نحو خيار من أجل الوطن

كتب بواسطة حمد الغيثي

إنَّ أحداث صحار في فبراير ٢٠١١ جاءت مخالفة لما كان يُقال عن العمانيين وطبيعتهم ومشاكلهم. إنَّ تلك النزعة الخرافية الكامنة لدى راسمي الخطاب الإعلامي الرسمي في تأطير الكائن العُماني بأنّه مسالم وطيب وساذج كانت خاطئة ومُضلِّلة. إطلاق النار على المتظاهرين وأساليب الاعتقال المهينة وإحراق المنشآت العامة والخاصة وازدراء التراتبيات القبلية كانت تشير إلى عُماني غير مألوف، إنسان لا يخلو من بربرية وميل إلى العنف، مثلما لا يخلو من نوازع خيِّرة.

يخبرنا التاريخ برسالة مفادها أنه حتى في الظروف القاسية، فإنَّ الانهيار ليس حتمياً، لكنه يعتمد على خيارات المجتمع.
جَيْرِد دايموند (بتصرف)

بدون أهدافٍ ومقاييس تقدمٍ، فإننا مسرفون وغير أخلاقيين وغير مباليين.
جورج تشيرش وإد رِجِس

نشرت بسمة مبارك سعيد في هذه المجلة مقالاً بعنوان “نحو خيار خامس من أجل الوطن”، أطروحته الرئيسة انقسام البلد إلى “سلطة وشعب”، وأنّ البلد “بحاجة إلى شراكة حقيقية متكافئة” تتمثّل في حوار وطني جامع بين المكونين. في المقابل، أعبّر هنا عن رؤية مختلفة تدعو لتبصّر أكبر في فهم طبيعة المشاكل التي نعاني منها، وإنّني أعتقد أنّ المشكلة الأهم تتمثلُ فيما أسميه “فقدان القيمة الحقيقية للأشياء”، ولكنني أتفق مع بسمة أن البلد سائرة إلى طريق مجهول إن لم يُوضع برنامج إصلاح حقيقي وطموح.

قبل حديثي في الشأن العماني العام أودُ التشديد على نقطتين مركزيتين في تصوري. الأولى: إنَّ المفاهيم السياسية التي نفكرُ بها حول البلد، كالدولة “والشعب” والمواطن، هي مفاهيم ناتجة عن بيئة وظروف الاجتماع السياسي الأوربي في القرنين الثامن والتاسع عشر، ولها جميعاً تطورٌ في سياقها الأصل أوصلها إلى تجلٍ معاصر، وأنّها، وهذا هو الأهم، تحملُ معنىً مختلفاً في سياقنا المحلي. فعلى سبيل المثال، للشعب في السياق الأوروبي هوية بارزة تشكلها روافدٌ واضحة، ويكون الشعب مصدراً للسلطات والتشريعات، وفيه يكون الفرد مواطناً ذي استقلالية محترمة وأهلية كاملة. في المقابل، يبدو لي أنَّ الكائن العماني لا ينظر لنفسه في الوعي الجمعي كفرد مواطن ضمن مجتمع، بل كجزء (وليس فرداً) من جماعة من الجماعات العمانية المتعددة. وإن كان للجماعات العمانية سماتاً ثابتة متوارثة، إلاَّ أنّ بعضها حديث النشأة وذي سمات وظيفية بحتة (يتحرك بيروقراطيو الدولة كجماعة واحدة في “مطالبهم العادلة” بشأن الترقيات الدورية والإجازات). في هذا التصور، لا يوجد “شعب”، فضلاً عن أن يكون مصدراً للسلطات والتشريعات (إحدى القضايا القليلة التي اتفق العرب على حلّها هو أنّ الشريعة، وليس الشعب، مصدر التشريع)، وبالتالي فعند حديثنا عن الدولة، فنحن لا نتحدث عن دولة حديثة -وإن بدت كذلك-. إنَّ المراقب للجدل المجتمعي الأخير حول إجازة عيد الأضحى باعتباره خطاباً اجتماعياً يلاحظ غياب مفهوميْ القانون والدولة عن ذلك الجدل، إذ يستند المطالبون على العادات والشرع في مطالباتهم التي ”يأملون” أن تستجيب لها “الحكومة”، ولا يشغل ذلك الخطابَ القوانينُ الناظمةُ للإجازات وآليات تغييرها (يوفر مقال سعيدة خاطر “إجازة العيد ين حانا ومانا” مثالاً لافتاً كون كاتبته عضوة مجلس الدولة). يدفعني ذلك للاعتقاد أن البناء السياسي الحديث غير متجذر في الوعي الجمعي، وأن هذا الوعي لا يعيشُ ذات الزمن الذي تعيشه الأجساد، ولابد أن يكون هذا في حسبان أي محاولة جادّة لفهم الشأن العماني المحلي.

