اكتشاف أثر مسجد اختفى في محافظة ظفار

مسجد الشيخ عفيف في خور روري - تصوير الكاتب

( ولو أن الناس فقهوا أمر دينهم و استبصروا بوحي ربهم سبحانه وتعالى لكان الواقع غير ما نرى وما نشاهد ، ولأدى الأمر إلى ترابط هذه الأمة وتعاونها جميعاً على البر والتقوى ، وخروجها من المأزق الذي لا تزال تعاني فيه ما تعاني (

سماحة العلامة الشيخ احمد بن حمد الخليلي مفتي عام السلطنة و نائب رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

( ان المؤرخ هو الذي يرى في التاريخ ليس مجرد المجرى الخارجي للأحداث بل يسعى بدلاً من ذلك لرؤية روحه، وهو وحده الذي يستطيع أن يكتشف الروح الكامنة وراء أحجبتها وأقنعتها)

المؤرخ و المفكر الألماني جوهان هردر (1744-1803)

أولا أنا لست مؤرخا لكني بلا شك من هواة التاريخ و الخفايا التاريخية و الأثارية و ثانيا اكتشاف مسجد اثري ليس مفاجأة كما هو الانطباع السائد. لكن دعونا نبدأ من البداية حتى نعرف لماذا المفاجأة. اعتقد أنني منذ كنت في الصف الأول إعدادي( لا تنسوا أني كنت حينها ابن 16 سنة لان مدرسة طاقة افتتحت في عهد جلالة السلطان قابوس حفظه الله و رعاه و أنا ابن تسع و قد بدأنا من الثاني ابتدائي) كنت من وقت إلى آخر امشي إلى موقع آثار سمهرم عند خور روري 5 كيلومترات شرق مدينة طاقة ابحث عن مسجد!

نقش بوابة سمهرم

نقش بوابة سمهرم

اذكر في ثاني زيارة لي للموقع اصطحبت دفترا و قلم رصاص فنقلت نص المسند المنقوش على حجارة باب المستوطنة الأثرية التي يعود تاريخها إلى القرن الأول قبل الميلاد أي نحو عام 100 ق.م (انظر صورة هذا النقش) و ذلك حسب تقديرات البعثة الايطالية إلى عمانItalian Mission to Oman (IMTO) التابعة لجامعة بيسا Università di Pisa التي تجري تنقيبات هنا منذ عام 1994 إلى الآن. رجعت إلى البيت و حولت النص إلى العربية مستخدما أبجدية خط المسند. طبعا النص مكتوب بلغة حضرمية قديمة (احد اللغات الجنوبية العربية القديمة) لكن الكلمات التالية كانت واضحة بعد التحويل: الملك إلعاظ يالوط ، ذمار علي، شبوه، ارض سخلن (اسم محافظة ظفار في العصور الكلاسيكية). لم أكن اعلم حينها انه قد تمت ترجمة هذا النص لأول مرة عام 1962 بواسطة فقيه اللغات الأمريكي البرايت F. Albright الذي كان ضمن أول بعثة نقبت الموقع،بعثة المؤسسة الأمريكية لدراسة الإنسان AFSM التي كان يرأسها آنذاك الراحل وندل فلبس الذي اتخذه السلطان سعيد بن تيمور رحمه الله مستشارا اقتصاديا له منذ عام 1952 (1). النص نفسه ترجم مرة أخرى ترجمة مختلفة قليلا بواسطة فقيهة اللغات الفرنسية بيرين J.Pirenne و نشرت هذه الترجمة لأول مرة عام 1975 في العدد الأول من مجلة الدراسات العمانية Journal of Oman Studies التي تصدرها وزارة التراث و الثقافة باللغتين العربية و الانجليزية، كما نشر فقيه اللغات البريطاني الراحل بيستون A.F.L Beeston في العدد الثاني 1976 من المجلة نفسها تعقيبا على ترجمة بيرين (2). الجميع متفقون على ان اسم هذا الأثر إما سمهرم أو سمرم لكنهم مختلفون حول معنى هذا الاسم. الباحث العماني عبدالمنعم البحر الرواس يميل إلى القول بان اسم المدينة هو سام أرم.

خور روري أكبر بحيرة عذبة في الجزيرة العربية

خور روري أكبر بحيرة عذبة في الجزيرة العربية

دورية الدراسات العمانية

دورية الدراسات العمانية

لكن لا اثر لأي مسجد. جلت في منطقة الخور كلها مرارا و تكرارا( انظر صورة الخور) سنين بعد سنين و لكن لا اثر لأي مسجد.

