قتال المشركين في القرآن
خالد بن مبارك الوهيبي
مقدمة
عندما تتداخل منطقتا الحرب والسلم في أذهان الناس يصبح من العسير لاحقاً فض الاشتباك بينهما وفهم كل منطقة بذاتها، وغالباً ما تشكل الحالة السياسية فترة تكون الرؤية الفقهية ضاغطاً على ذهن الفقيه، فتتشكل النظرية الفقهية وفقاً لها.
والرؤية الفقهية التي سادت قطاعاً عريضاً من الفقه حول الحرب والسلم ربطت بين المعتقد والحرب، وأوجدت رابطاً بينهما هو أن القتال يكون بسبب الكفر، وذلك من خلال قراءة معضاة لآيات القرآن، واعتماداً على بعض المرويات المتفرقة التي رواها الرواة ونسبوها إلى النبي عليه الصلاة والسلام.
وكانت نهاية المطاف بالقطاع العريض من الفقه في هذا العصر أن وصل إلى تبني رؤيتين متعارضتين:
– رؤية تكتب في كتب الفقه ترى أن قتال المشركين يكون بسبب كفرهم، فليس لهم إلا الإسلام أو القتال.
– ورؤية أخرى يخاطب بها المتلقي المعاصر، وهي أن الإسلام دين دعوة، وأنه لا إكراه لأحد على اعتناقه، وأن العلاقات بين الدول المعاصرة يجب أن تقوم على الاحترام المتبادل، والسكوت عما هو موجود في كتب الفقه.
وزاد الطين بلة من نادى بزمنية تلك النصوص القرآنية التي تحدثت عن القتال والحرب، وأنها مرتبطة بظروف وإرهاصات صاحبت نزولها، فلا تتعدى دلالتها تلك الحقب الزمنية.
وفي العقد الأخير بسبب ظهور تنظيم القاعدة، واعتناقه لفكرة القتال العشوائي الذي لا يبالي بإراقة الدماء مسلمة كانت أو غير مسلمة في سبيل الوصول لأهدافه -والمعروفة بنظرية الترس- ؛ كانت الولايات المتحدة في حربها على ما يسمى بالإرهاب الوجه الآخر لهذه العملة، بقتلها العشوائي لمئات الآلاف من الأبرياء في العراق وأفغانستان وغيرها للوصول إلى أهدافها هي الأخرى.
إذن نحن في العقد الأخير أمام قتال شرس على أساس المعتقد الديني –قد يكون مفتعلاً وقد يكون حقيقياً- بين طرفين يضعان من المعتقد الديني أساساً معلناً أو خفياً لحربهما الطاحنة التي أكلت الأخضر واليابس في العديد من البلدان.
مع القائلين بالزمنية
ادعى العديد من القائلين بنظرية زمانية وتاريخية النص القرآني أن (القرآن الكريم يتكلم عن الكفار أو المشركين إلى جانب أهل الكتاب وكذلك الصابئة. إلا أن ظروف الكر والفر هذه ليست إلا ظروفاً استثنائية ولا تعبر فيها أحكام القرآن الكريم عن موقف الإسلام من غير المسلمين بصفة مطلقة ونهائية)([1]).
ومن الأمثلة التي يوردونها لإثبات نظريتهم هذه آيتان:
1. (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِين) البقرة:191، فقالوا إنه (من الواضح أن حكمها ظرفي، لأنه يتعلق بحالة وواقعة تاريخية معينة، فلا يجوز استخلاص حكم مطلق من هذا الحكم الظرفي المحدود)([2]).
2. (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) التوبة:5، وهذه الآية قالوا عنها إن (الأمر يبدو أكثر تعقيداً … فلقد جعل الكثير من الفقهاء القدامى من هذه الآية حكماً مطلقاً، وذهب البعض منهم إلى أنها نسخت العديد من الآيات القرآنية، حتى أن ابن حزم الأندلسي زعم في كتابه الناسخ والمنسوخ أنها وبمفردها نسخت ما لا يقل عن مائة آية)([3]).
كما يظهر أن هؤلاء الذين يقولون بنظرية تاريخية النص القرآني يعتمدون على التفسير التراثي للآيات القرآنية دون محاولة منهم لاستنطاق الآيات المبينات، وقد استخلصوا من التفسير التراثي لهذه الآيات أن المشرك المخالف في الدين يقتل لكفره وشركه، ورأوا أن هذا هو ما دلت عليه هذه الآيات، فكانت النتيجة النهائية أن تلك الآيات ذات طبيعة ظرفية وليست تشريعاً مطلقاً.
وهذا الخطأ منهم لا يقل فداحة عن خطأ المفسرين القدامى الذين خلطوا بين دوائر السلم والحرب في القرآن، فاختزلوا العلاقة مع غير المسلمين في الحرب، ولما أعيتهم الحيلة في فهم الكثير من النصوص القرآنية الأخرى مثل:
(اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) الأنعام:106
(فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) الحجر:94
(وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) العنكبوت:46
لم يجدوا سوى القول بأنها منسوخة بقوله تعالى:
(فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) التوبة:5 والتي اصطلحوا على تسميتها بآية السيف.