ثانياً، يتسم حراك المجتمع، في مختلف مستوياته، بانفصال شديد عن المعطيات الاجتماعية والاقتصادية، وقد ترك ذلك أثراً كبيراً في سلوكيات البشر وتوقعاتهم. لقد بدأت هذه المرحلة مع بدء تدفق أموال النفط على مجتمع قبلي، الذي سيترك حرفه ومهنه المألوفة ليعمل في أجهزة الدولة المختلفة. بوصف آخر، تحوّل العماني إلى كائن بيروقراطي استهلاكي. لقد كان ذلك التحول سريعاً، ودون أن يصحبه إعادة بناء للأفكار الحاكمة لمعتقدات البشر وسلوكهم.

لكن الآثار الجانبية والغير مقصودة ضخمة ولا يُلتفت إليها عادة. مع مرور السنين، فشل المجتمع في تأسيس القيم التي تقوم عليها الاقتصادات والمجتمعات المعاصرة، وحلّت في المجتمع ثقافة استهلاكية سطحية مُسطِّحة تعززت بعد ٢٠١١. وعبر بَقْرَطَة “المواطن” واستجلاب العمالة الوافدة الرخيصة لتشغيل قطاع التجزئة وإدارة اقتصاد ريعي لم يعد هناك أي معنى لقيمة العمل ولا وُجد من ينادي بها. بذا اختفى أي معنى لوجود سوق أو اقتصاد تنافسي حقيقي، الذي بغيابه تفقد الأشياء قيمتها الحقيقية بمرور الوقت. فعلى سبيل المثال، يُباع كلٌ من الوقود والكهرباء والماء بأقل من قيمته الحقيقية، وتُدعم سلع كثيرة، ويحصلُ بيروقراطيو الدولة على رواتب دون أداء عمل منتج، ولا توجد ضوابط عملية لمراقبة أداء شاغلي الوظائف العامة ولا يُنتظر منهم تقديم خطة عمل. وكنتيجة لذلك، يفتقر كثير من العاملين للاحترافية فيما يقومون به، فهم إمّا غير قادرين أو غير راغبين (في هذا الإطار، ينبغي أخذ تصريحات مسؤول شركة الجزيرة للحديد على محمل الجد). لقد فقدت الأشياء قيمتها الحقيقية، أو أفرغت الأشياء من القيمة، وقد تحول ذلك لوضع قائم لكنه غير مستدام.

يهمني هنا أن أشير إلى الجانب الأخلاقي لهذه المرحلة. لقد تبارى المجتمع في استجلاب العمالة الرخيصة جداً كعاملات المنازل اللآتي قلما خلا منهن بيت عماني. هذه الأعمال التي “شرّعتها ونظّمتها” الدولة اقتضت أن تعمل هؤلاء العاملات أكثر من ٨ ساعات كل يوم من أيام الأسبوع، ولسنين طويلة، وبرواتب زهيدة. لم يسمح لهؤلاء العاملات التمتع بالعطل ولم توفر لهنّ حماية من الاستغلال (هل يوجد حقيقة أكبر من هذا الاستغلال؟!)، وبطبيعة الحال كان عليهن مفارقة عائلاتهن نظير فرصة العمل.