و لماذا يا ترى كنت أبحث عن مسجد؟ الجواب ان والدي الراحل قد ذكر لي مرات عدة ان الشيخ العفيف صاحب طاقه كان ينقطع إلى العبادة في مسجد عند خور روري. الشيخ العفيف هو الشيخ العفيف بن سعد بن الشيخ عيسى الذي توفي عام 1009 هجرية الموافق 1600 ميلادية. و العفيف هو لقب جد له لقب بالعفيف لأنه تعفف عن (القبولة) إلى الدين (3). و لقد سكن الشيخ العفيف رحمه الله طاقة القديمة ( آثارها حاليا غرب خور طاقة) و كانت مدينة علم مزدهرة آخر علماؤها قبل الغزو البرتغالي الغاشم لسواحل الجزيرة العربية كان جده. و ما زال مسجد الشيخ عيسى قائم إلى يومنا هذا داخل سور مقبرة الشيخ عيسى غرب طاقة الحالية(4. و قد أسس الشيخ العفيف على التقوى المسجد الحالي الذي يحمل اسمه في القرن العاشر الهجري و أقام به رباط علم و ذلك بما لا يقل عن ثمان سنين قبل وفاته لأنه يوجد مخطوط يشير إلى حضرة (حلقة للإنشاد الديني في المسجد) أقيمت في هذا المسجد الحالي في طاقه سنة 1001 هجرية الموافق 1592  ميلادية فيكون المسجد قد بني قبل هذا التاريخ.

لكن لا اثر لمسجد في خور روري طيلة هذه السنوات كلها حتى…

أخيرا أعلنت البعثة الايطالية إلى عمان عن إماطة الركام عن آثار مسجد صغير على ضفة اللسان الشرقي للخور تعود آخر مراحل بنائه إلى القرن العاشر الهجري (1490 ميلادية) في حين تعود المرحلة الأولى إلى فترة إسلامية أقدم ربما القرن التاسع الهجري على الأرجح (1390ميلادية). و أبان المكتشفان جريماتشي M. Cremaschi و بيريجو A. Perego قاعدتي عمودين من الحجر و محراب صغير و الجدر. كما رأي هذا الكاتب ثلاث رقادات حجرية تنزل إلى ماء اللسان من اجل الوضوء أو الاغتراف (انظر صورة آثار المسجد المكتشف ، من تصوير الكاتب) (5).

مسجد الشيخ عفيف في خور روري - تصوير الكاتب

مسجد الشيخ عفيف في خور روري – تصوير الكاتب

السؤال الآن هو من أين عرف والدي الراحل رحمه الله (الذي ولد عام 1918) بأن هناك مسجدا في خور روري كان ينقطع إليه الشيخ العفيف صاحب طاقة للعبادة (الذي توفى عام 1600)؟

لا شك ان هذا التاريخ انتقل بالسماع من جيل إلى الذي يليه بسبب شهرة الرجل فالشيخ العفيف صاحب طاقة فقيه شافعي معروف و من أعلام السلوك و التصوف في جنوب الجزيرة العربية في القرن التاسع الهجري و إلا ما حصل له لقب (صاحب طاقة) لولا اجتماع هذه الصفات فيه مثلما لقبوا الشيخ محمد بن علي باعلوي (بن علي ) بصاحب مرباط ( توفى 1161 م). فأرباب السلوك و التصوف في جنوب الجزيرة العربية لا يطلقون بادئة (صاحب) في اللقب إلا على من شهد له بأنه من السالكين إلى الله لأنه لا حاكم يسميه و لا لجنة رسمية ترشحه لحمل هذا اللقب الرفيع الذي ليس له أية علاقة بمعنى انه صاحب المكان الذي يملكه. لكن لا شك انه صاحب طاقه من حيث الشهرة الروحية و صاحب طاقه من حيث مكانته في قلوب أهلها من كل القبائل و الأسر و الفخائذ عبر أربعة قرون و هذه المكانة مستمرة و ستستمر من بعدنا لان مشائخنا في الدين لا يموت ذكرهم. و لأجل هذا اقتبست أعلاه مقالة سماحة الشيخ احمد نفعنا الله و المسلمين بعلمه للـتأكيد على أن أي احتجاج على اللقب (صاحب طاقة) ما هو في حقيقته إلا تعصب بغيض ينافي صميم الرسالة الإسلامية و يعكس عقلية اقصائية لا تؤدي إلى الترابط و التعاون.

