دجل الخمس نجوم

كتب بواسطة هدى حمد

يتمشى الدجل اليوم في فنادق الخمس نجوم، ويختبئ وراء الدشاديش المكوية، والأناقة الباذخة، يكبرُ الدجل في المكاتب النظيفة والمُعطرة، في الكلمات الرنانة والوعود السحرية لحل المشكلات “العويصة” التي تستعصي حتى على أصحاب الشهادات والتخصصات الجامعية. يتحدثُ الدجل اليوم بلباقة هائلة عبر أضواء شاشة التلفاز، أو من خلف ميكروفونات الإذاعة، وقد يتحول إلى فيلسوف بارع بين أسطر الصحف.

يتمشى الدجل اليوم في فنادق الخمس نجوم، ويختبئ وراء الدشاديش المكوية، والأناقة الباذخة، يكبرُ الدجل في المكاتب النظيفة والمُعطرة، في الكلمات الرنانة والوعود السحرية لحل المشكلات “العويصة” التي تستعصي حتى على أصحاب الشهادات والتخصصات الجامعية. يتحدثُ الدجل اليوم بلباقة هائلة عبر أضواء شاشة التلفاز، أو من خلف ميكروفونات الإذاعة، وقد يتحول إلى فيلسوف بارع بين أسطر الصحف.
يتمكنُ الدجل بقدرة قادر من إخراج الإخطبوط الذي يرقد بداخلك، ويهبُ المرأة القدرة على السيطرة على زوجها في أسبوع واحد، كما يُمكنها من تفجير طاقاتها الخفية، لتعثر بسهولة على بوصلة آدم المفقودة منذ مئات السنين، ولك أن تتصور قدرتك على حفظ القرآن في أسبوع واحد، أو تلك المنفعة الكبرى عندما يجعلك الدجل تقرأ خمسين كتابا في يومين أو ثلاثة!
يُخاطب الدجل الناس، والنساء بصورة خاصة، بلغة العاطفة، فيخدر وجعها، ولا يتجرأ أبدا على مخاطبة العقل. الأمر يبدو تماما كذلك “الكاراكتير” الساخر الذي يُصور لنا حمارا، يُغمضُ عينيه عن الحقيقة ليرى نفسه أسدا، “خلاص.. أنت الآن أسد”.
الدجل قد يكون بشهادة الاعدادية أو الثانوية، ومن ثم يأخذ دورة قصيرة فيصبح سعره بسعر الاستشاري بلغة السوق، فتجده اليوم مدربا وغدا مستشارا إداريا، ثم تربوي، وبعدها نفسي، وقد يصبح بقدرة قادر مستشارا في الهندسة البشرية، من دون أدنى احترام للتخصصات ودقة مُسمياتها!
تصل بعض الاستشارات، وخصوصا تلك التي تكون المرأة طرفا فيها، إلى التحرش والإيذاء والمواعدة في المزارع أو بالقرب من الشواطئ.. كيف لا، وهذا أحد السبل لإعطاء الحلول السحرية للمشاكل الأسرية الخاصة، وإن لم تُفلح الشهادات هاهنا، يصبحُ الغطاء الديني هو المطية الأسهل لركوب موجتها، وتخدير الطرف الآخر بها.
في السابق كانت وزارة الصناعة والتجارة هي التي تمنح التصاريح لهؤلاء الأشخاص، وربما كانت تتساهل معهم، فوجدنا العديد من المحاضرات والعناوين الجذابة، والعديد من المكاتب تُفتح هنا وهناك. وتساءلنا إن كان حصولهم على الترخيص يعني بالضرورة الثقة العمياء!
وعندما كثرت الشكاوي على هؤلاء المُدعين من قبل الناس، بين ضرر مادي وآخر جسدي، وجدت وزارة التنمية نفسها في الواجهة تماما، فأصدرت عام 2013 لائحة تنظيمية لمراكز الإرشاد والاستشارات الأسرية، ومن أهم شروط اللائحة: أن يكون المدرب أو الاستشاري حاصلا على درجة البكالوريوس في تخصصات الخدمة الاجتماعية أو الإرشاد النفسي أو علم النفس أو علم الاجتماع، وفي حال تمّ تقديم خدمة من خدمات الارشاد والاستشارات الأسرية من دون الحصول على ترخيص من الجهة المختصة يُحال إلى القضاء.
وكم من هؤلاء هم خارج هذا الشرط تماما، فتجده بلا شهادة تخصصية، يذهب إلى الخارج فيأخذ دورة، يظنها تكفي لإعماء البصيرة، كما يظنها تكفي لهضم علوم أنضجتها عقود من سنوات البحث الطويلة! وإلا فهل يعقل أن تكفي دورة لعدة أيام أو حتى لعدة أشهر، لحل مشاكل أسرية بالغة الالتباس والتعقيد.. من طلاق أو تحرش جنسي أو فتور عاطفي أو زنا محارم أو إدمان خمور ومخدرات، من الأكيد أنهم سيزيدون (الطين بلّة)، بل ربما يتعمدون المُماطلة في هذه الجلسات وتسويفها وتطويرها، لأن لكل جلسة ثمنها الخاص، فلا يكفي أن ترتبط هذه الشهادات بدول العالم الكبرى من مثل بريطانيا وامريكا وكندا، لكي تجد سوقا لها بيننا!

هنالك فئات هشة ومُتعبة من المجتمع، ترغبُ في كسر روتين حياتها، وحلّ مشكلاتها بذات السرعة التي تأكل فيها “الفاست فود”، فتدفع دم قلبها لتحظى بقليل من التغيير، أو لنقل لتتمسك بقشة أمل كاذبة، لذا ينبغي على الجهات المسؤولة أن تحمي المجتمع ممن ليسوا على علاقة جادة بموضوع الاستشارات الأسرية، وأن يرحمونا قليلا من عناوينهم البراقة التي لا تسمن ولا تغني من جوع، وعلى الإعلام أن يكون يقظا، فلا يسمح لبعض المرتزقة أن يتحولوا إلى نجوم وهم ليسوا إلا فقاعات بوعي سطحي، لا يمكنه أن يصمد أمام مشكلات المجتمع المُلتبسة والمُعقدة، وعلى المجتمع أيضا أن يرفع سقف وعيه قليلا وأن يتحرى جيدا تحت أي مشرط يضع أسرار حياته، وعلى وزارة التنمية الاجتماعية التي باتت في الواجهة تماما، أن تُقدم بدائلها الجيدة للناس، وأن تُعمل شروط لائحتها، فلا تُبقي إلا على الأكفاء منهم.

الرابع والستون ثقافة وفكر

عن الكاتب

هدى حمد

كاتبة عمانية