تكرر ذات الوضع مع عمالة المهن البسيطة في قطاع التجزئة والإنشاءات. قد يقضي “الهندي” سنوات عديدة في عمان نظير راتب زهيد، ودون أسرة، مشتركاً مع عمال كثر في سكن رث. لم تسبب تلك العبودية أرَقاً للقيم الرفيعة التي يؤمن بها المجتمع والتي تحرسها الدولة. وإنه لمنظر مألوف جداً أن يتحدث الوعاظ وخطباء الجُمع عن المساواة والعدالة الاجتماعية في الإسلام بينما أغلب المصلين هم من شبه القارة الهندية. لا يوجد انفصال عن الواقع أكبر من ذلك (يقبل المجتمع تماماً للعمالة الوافدة في الأجور والأحوال المعيشية ما لا يقبله لأبناءه، بل يتبارى أفراد المجتمع في الحصول على “مأذونيات العمل” كسبيل للكسب السهل السريع).

بدا الواقع العماني من الداخل كبوتقة لا صلة لما فيها بالخارج (أو هكذا بدا للناظر): اقتصاد ريعي، وقيم عمل غائبة، وممارسات غير أخلاقية تجاه المستضعفين، وإصرار على الجمود. كان ما يردده الجميع أن “الأمور طيبة”، وأنَّ البلد خلوٌ من المشاكل، وحتى إن وُجِدت مشاكل -لا قدَّر الله- فهي عرضية، و”للمجتهد المخطئ أجر الاجتهاد”. وصار بالإمكان رصد خطاب البيروقراطية العمانية في تصريحات غير البيروقراطيين مثل الفنيين وأكاديميِّ جامعة السلطان قابوس وحتّى طلبة الجامعات وطلبة المدارس (رصدت رواية “سفينة الحمقى” لحسين العبري باقتدار صوراً لطرق تفكير وعمل المجتمع).

لكن كان واضحاً، أنَّ الأمور لم تكن طيبة، وأنّ المشاكل تفرز مشاكلَ أخرى مع الوقت. لقد كانت البيروقراطية في أحسن أحوالها عديمة الكفاءة وقصيرة النظر (فشل خطة عمان ٢٠٢٠، وتجميد أقسام الفلسفة والآثار والفنون المسرحية في جامعة السلطان قابوس) وفي أسوئها فاسدة، وكانت في جميع الأحوال غير قادرة على التحرك إزاء المآزق التي تعيشها البلد والمنطقة، وعن التحرك مع الوجهة التي يسير إليها العالم. كان فعلها هو عدم الفعل وعدم الحركة، وذلك أسوء خيار.

غير أنّه قد صدرت تصريحات لافتة تستشعر سوء الوضع القائم وتحاول الحل. لقد دعا جلالة السلطان قابوس في خطابه لمجلس عمان عام ٢٠٠٨ إلى محاربة الفساد والتربح بالوظيفة الحكومية وإلى تسهيل الإجراءات البيروقراطية. واعترف معالي يوسف بن علوي في حديث مع جمعية الصحفيين العمانيين عام ٢٠١٣ بترهل أجهزة الدولة وعدم كفاءتها. لكن لم تتجه الأمور نحو التغيّر. إنّ النقد الجزئي المركز على قضايا معيّنة، كالفساد والترهل الإداري، غير مجدي، لأن المشكلة بنيوية عامّة، والوضع القائم، في عمقه، ليس إلاَّ تجلياً لتلك الحالة السائلة الغير قادرة على حسم وجهة البلد: ماذا نريد؟ وكيف؟

ما الحل؟
مستشعرة الأزمة المكتومة التي تعيشها البلد، كتبت بسمة سعيد مبارك مقال رأي تُعبِّر فيه عن رأيها حول الخيارات المطروحة أمام المهتم بالشأن العام. إنّها أربع خيارات، تتلخصُ في الصمت إزاء “السلطة” أو التحرك في حدود المتاح أو التحالف معها أو الاصطدام بها. لكنها جميعاً خيارات سيئة حسب بسمة، وهي خيارات ستؤدي إلى غرق السفينة بركابها. لكن بسمة تقترح خياراً خامساً وهو الحاجة إلى “وجود شراكة حقيقية متكافئة بين السلطة والشعب، إلى حوار وطني صريح وطويل ومفتوح تطرح فيه جميع أسئلة الحاضر الصعبة والمؤلمة، ونرسم فيه معاً خارطة طريق نحو المستقبل بخطى واثقة مطمئنة” (لا بد من الالتفات إلى أنّ بسمة استخدمت لفظ “سُلطة”، وهو لا يشير إلى مؤسسة قائمة، بل إلى علاقات قوة مُبهمة، وهذه اللفظة تدفعني للتساؤل عن العصر الزمني الذي يعيشه المجتمع العماني في ذهن بسمة، وما إن كانت بسمة واعية لذلك).

