فتح عينيه بتثاقل شديد فوجد الساعة أمامه قد مدت عقربها المتين إلى السابعة، راوده شعور هزيل بالندم لإفراطه في السهر لساعة متأخرة من الليل، ثم النوم حتى هذه الساعة المتأخرة من الصباح، وثب من فراشه مسرعاً وسقطت بطانيته تحت السرير، فداس عليها وأكمل طريقه ليستحمّ ويعدّ عدته للانطلاق. كان موعد محاضرته يبدأ في التاسعة، وكان يفترض أن يحضر للقاعة قبل ساعتين، لا ليضمن تسجيل اسمه بين الحضور، أو ليحجز مقعداً أمامياً، بل لأنه هو من سيلقي المحاضرة، ومن ثمّ فإنه من البديهي أن يحتاج إلى تجهيز أوراقه وأجهزته ومادته التي سيعرضها لهؤلاء القوم الذين يأكلهم الفضول والشغف ليعرفوا ما يعنيه عنوان المحاضرة: ” سر البرمجة السلوكية”. حينما انطلق بسيارته، رن هاتفه فالتقطه ورد عليه ليبرر للمنظمين تأخره عن الحضور، ويخبرهم أن ظرفاً طارئاً قد ألمّ بصحة صديقه، وأنه اضطر للتوقف عنده وإيصاله للمستشفى، ونثر على هذه الحكاية الإنشائية بعض التفاصيل الضرورية، ثم سردها بصوت ممثل بارع حتى استوثق تصديقهم له، بل وتأثرهم بعذره، وهو يزيد في أثناء اتصاله السرعة حتى يتجاوز ضعف الحد المسموح، ويصل إلى قرب دوار مزدحم، فيضطر إلى أن يهدئ سرعته حتى يقف تماماً، ثم يتحرك لأمتار ويقف، ويفعل هذا مجدداً وباستمرار..، وشعوره أثناء ذلك كمن يدفع جبلاً ثقيلاً بيديه فهو يهتف ويصرخ ويسلط بوق سيارته على السيارات المجاورة حيناً، وعلى المارّة أحياناً أخرى، ولما أعيته الحيلة وضاق به الطريق، رأى أن الانتظار على تلك الحالة سيضر بمصلحته، فأقدم بجنون على تجاوز السيارات من اليمين، فعبر نصف الازدحام في عجب الناس ودهشتهم لجرأته على نظام المرور وتعريض نفسه والآخرين لمخاطرات صبيانية لا مبرر لها، وهو أثناء ذلك يتمتم بالشتائم على من يحذره أو ينذره، حتى إذا بلغ آخر الازدحام أقحم نفسه بين السيارات وحمل سيارته على أقصى ما تحتمل من السرعة، وانطلق يسابق الريح! بعد مسير متواصل رأى أن يقف ليملأ خزان سيارته بالوقود، ولما كان يستدير للمحطة ناظراً بعينه اليمنى، كانت عينه اليسرى تتصفح رسائل بريده المتراكم، فهنا رسالة جديدة من شبكة إلكترونية كان قد وعد أن يقدم لها دورة مدفوعة، وهي تنتظر التفاصيل منذ ما يقارب الشهر، وتعدم جواباً أو تفسيراً لتجاهل صاحب الوعد الذي وضعهم في موقف محرج أمام زوارهم وعملائهم، ورسالة أخرى من متابعين له يحيّونه ويسألونه عن نشاطاته فيقرأ بعضها سريعاً ثم يكبس رمز سلة المهملات لترتمي رسائل متابعيه المتراكمة إلى مقبرة البريد، ولما رمى أحد ركاب الحافلة التي تتقدمه منديلاً ورقياً من النافذة، حملق به بنظرة احتقار وكراهية وقال: أي عالم هذا الذي أصبح البشر فيه لا يلقون بالاً لجمال وطنهم، وصفاء طبيعته، ونظافة أراضيه وطرقاته، إن هذا الذي رمى المنديل في الشارع بلا مبالاة قد بصق على وجه وطنه، إنه قد أجرم في حق الطريق وسالكيه، وفي حق الأرض وساكنيها، وفي حق الذوق والأخلاق! لقد كان الرجل يتحدث بصدق ظاهر، وبإيمان بما يقول، لكن إذا كان مؤمناً حقاً بما يقول فلماذا يرتكب نفس الفعل حين ينسى نفسه في بعض الأحيان!، لماذا اعتاد أن يفتح نافذة سيارته فيرمي مخلفاته أسفل حاوية القمامة لا داخلها، أليس في ذلك أذية للذوق العام؟ سخرية الأمر أن الناس يوزعون الأحكام القاسية الشديدة على من يمرّ بهم، في حين أنهم يغضّون الطرف تماماً عما يرتكبونه، فلا يجدون في أي شيء يفعلونه تلك المصيبة التي يجدونها في أفعال الآخرين! وصل صاحبنا إلى قاعة المحاضرة حيث امتلأت بالحضور، وقفز إلى المنصة، فحيّا الحضور وأخذ يفسر معنى عنوانه الغامض ويخبرهم أن “سرّ البرمجية السلوكية” هو مرونة الإنسان في حياته، وأن الصالح الناجح هو من يسير مجريات الحياة لصالحه، لا من تستفزه الحياة وتسرق منه سعادة يومه وسكينة باله، وأن السلوك الإنساني عالم واسع يتوصل إليه بقواعد معلومة، وأن الخطوة الأولى هي أن يضع كل واحد منهم يده على صدره ويعاهد نفسه على أن يبدأ بها، فيغير نظرته للعالم ويغير أولوياته من إصلاح الناس إلى إصلاح ذاته، وأخذ يلقنهم ويعلمهم قواعد هذا الفن العجيب متخيرّاً أقرب القصص والصور، وضارباً بنفسه أسمى الأمثلة وأرفعها، و فاقد الشيء قد يعطيه إذا كانت بضاعته من كلام!
سر البرمجة السلوكية
سخرية الأمر أن الناس يوزعون الأحكام القاسية الشديدة على من يمرّ بهم، في حين أنهم يغضّون الطرف تماماً عما يرتكبونه، فلا يجدون في أي شيء يفعلونه تلك المصيبة التي يجدونها في أفعال الآخرين! وصل صاحبنا إلى قاعة المحاضرة حيث امتلأت بالحضور، وقفز إلى المنصة، فحيّا الحضور وأخذ يفسر معنى عنوانه الغامض ويخبرهم أن “سرّ البرمجية السلوكية” هو مرونة الإنسان في حياته