من أجل المسلمين

من أجل المسلمين

“هناك مشكلة في فرنسا اسمها الإسلام”. هذه العبارة لم يطلقها رجل شارع عادي، بل قالها الفيلسوف الفرنسي “آلانفينكيلكروت” الذي يحظى باحترام وتقدير كبيرين. والعبارة ذاتها أثارت الصحفي والكاتب الفرنسي المعروف “إيدوي بلينيل”، فكتب مقالا مطولا للرد على مبررات فينكيلكروت وأمثاله من المفكرين والمثقفين الفرنسيين الذين باتوا يتبنون ذات النهج المعادي للإسلام والمسلمين. وسرعان ما تحول مقال بلينيل الطويل الى كتاب صدر في فرنسا أواخر العام الماضي 2014 تحت عنوان “من أجل المسلمين”.

تناول بلينيل بانتقاد مرير الحراك الفكري والاجتماعي والسياسي داخل المجتمع الفرنسي، وخصوصا طبقة المثقفين التي أصبحت تتماهى بفجاجة مع ظاهرة “الإسلاموفوبيا” التي بدأت تجتاح المجتمع. فالأمر وصل الى حد لم يعد يحتمل التجاهل أكثر من ذلك. فهي ليست مجرد زلة أو فكرة عابرة في ذهن مفكر فرنسي مرموق من وزن “فينكيلكروت”.. بل هي مؤشر على مدى تغلغل الشحن السلبي المنظّم داخل المجتمع الفرنسي تجاه احدى مكوناته الأساسية.

المفارقة التي اقتنصها بلينيل تمثلت بأن كتابه جاء على غرار صرخة احتجاج قديمة مشابهة أطلقها فيما مضى الأديب الفرنسي إميل زولا تحت شعار”من أجل اليهود” .. هدفت الى الدفاع عن اليهود في المجتمع الفرنسي، ومحاربة الإقصاء والنبذ اللذان مورسا ضدهما في ذلك الوقت، وصدر هذا الكتاب 1896، أي منذ ما يقرب مئة وعشرين عاما من الآن.

ما يحدث الآن هي محاولة اسقاط تجربة تاريخية لاحدى مكونات المجتمع الفرنسي، باعتبارها شريحة منبوذة وجرى اقصاؤها داخل المجتمع الفرنسي، واعادة استحضار هذه التجربة ولكن على مكوّن رئيسي داخل المجتمع الفرنسي، من خلال اطلاق حالة الذعر والهلع من الاسلام والمسلمين، وكأن هذا المكون الرئيسي والممتد ظهر فجأة في فرنسا! والسؤال الذي يطرح نفسه هنا؛ لماذا هذه الالتفاتة والدعوة للانتباه الى هذا المكوّن طالما هو منسجم بالكلية داخل المنسجم، ولم يسع إلى تغييره أو تشويهه؟

وإذا ما استثنينا حادثتي شارلي إبيدو ومدينة ليون شرق فرنسا هذا العام، فإن الفرنسيين المسلمين لم يشكلوا يوما خطراً على المجتمع الفرنسي الذي هم جزء منه منذ أمد بعيد. لكنها تبدو حالة خوف وذعر تتعاظم ويتم تغذيتها، فقد ظهر على القناة الثانية الفرنسية العامة في شهر مايو الماضي 2015، رئيس بلدية مدينة “بيزييه” الفرنسية محذرا بأن 64.4% من تلاميذ المدارس في مدينته هم من المسلمين، محاولاً بذلك تحذير المسؤولين ودق ناقوس الخطر من وجودهم، وبخطابه التحريضي الذي ألقاه، فان رئيس بلدية المدينة الفرنسية يخالف القوانين الجمهورية التي تحظر إجراء دراسات وإحصائيات على أسس دينية أو عرقية أو طائفية في فرنسا. وتطالعنا الأخبار من ذات المدينة “بيزية بجنوب فرنسا” سجن مواطن فرنسي الأصل بتهمة “الدفاع عن الإرهاب”والرجل صاحب مطعم اعتنق الإسلام مؤخراً.

قبل مائة عام من الآن، قال إميل زولا: “أجد أن صمتي نذالة”. قالها دفاعاً عن اليهود الفرنسيين الذين كانوا يتعرضون الى حملة إقصاء مسعورة. الآن يردد الكاتب إيدوي بلينيلذات ذات الفحوى في دفاعه عن المسلمين وضد الحملة الإسلاموفوبية التضليلية التي تستهدفهم، فقد وصل الأمرعند بلينيل الى اعتبار السكوت عن هذه الحملة الظالمة خيانة لقيم ومبادىء الجمهورية الفرنسية نفسها.

يقول بلينيل في كتابه “من أجل المسلمين” إن ما يجري في فرنسا هو توظيف كثيف لصناعة عدو داخلي وخلق حالة فزع داخل المجتمع الفرنسي ضد الفرنسيين المسلمين، وإن هناك تنمية للتعصب المعادي للمسلمين وللتكتلات المناهضة للإسلام في المجتمع. وإن هذا التوظيف لا يمكن اقتصاره على طيف سياسي معيّن داخل المجتمع الفرنسي، بل يبدو وكأنه بلا لون سياسي، فهذه الظاهرة بدأت تتخلل كافة الأطياف السياسية الفرنسية من أقصى اليمين الى اليسار الثوري والراديكالي الفرنسي.