تبدو دعوة بسمة بديهية ومألوفة. إنَّ تلك الدعوة صدى للعريضة المطالبة بدستور تعاقدي للبلاد عام ٢٠٠٩، وهي عريضة وُجِّهت لجلالة السلطان. لقد جاء في بيان العريضة: “ندعو جلالتكم، بشفافية المحكوم أمامَ الحاكم، إلى اتخاذ هذه الخطوة الهامة والحاسمة في تاريخ ومسيرة بلادنا؛ وذلك بتشكيل لجنة مستقلة مهتمها صياغة دستور للبلاد، قوامه الشراكة والتعاقد بين الشعب وبين الأسرة الحاكمة وعلى مبدأ المصلحة المشتركة”. لقد كانت العريضة استشعاراً للمشكلة، و”اجتهدت” في تقديم حل.

غير أنّ كلا من بسمة وعريضة الدستور التعاقدي تقفزان على الأطر القانونية والسياسية القائمة في عمان، تتجاهلان وجود مجلسيْ الشورى والدولة (لا يعني هذا رضىً بالدور القائم للمجلسين) ولا تبنيان عليهما. وبينما تُحددُ العريضة أن الحوار يجب أن يكون مع الأسرة الحاكمة، إلاَّ أنَّ بسمة لا تُحدد من هي السلطة التي يجب الحوار معها. أهي مجلس الوزراء (الذي تغيّر كثيراً منذ ٢٠١١)؟ أهي الأسرة الحاكمة (التي طالب عمار المعمري في “حوار الخليج” في سبتمبر ٢٠١١ أن تتسَّلم مسؤوليات أكثر)؟ أهي الأجهزة الأمنية (الراصدة لما يجري لكنها لا تملك رسم السياسات (يبدو أنَّ كثيراً من السياسات لا تُرسم وإنما تكون ردة فعل آنية))؟ من هي السلطة التي يجب أن يُحاورها الشعب؟

وبالطبع، من هو الشعب؟ (هذا سؤال جادٌ جداً) ومن يختارُ ممثليه؟ لا يوفر مقال بسمة إجابات لهذه الأسئلة.

هناك مأخذ آخر على مقال بسمة. يقوم المقال على رؤية ثنائية، على وجود السلطة والشعب، وكأن لكل منهما كينونة مستقلة واضحة، وكأنه يمكن التفريق بينهما بخط ترسمه مسطرة. تلك الرؤية الثنائية شائعة في الأدبيات العربية المعاصرة، وتتجلّى في روايات جورج أوريل كحديقة الحيوان و١٩٨٤. لكنَّ مشكلة هذه رؤية أنَّها تختزل التعقيد في تبسيط مخل، ولا تعتني بأهمية الماضي (الذي لم يمض).
.

إنَّ أحداث صحار في فبراير ٢٠١١ جاءت مخالفة لما كان يُقال عن العمانيين وطبيعتهم ومشاكلهم. إنَّ تلك النزعة الخرافية الكامنة لدى راسمي الخطاب الإعلامي الرسمي في تأطير الكائن العُماني بأنّه مسالم وطيب وساذج كانت خاطئة ومُضلِّلة. إطلاق النار على المتظاهرين وأساليب الاعتقال المهينة وإحراق المنشآت العامة والخاصة وازدراء التراتبيات القبلية كانت تشير إلى عُماني غير مألوف، إنسان لا يخلو من بربرية وميل إلى العنف، مثلما لا يخلو من نوازع خيِّرة. لقد منحت تلك الأحداث دروساً كثيرة لمن أراد أن يلاحظ. أهمها، أولوية الابتعاد عن المفاهيم والأطر الفكرية الجاهزة عند التفكير حول الوضع الراهن، وأننا نحتاج لمؤسسات بحثية ترصد التحولات وتدرسها، وأننا يجب أن نبتعد عن البروباجاندا الغبية والمُضلّلة (أحد تجلياتها هي مقولة الإعلامي موسى الفرعي أنّ “عمان هي مركز الكون”! يا حسرة، فدروس الجغرافيا والفلك والتاريخ لم تُعلّمنا الكثير).