الآن دعونا نقف قليلاً مع هذه الآية وغيرها من الآيات التي تتحدث عن الحرب والقتال لنرى ما هي دلالتها، وهل هي تأمر بقتال المشركين من غير تمييز، أم أن لها سياقاً في الآيات التي قبلها وبعدها، وكذلك وفقاً لما تعرضه آيات الكتاب العزيز من مقاصد عامة في القتال والحرب؟.
الحرب والسلم في القرآن
- وردت آيات القتال على قسمين في الكتاب العزيز:
- قسم يتحدث عن المبررات المشروعة للقتال وليس من بينها قتال الكافر لأجل أنه كافر، ومن ذلك:
– (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) البقرة:190.
– (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) البقرة:193.
– (يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) البقرة:217.
– (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) البقرة:244.
– (وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً) النساء:75.
– (الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً) النساء:76.
– (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ) التوبة:12.
– (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) التوبة:36.
– (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) الحج:39.
– (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) الحجرات:9.
– (إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) الممتحنة:9.
- وقسم يتحدث عن تصوير جو معركة قائم لوجود مبرراته المشروعة أصلاً، ومن ذلك:
– (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) آل عمران:111
– (قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ باللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) التوبة:29
– (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) التوبة:123
– (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً) الفتح:16
وعليه تحمل الآيات في القسم الثاني على الآيات في القسم الأول، فتكون آيات القتال العامة تتحدث عن حرب قائمة بالفعل، وهي مبررة بمبرراتها الشرعية في القسم الأول من صد للعدوان ونصرة الضعفاء والمظلومين ومواجهة من يهددون بالفعل كيان الجماعة المؤمنة تهديداً فعلياً.
2. ومما يدل على ذلك أن الآيات القرآنية قسمت غير المسلمين إلى مجموعات غير معادية يمكن التصالح معها وأخرى معادية للجماعة المؤمنة:
(لا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) الممتحنة:8.
(إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) الممتحنة:9.
فلا يوجد إذن قتال على أساس الكفر بعينه، مع صراحة القرآن وحسمه لهذه القضية في قوله تعالى: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) البقرة:256.
3. والآية التي عرفت في اصطلاح المفسرين بآية السيف وهي قوله تعالى: (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) التوبة:5 ، فإن التفسير السائد الذي أخذ منها بقتل المشركين أينما وجدوا؛ فإنه تفسير مبني على قطع الآية عن سياقها وموقعها في القرآن، وتفصيل ذلك كالتالي:
(بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ ، وَأَذَانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ، إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ، فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) التوبة:1-5
– هذه الآيات تتحدث عن واقعة تاريخية ذات امتداد تشريعي، وهي منع مظاهر الشرك والوثنية والبراءة منها في مكة المكرمة -مهد التوحيد عبر التاريخ-، وكان ذلك في الأعوام الأخيرة من عمر الرسالة بعد فتح مكة (وَأَذَانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ).
– مهدت الآية لذلك بالتحلل من أي التزامات سابقة مع المشركين الذين كانوا بمكة (بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).
– وفسحت لهم مهلة حددت بأربعة أشهر هي الأشهر الحرم (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ)، ويدل على كونها هي الأشهر الحرم الآية 36 من ذات السورة (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) التوبة:36، وهي أشهر الحج الثلاثة: شوال وذو القعدة وذو الحجة، بالإضافة إلى محرم.
– وخلال هذه المدة (الأشهر الحرم) لا قتال فيها لمن (عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ)، فلا يعقل أن يكف المؤمنون أيديهم في الأشهر الحرم، والكافرون يعيثون فساداً في تلك البقاع الطاهرة.
– وبعد انتهاء المهلة المحددة للمشركين في البقاء في الأرض الحرام، لا خيار لهم سوى مغادرتها أو اعتناق الإسلام أو المواجهة العسكرية مع المؤمنين (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
هذا ما تدل عليه سياق الآيات الكريمة، وهذا التشريع الباقي إلى يوم القيامة بنقاء مكة المكرمة من الشرك والوثنية ومظاهرها وعدم سكنى المشركين فيها، وقد تكرر هذا التشريع في ذات السورة ليزداد رسوخاً: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) التوبة:28، وهذا كله ناف لتوسيع دلالة هذه الآيات خارج نطاق مكة المكرمة.
لكن الفقه في مراحل لاحقة بقراءته العضين هو الذي وسع هذا المدلول ليتسع لجزيرة العرب أولاً، ولكل العالم من بعد، ويتحول العالم بعدها إلى معسكرين: دار حرب ودار إسلام، ثم أتى أصحاب نظرية تاريخية النص ليقولوا لنا إن هذه الآيات لا يتعدى حكمها زمن نزولها وتاريخ تشريعها!.
[1] الصادق بلعيد، القرآن والتشريع، ص85.
[2] المرجع السابق، ص85.
[3] المرجع السابق ، ص85-86.