الضوء الكاشف الذي حمله بلينيل للحراك الفكري والثقافي الفرنسي يعطي انموذجاً عما يدور في المجتمعات الأوروبية عموما فيما يخص النظرة الى الإسلام وصورته بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 والأحداث اللاحقة له، وصولاً الى ظهور التنظيمات الإسلامية المتطرفة الموجهة. لقد أصبح هناك تشويش وبلبلة في أذهان العالم حول طبيعة الإسلام الحقيقي وارتباطه بالإرهاب، وبرزت الى السطح ظاهرة”الإسلاموفوبيا”، حيث أصبح الخوف والكراهية للإسلام بحالة متزايدة.

والحقيقة المؤسفة، أن التشويه والبلبلة في صورة الإسلام لم تعد مقتصرة على الآخر في الغرب فقط، بل أصبح هناك من المسلمين من لديه قناعة بأن هذا الإسلام المتطرف المشوّه هو الإسلام الحقيقي، ويعزز قناعته تلك عدم وعي كاف وتنشئة إسلامية خاطئة متخمة بالشحن المذهبي والتكفيري، بالإضافة الى تأثيرات غربية وليبرالية مشوهة. ورغم أننا لسنا في الغرب، ونعيش في دول عربية إسلامية، كانت هي المادة الأولى للإسلام الحقيقي، إلا أننا نلمس مدى تشوه مفاهيم الإسلام لدى المسلمين أنفسهم، قبل أن يكون ذلك عند غيرهم.

فالمسألة ليست مؤامرة تحاك ضد الإسلام والمسلمين في أوروبا أو فرنسا تحديداً، بقدر ما هي عملية مدروسة وعلى نحو ممنهج غايتها الختامية تشويه الإسلام وإظهاره بصورة دين دموي وليس دين سلام ومودة ورحمة.

إن كاتبا ومثقفا مثل إيدوي بلينيل، والذي شغل منصب رئيس تحرير جريدة “لوموند” الفرنسية، ويشغل حاليا رئاسة تحرير جريدة “ميديا بارت” الإلكترونية، الأكثر تأثيراً وشعبية في فرنسا، يضع كتابه “من أجل المسلمين” ليقيم الحجّة على مثقفي بلده في توجههم العنصري والإقصائي للمسلمين الفرنسيين. إنه لأمر يجعل المرء يشعر بالخجل والأسى على حال المفكّرين والمثقفين في الوطن العربي والإسلامي، الذين يخشون التصدّي لحالات تشويه الدين والإساءة له وكأن الأمر لا يعنيهم قي شيء، أو لا يعني المجتمع الذي يعيشون فيه، حيث ينمو الإعتقاد السائد أن ذلك يجب أن يصدر عن شيوخ وعلماء الدين أنفسهم. وأن على المفكرين والمثقفين أن لا يحرجوا أنفسهم أمام سلطتهم القوية أمام الناس. لكن بلينيل في فرنسا فعلها، فالرجل الذي صرّح بأنه “لا ديني” يدافع بشراسة عن حقوق المسلمين أمام هجمة فكرية وثقافية تمارس ضدهم في المجتمع الفرنسي، يقودها مفكرون ومثقفون كبار لهم تأثيرهم في الشارع الفرنسي. إنه رجل يقف وحيداً في معركة شرسة تجري في قلب أوروبا ضد المسلمين، سلاحه الوحيد فيها هو العدالة والمساواة والإنسانية وحقوقها والمبادىء الجمهورية التي قامت عليها فرنسا وسائر أوروبا … لكننا في الشطر الآخر من العالم، نقف عاجزين عن مساعدة هذا الرجل وأمثاله في فرنسا وأوروبا والغرب عموماً.

وإذا كان إميل زولا قال سابقا إنه يعتبر صمته عن حقوق اليهود في المجتمع الفرنسي نذالة، ويقولها بلينيل عن عدم قدرته على الصمت في مواجهة حملة التشويه المنظمة لصورة المسلمين الفرنسيين، فإن صمت المفكرين والمثقفين العرب عن تشويه صورة الإسلام والمسلمين في المنطقة العربية ذاتها هي كذلك نذالة. وعلينا أن لا نلوم المفكرين والمثقفين الأوروبيين والغربيين إن تخلوا عن دفاعهم عن حقيقة الإسلام، فنحن لا نقدّم لهم سوى الخذلان والخيبة.

لقد حدث التشويه لحقيقة رسالة الإسلام على مرّ التاريخ، وكأن أحداً لم يلحظه أو يتصدى له ليكبح جماحه .. كأننا راقبنا هذا التشوّه وهو يمّر وعلى ملامحنا علامات الرضى بادية، وها هو يرتدّ إلينا وكأننا عاجزين أمامه، أو كأننا ربما ننتظر من الآخرالمثقف غيرالمسلم أن يساعدنا في تفكيك تشوهاته ويدافع عن الحقيقة نيابةً عنّا.

الخامس والستون سياسة

عن الكاتب

رأفت خليل عبدالله