تمرُ منطقتنا بأحداث جسام منذ “الربيع العربي”، إنَّها أحداث تعيد طرح أسئلة لم تحسمها “الشعوب العربية“ سابقاً، أسئلة في صميم هوية هذه الجماعات\المجتمعات ووجهتها. إنَّ هذا الانفجار العظيم، وإن كان مفاجئاً، إلاَّ أنه طبيعي نتيجة لانسداد آفاق التطور الطبيعي في هذه الدول. وبذلك لا ينبغي الاطمئنان إلى أنَّ مجمل هذه الأحداث قد انتهى. لعلّنا مقبلون على تفسّخات اجتماعية وسياسية أخرى في الإقليم. لقد أثبتت الأحداث الماضية في عُمان أننا معرضون لما يحدث، لكن السؤال هل نحن محصنون من التفاعلات القادمة؟ إجابتي: لا. لكن ما العمل؟

أعتقد أننا سنكون في بداية الطريق الصحيح إن بدأنا جميعاً في النزول إلى الواقع بمعطياته، وشرعنا في تقييم الأشياء بقيمتها الحقيقية. من هنا سأقترح حزمة من التوجهات التي أراها ضرورية.

1. تعليم عصري ذو جودة عالمية وإيجاد نظام كفء للتأهيل المهني: التعليم هو قضيتنا الوجودية الأهم، وذلك لسببين. الأول، أنه يهيئ الشباب لسوق عمل عالمي يتطلب مهارات متنوعة. ثانياً، يوفر التعليم العصري، العالمي المستوى، الطريقَ الأهم في تغيير المعتقدات والأفكار الماضوية الشائعة في ثقافتنا ومنطقتنا، ويقدم بدلاً عنها قيماً عالمية ومنطقاً علمياً في التفكير. وفقط عبر هذا التلاقي الصادق مع الحضارة المعاصرة يمكننا أن نحيي لغتنا ونطوّر من ثقافتنا ورؤيتنا لأنفسنا ولغيرنا في التاريخ والحاضر. لا يتم ذلك إلاَّ بأخذ التعليم على محمل الجد. إنّ الوضع الراهن لقطاع التعليم في عُمان، بشقيه، لا يبشر بخير قادم، حيث يسجل مستويات متدنية في مجموعة من المؤشرات العالمية. وتقوم خطابات بعض الفاعلين الدينين والاجتماعين في عمان على أوهام وخرافات كثيرة، وينبئ عن فقر معرفي يمكن رد جزء كبير منه إلى تعليم ضحل.
2. ترشيق الجهاز البيروقراطي للدولة: ينبغي إصلاح الجهاز الإداري للدولة بشكل جذري، وتسهيل إجراءاته، ومنح وحداته استقلالية أكبر في تقرير هياكلها الإدارية، وينبغي أن تسيّره قيادات شابة، وأن يعمل بأقل قوة بشرية ممكنة، تشكل النساء جزءها الأكبر (تقديم الوظائف السهلة بَدَنِياً للنساء، كالوظائف المكتبية، يخدم الأسرة العمانية، بينما يُوفَّر الرجال للعمل في القطاع الخاص).
3. منح الأشياء قيمتها الحقيقية: ينبغي أن تقدم الخدمات والسلع بسعر السوق، ولابد من تحرير سوق العمل عبر تحرير العمالة الوافدة من نظام الكفالة وتقليص حجمها بشكل كبير. وينبغي توسيع النظام الضريبي للدولة، وفرض ضريبة على المبيعات وأخرى على الرفاهية، ومستقبلاً ضريبة دخل على الأفراد، وينبغي إصلاح أنظمة التقاعد ورفع سنّه. في المقابل، ينبغي أن يوضع حد أدنى لدخل الأسرة العمانية تُدعم إن نزل دخلها عنه، وينبغي تقديم دعم مالي العاطلين عن العمل. ستؤدي هذه السياسات إلى تغيرات كبيرة في الذهنية العامة وفي أنماط الاستهلاك، وسترسخ من الإحساس بالمشاركة، وستقدح في المجتمع مبدأ التنافسية. وبالطبع ستعززُ هذه السياسات خزينة الدولة، وستزيد من دورة المال في الاقتصاد، وتزيد من المساواة الاجتماعية.