توضأت من ماء قنينة كانت بحوزتي في السيارة عندما أشرفت الشمس على الغروب.و عندما غربت دخلت المسجد الذي لا يزيد ارتفاع بقايا جدره على نصف متر . و ما إن كبرت للصلاة حتى سرت من قلبي إلى جسمي قشعريرة فقد أدركت فجأة حينها أنها ربما المرة الأولى التي يصلى فيها في هذا المسجد منذ بعض مائة سنة! و اغرورقت عيناي و أنا قائم أمام الله أصلي في ذلك الخلاء تحت سماء الشفق اشعر في الوقت نفسه برابطة روحية فيه تبارك و تعالى عبر الزمان مع من صلوا في هذا المسجد من أهل القرية الإسلامية التي اكتشفت البعثة الايطالية كذلك أثارها فوق هضبة الحمر الشرقي عند مدخل الخور البحري و مع الشيخ العفيف نفسه رحمه الله و مع المكان طاقه.

ان نسبة السحر إلى خور روري كذب مبين و سأفصل ذلك في مقال لاحق منفصل إذا يسر الميسر (الذي استوى على عرشه يدبر الأمر كله و إليه يرجع الأمر كله).

أما خور روري نفسه فهو حقيقة اكبر بحيرة عذبة في الجزيرة العربية و يقع 23 كيلومترا شرق مدينة صلاله في نهاية وادي دربات حيث ينتهي إليه مياه الشلالات إذا فاضت. و قد أشارت المخطوطة الإغريقية  the Periplus of the Eritrean Sea، دليل البحر الاريتري، التي تعود إلى القرن الأول الميلادي إلى المكان باسم Moscha Limen أي ميناء موشا أو موخا. كما سمى الجغرافي الروماني بطليموس المدينة Abyssapolis، مدينة الشلال.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)  كتاب و ندل فلبس، Unknown Oman، عمان المجهولة، الطبعة الأولي 1966. الكتاب في قائمة وزارة التراث و الثقافة للكتب الممنوعة من دخول السلطنة! و رغم أني قرأته كله مرتين لم أجد فيه حسب رائي شيئا يستحق حقا هذا المنع. له طبعا، أي الكاتب، انطباعات و آراء و اخطأ هنا و هناك و هنات قد نتفق معه على بعضها و لكن لن نتفق معه على كلها. و رغم هذه الهنات و الاخطأ و الآراء و الانطباعات فإن الكتاب فيه ثناء على إنسانية الأسرة البوسعيدية المالكة الكريمة و حسن ثقافتها و إيمان المسلمين و خصال الرجال العمانيين.و الكتاب يشي بما لا يدع مجالا للشك باطلاع كاتبه الواسع على القران و الحديث و التاريخ الإسلامي و تياراته الفكرية. فالكاتب الراحل معروف بإعجابه بالعرب و كان صديقا مقربا لكل من، على سبيل المثل لا الحصر،السلطان سعيد بن تيمور رحمه الله و والده السلطان تيمور بن فيصل في إقامته الاختيارية في بومباي رحمه الله و الملك فيصل الثاني رحمه الله ملك المملكة العراقية الهاشمية و الملكين طلال و حسين رحمهما الله ملكي المملكة الأردنية الهاشمية و كل من الرئيس السوري و رئيس الوزراء اللبناني آنذاك و القائمة طويلة. و يضم الكتاب صورا تاريخية نادرة لعل من أهمها صورة رفع علم السلطنة عند بئر الخسفة في الربع الخالي بعد رحلة تشبه المغامرة تحت إمرة الراحل سيف الدولة الشيخ حمود بن حمد الغافري والي ظفار آنذاك رحمه الله (1932-1970،و هو بذلك أطول والي للمحافظة في تاريخ السلطنة المعاصر حرسها الله).
(2) يجمع جميع من ترجموا هذا النقش إلى العربية انه يشير إلى ان هذه المدينة الصغيرة بنتها مثابة بقيادة ذمار علي أرسلها الملك العاظ يالوط من شبوه عاصمة مملكة حضرموت آنذاك التي امتد نفوذها إلى هذه المنطقة من عمان المنتجة للبان السلعة الرئيسة آنذاك للمنطقة و تجارة تلك المملكة مع العالم القديم.

