية الواحدة ثم أكثر من قراءة للتأويل ذاته وهو الأمر الذي يعد طبيعياً لتعدد الأفهام وتفاوت رتبها بين الناس فضلاً عن تجدد ذلك كله عبر العصور والأزمنة وتمدد حاجات الناس وتطلعاتهم ، إلا أن ذلك فيه من الخطر ما يتعين معه التحرز عند محاولة فهم التأويل لإنتاج نص يكون هو الآخر موضوع تأويل جديد وهو ظهور الحاجة إلى استبدال بعض الألفاظ التي جاء استعمالها في نطاقات لغوية تقادمت عليها الأزمنة ؛ بألفاظ أخرى ذات دلالات مرادفة لها عصرياً أي أن تكون ضمن الحالة اللغوية التي تأسس فيها النص الأصلي وذلك بحسب فهم المتأول للنص أولاً ، حيث أن تلك العملية قد تصيب دلالة النص في مقتل إن لم يوفق المتأول في مهمته تلك ناهيك عن أن ذلك كله يُفترض معه درجة عالية من التجرد والحياد والإيجابية وهو أمر ليس سهلاً بالطبع نظراً لصعوبة انفلاته عن قبضة تراكماته المعرفية السابقة والأطر اللغوية القسرية مع تعدد مذاهبها في ذلك إلى جانب أنه يتعين معه استصحاب اعتبارات وظروف النص بهدف استنطاق المقاصد المستبطنة له، من ذلك مثلاً أن دخول الألف واللام على المفرد لا يكون إلا لاستغراق الجنس عند من يرى ذلك ولكنه قد يكون للعموم والشركة عند آخرين ، وقس على ذلك تقسيمات العلماء للألفاظ عموماً ، منهم على سبيل المثال الإمام الغزالي رحمه الله في محك نظره وقسطاسه المستقيم حيث يقسمها إلى أربعة أقسام هي المترادفة والمتباينة والمتواطئة والمشتركة وللإمام الغزالي في تقسيماته تلك بين موافق لرأيه ومخالف له، لذلك فإن مظنة الأمر هو منطلق فهم المؤلف في بناء النص ثم منطلق المتأول في فهمه لنص ما ألفه المؤلف وفقاً لفهمه لنفسه داخل نطاقات لغوية محددة لديه بل ونطاقات حقول علمية متباينة فمن يعالج النص تأويلياً بمشرط أهل الأصول والتفسير خلاف من يعالجه بمشرط أهل المنطق مثلاً وهذا اعتبار هام لا يجب إغفاله ، فالمتأول يعيد إنتاج نص المؤلف وفقاً لفهمه هو ثم هذا الإنتاج يصبح لدى الآخر موضوعاً للفهم والتأويل وفقاً لذات القواعد والاعتبارات المشار لها آنفا ، وغياب الوعي الدقيق بكل ذلك قد يصبح سبباً في سوء الفهم وتفرق المعاني الحقيقية وسط ضجيج الخلاف.
هذا القدر من التعقيد الذي قد نلمسه في تداخل أدوات واعتبارات المهمة التأويلية إنما هو نابع من ارتباط التأويل غالباً بقضايا ذات بُعد تنظيري تؤسس للمهتمين مسارات نظر حيوية ربما تكون طويلة المدى عميقة الأثر إن هي على المستوى الديني – اللاهوتي- حيث ولادة المصطلح، ومن ثم اتساع نطاقه ليشمل مستويات أخرى كالأدبي والسياسي والقانوني والاجتماعي والتاريخي والفلسفي، وغالباً ما يكون ذلك ضمن نطاقات نصوص لا يكون من السهل تفكيك دلالاتها ، ذلك أن الأصل أن يبقى القاريء في حالة متجانسة مع النص ولا يلجأ للتأويل إلا عند تعثره في مسالك النص ووعورة دلالاته لتصبح المهمة التأويلية هي محاولة تكييف دلالات النص الذي تشكل ضمن منظومة معرفية وتراكم تراثي سابق ليعود متناغماً مع الواقع الحامل لمنظومة معرفية جديدة هي اليوم في طور متجدد عن ذلك الطور الحاضن للنص الأصلي .
لم تعد مهمة الهرمينوطيقا مختزلة في ملاحقة المعاني الأصلية للنصوص واستنطاق دلالاتها بقدر ما تجاوزتها إلى التحقيق في أثر تلك المعاني على المتلقي لها وهو الهدف ذاته الذي تنشده الأنشطة التأويلية للنصوص الدينية لدى علماء الإسلام على وجه الخصوص حين ظلت تلك الأنشطة التأويلية حتى عهد قريب مقتصرة على النصوص الدينية بشكل كبير إلى جانب بعض النصوص الأدبية وهو أمر يعكس كون المجتمع المسلم مجتمع عقدي في الأساس قائم على القواعد والكليات التي يؤسسها النص الديني المقدس ويظهر ذلك جلياً في أن معظم التشريعات الإنسانية إنما هي مستوحاة قبل كل شيء من النص الديني ، ومتى صير إلى تجاوز هذه الدائرة فلا يكون ذلك إلا من خلال تأويل هذا الخارج بكونه من مسائل الرأي التي يصح فيها الخلاف وبالتالي التعاطي معه في سياق الدائرة الدينية ذاتها بتوسيع نطاقها لذلك فإن الأنشطة التأويلية الإسلامية يمكن القول بأنها ظلت وفية حقاً للهرمينوطيقا في بقاء اتصالها بأصل المنشأ لولادة المصطلح في الوقت الذي تجاوزت فيه الهرمينوطيقا لدى الآخرين مساحتها الأصلية لتشمل كافة العلوم الإنسانية .

الثالث والستون ثقافة وفكر

عن الكاتب

خالد بن سعيد الكندي

كاتب عماني