4. آليات الرقابة والمتابعة: كمقابل للضرائب وتقليص الوظائف، ينبغي أن يتمتع مجلسا الشورى والدولة بسلطة تشريعية على سوق العمل ورقابة مالية تامة على المشاريع التي ينفذها القطاع العام، وينبغي أن يساهم المجلسان في رسم السياسات المحلية التي تنفذها المؤسسات العامة. وبالمثل، لابد من منظمات تراقب عمل أعضاء المجلسين وتقيّمه. وينبغي الشروع في تأهيل الصحافة العمانية لتكون صحافة استقصائية لا تقريرية. ولا بد من تحديث القضاء وتأهيل أفراده.
5. السياسة الثقافية: ينبغي أن تجيب السياسة الثقافية، بوضوح، عن ماهية محددات هويّة البلد، وينبغي أن تملأ الفراغ الذي سيخلّفه تراجع بعض المعتقدات والأفكار بفعل التعليم العصري. لا بد لأي سياسة ثقافية واضحة ونشطة من أن تنطلق من جغرافية عُمان وتاريخها القائم على ركيزتين كبريين، هما تميّز الهوية والانفتاح على أمم المحيط الهندي التي شكّلت منذ آلاف السنين المجال الطبيعي والحضاري لعُمان. لابد لهذه السياسة أن تعمل عبر أدواتٍ عدة على إذابة الهويات الجماعاتية المحلية في مفهوم “الأمة العمانية”، الذي ينبغي أن ينفتح على الأقوام المكونة للإمبراطورية العمانية السابقة (كوّن العمانيون الإمبراطورية العربية الوحيدة خلال القرون الماضية، وتتميز عمان عن جيرانها بعوامل هوية وتاريخ ضارب في القدم). لذا ينبغي دعم إنشاء مراكز الأبحاث الثقافية ودور النشر وصناع الأفلام والموسيقى والمسرحيين والكُتَّاب والشعراء وغيرهم. إنَّ البناء الثقافي للفرد العماني، الذي يجعله متصلاً بتاريخه وهويته الحضارية، سيكون رافداً للوحدة الوطنية في مقابل هويات إقليمية مشظّاة.
6. الإصلاح الاجتماعي والديني: على النظام القائم أن يُوجدَ بيئة تشريعيّة تسمح بالدينامية وتشجعها، أي تسمح بالحراك العلني للتغيير في المجالين الاجتماعي والديني. إنَّ الأنظمة الناجحة هي الأنظمة المرنة القادرة على استيعاب تأثرنا بحركة العالم.

إنَّ تطبيق هذه البنود سيغيرّنا كثيراً، لكنّ التغيير قادمٌ لا محالة. السؤال هل سيكون بيدنا أم بيد غيرنا؟ وهل سيكون إضافة على بناء قائم أم بدءاً جديداً (أو قد يكون هدماً محضاً)؟ وهل سيكون لمافيه خير البلد أم شرها؟

ختاماً، يجب علينا كعمانيين إدراك شيئيْن. الأول، أنَّ أيام الدعة واللهو قد ولّت، وأنّ القادم سيكون أصعب مما مضى. الثاني، أنَّه بيد جيلنا أن يُقرر أيَّ تاريخ يترك للأجيال القادمة. في هذه اللحظة، نحن لسنا الماضي، ولسنا الحاضر ولا نمضي باتجاه المستقبل. إنّنا نعيش حالة هلامية، لكنها قابلة للتشكل، وما أخشاه أنها ستكون شكلاً مشوهاً من الماضي بينما يمضي العالم إلى المستقبل.

الرابع والعشرون سياسة

عن الكاتب

حمد الغيثي

كاتب عماني