و نشرت أولى الترجمتين الأخيرتين في دورية الدراسات العمانية العدد الأول عام 1975 و الثانية في العدد الثاني عام 1976 و هي كما أشرت آنفا دورية محكمة تصدرها وزارة التراث و الثقافة. لا يمكننا ان نحجب التاريخ لأغراض شوفينية ضيقة كل الوقت. و لا ضير في عدم حجب هذه الواقعة التاريخية لأنه كما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ” الكذب ريبة” و لأن سلطنتنا الحبيبة حرسها الله حدودها معروفة و موثقة بمواثيق دولية بما في ذلك حدودها البحرية و مياها الإقليمية.و من ضربة علي أقصى محافظة ظفار جنوبا إلى خصب أقصى مسندم شمالا يجمعنا الإسلام و ولاء جامع لأسرة مالكة عربية كريمة (كفى بالأزد شرفا) متواضعة و منفتحة و متسامحة. فلا نخرب بيوتنا بأيدينا (كما يجري في بعض الجهات حولنا و قريبا منا) بممارسة التعسف ضد المواطنين.

(3) قبل ان يعترض علينا معترض أعماه التعصب القبلي فإن لقب (صاحب طاقة) كما قلت أعلاه لقب ديني لا علاقة له البتة بامتلاك المكان و البادئة (صاحب) التي تذكر قبل الموضع لقب كان شائعا يوما ما في جنوب الجزيرة العربية و يطلق على القدوة من أرباب السلوك و التصوف. أما قولهم انه تعفف عن القبولة إلى الدين أعلن تخليه عن النظام القبلي في جنوب الجزيرة العربية و أعرافه و عدم دخوله في شيء من ذلك بعد و اتخاذه الدين وحده عصبته و عصبيته. لذلك عرف المشائخ في ظفار بديانتهم و إصلاحهم بين القبائل. و كانت الناس تعرف لهم حقهم فإذا وضع المشيخي ردائه بين الفئتين المتخاصمتين علم من هذا ان على الطرفين قبول حكمه. و قد ذكر لي والدي رحمه الله انه كانت لبعض مشائخ طاقة في صغره و قبل ولادته كرامات معروفه. فيمكنني ان أقول إذا للمتعصبين من كل طرف ان طاقة تجمعنا و لا تفرقنا. و التعصب كما قال الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله حجاب يحجب العبد عن الله تبارك اسمه.

(4) كان المسجد قائم قبل التسوير على جانب المقبرة الإسلامية يفصل بينهما و بين المقبرة الوثنية شمالهما طريق كان حتى عام 1974 الطريق الوحيد الذي تستخدمه العربات في طريقها إلى طاقة أو شرقا. و بذلك استطيع ان أقول أني أجبت على السؤال الذي طرحه وندل فلبس في كتابه Unknown Oman في الصفحات المخصصة للحديث عن تنقيبات بعثته في آثار سمهرم عندما كتب: أين كانوا يدفنون موتاهم ( لأنهم لم يجدوا في المنطقة مقبرة وثنية قط): لقد كانوا يدفنون موتاهم في هذه المقبرة الوثنية التي هي حسب استطلاعي اكبر مقبرة وثنية في محافظة ظفار و لا شك عندي أنها تعود إلى فترة ازدهار سمهرم كميناء شهير لتصدير لبان المنطقة قبل ظهور الإسلام.

(5) انظر موقع جامعة بيسا: http://arabiantica.humnet.unipi.it/index.php?id=533

ذكر هذا الاكتشاف كذلك في كتاب أصدره مكتب مستشار صاحب الجلالة السلطان للشؤون الثقافية فليراجع قبل ان استدعى مرة أخرى إلى مسقط للمساءلة عندما كتبت خبرا في جريدة الزمن العمانية عام 2013 عن اكتشاف قرية إسلامية تعود إلى مراحل الإسلام الأولى فوق الحمر الشرقي فالرجاء كل الرجاء مراجعة هذا الإصدار الحكومي الرسمي قبل إيقاع الأذى لان الظلم شؤم على الجميع كما نرى نتائجه المؤلمة و المحزنة الآن في دول عربية حولنا و قريبا منا :

Office of the Adviser to His majesty the Sultan for Cultural Affairs, 2008. Khor Rori (Sumhuram). ISBN: 978-0-9816068-0-4

الرابع والستون ثقافة وفكر

عن الكاتب

محمد عبدالله العليان

إعلامي عماني و عضو الرابطة الدولية للكتاب العلميين ISWA