حميد ابن رزيق شاعرٌ من “نخل”
يسكن المسقط والمطرح
جده كان وكيل الميناء
يحمي حاضر البحر ومستقبل الزمن من مقتله.
أما الحفيد فشاعر حالم
كلما وصل الى الميناء
تأتي سفينة الماضي الغامضة
وتحمله ليتابع تواريخ الأمواج والنوارس.
يبحر حميد الى موانئ قديمة وأسواق مدن داخلية وساحلية
ليجمع مواد قصائده من مخازن العقول والكتب
يرسم لوحات تاريخية في شعره
يؤبدها في كتبه التي هي أعمال فنية بشروحاتها
عن الطبيعة الإنسانية.
يطلق على كتبه أسماء السفن الغامضة التي أقلته
والشموس التي اشرقت عليه
والجواهر التي عثر عليها
فتسافر سفن الكتب عبر الزمن والأمكنة مئات السنين
ومن بعده يعرض صورها الوراقون والخطاطون وجامعو التحف في الأسواق
ويهديها السلاطين للقساوسة.
الأرض التي في أشعار بن رزيق
تغدو كائناً حياً خالداً
تماثيل منتصبة من الأشواق والدموع
حكايات الدماء عن الحرائق
والهام الأحلام، وعطش الرغبات، وصيد الكمال.
هناك يقف الشاعر امام بلاده ويسألها عن الحال
يكلمها عن أعزةٍ تفتتت اجسادهم في ترابها
يفتش عن اشواقها لشعاع الأرواح
يتحرى عن لمعان دموعها التي بكتهم
وينتظر منها رد الجواب، في قلبه.
في قصائده تغدو عمان حالةً كبرى
طاقة لها مواقع وأحداث مكانية
تتبادل فيها الأرواح الانسانية والزمانية مواقعها بتزامن غامض
مدن وتواريخ وشخصيات
تعيش وتهفو وتريد وتتأذى وتحلم وتتألم.
في شعره ضوء سبائك إنسانية
صاغها أجدادٌ اسطوريون من أساطير الأنساب
اسمائهم عمان بن سبأ أو عمان بن إبراهيم
لهم حشود غفيرة من الأبناء والأحفاد والأمم والقبائل
شخصياتٌ خالدة، أو أمهات كبيرات
يمتدون كجذور انسانية عميقة
تبقى آثارها في تراب الأرض
وجذوع الأشجار وعروق الجبال وذرات الرمل
على سطح البحر ولب الثمار والأبنية والسقوف الخشبية
لها سلطانٌ عميق على القمم والأدمغة
والعروش والأفلاج
والأشجار والأودية
وجماهير الناس.
ليست تواريخ
لأن الأئمة والسلاطين والملوك
يذوبون جميعاً كالماء في تراب الأرض
مخلفين الثرى الرطب والطين اللزج
في قصائد ابن رزيق.
الإمامة في أشعاره
تظهر كناقة بيضاء
تأتي وتضع رقبتها الطويلة طوعاً
على أكتاف الأئمة
وأحياناً تصير فرساً سوداء برية
أو أنثى وعل صعبة وحشية
تفشل كل حيل اصطيادها
محواً وحرزاً
يتحول فيه التراب والبحر
والجبال والمدن والبلدات
الى كينونات حية
تعيش في أرواح الناس.
تنتصب مسارح كبيرة من الجص والطين والخشب
في شروح ابن رزيق واشعاره
تؤدي فيها نزوى دور الأم
وبقية المدن دور الخالات والعمات
أما عمان فهي النجمة التي تمثل دور الابنة.
في تلك المسارح
تخاطب أرواح الأرض الأئمة بوحي كاليقين
تلهمهم دروب السلام اليها، وتسلمهم قيادها
لها وحي ينسج رعب الحق في قلوب الظالمين المتغطرسين
فينهارون من أدنى صوت.
بنفيرها الغامض اللا مسموع ترهب أعدائها
فتضيق أنفسهم ويصابون بداء الكآبة، والذعر
يحلُّ بهم سرابٌ يضحك عليهم بالخيالات
كلما مد جنودُهم يداً الى اعناقهم لا يجدونها
اما قادة جيوشهم فيقعون أسرى في حصن صحار
ويُدفن ولاتهم في المزابل العامة.
على تلك المنصات من اشعار ابن رزيق
تصبح العزة جوهرة ثمينة تصان بالشخصيات التاريخية
تنسج عمان بيدها الزمن بخيط الأحداث
تصنع ثوباً أبدياً هائلاً وتلبسه
تبدو أهدابه أحياناً في عمائم الرؤوس
ويستعير الشعراء من ظله المجاز
لقصائد مديحهم ووطنياتهم.
في الأشعار الرزيقية
تظهر البلاد كبحر يضطرب ويمور
وأنهارٍ تفرح وتحزن
وجبالٍ تشتاق وتتمنى
وسهولٍ تهدأ وتسعد
مدنٍ تحل بها حرائق الفتن حتى تتخاطب فيها البوم والغربان
وتسكنها بدل اهلها الكلاب
وقرى ودساكر يتحول الناس فيها الى أدوات وأسباب.
يظهر حُميد أحياناً في نهار قصائده
مؤدياً دور شاعرٍ في بلاط السلاطين وابنائهم
يزين شعره بمرجان المكارم
ذي القوى العجائبية
وأحياناً يختبئ عن موته
في ظلام شِعره
ليلاحق سبك التواريخ الجديدة.
يظهر الأئمة في شعر ابن رزيق
بداية كرجال غامضين قادمين من سماء المجهول
بعد ان اعتزلوا الناس لسنين
مقيمين في الفلوات وكهوف الجبال
ينصرون المستضعفين على المستقوين
وحين يُنصّبون أئمة تنقاد لهم البلاد بسلاسة سحرية
فيصيرون غيوماً مطيرة وبروقاً ورعوداً
حتى يتبددون
ظلالاً من العطف تمتد على الربوع والأماكن والبيوت
تضيء أفعالُهم الأزمنة المظلمة كالنجوم والأقمار
وتستعار منهم نار الدفء والقناديل.
طيبهم عَطِرٌ، يفوح شذاه حتى وهم غائبين
لهم ضحكات يخصّون بها الأحبة
ينقلون الأسواق من ميناء لميناء
خُطبهم كالأسنة تثلم كل الخطب العظيمة
تتحول كلماتهم الى جيوش جرارة
ويخترعون انواعاً جديدة من السفن والقوارب لمطاردة القراصنة.
سيوفهم كائنات مفترسة تجعل خيول الأعداء طعاماً للضواري
في خدمتهم قادة جيوش عظام محنكين
يكسبون لهم الحروب بأقل الخسائر
وأصدقاء غرباء يخدمونهم بأصداف قدرية
وتنتقل العواصم معهم حيثما كانوا.
داخلهم أنهار رحمة مشرعة تحجزهم قبل وادي الغضب
وعفوٌ حيّ
يفيض منهم العدل كينابيع مائية
تخضر بهم الربوع العافية، متحولة الى بلدان جديدة
وتجري من بين ايديهم افلاجٌ تناجي عذوبتها أغصان الشجر الرطيبة
يشيدون المدارس النضرة في اكناف الحصون الجميلة
يرفعون البلاد بخفة على اكتافهم
ويمضون بها نحو المستقبل.
تظهر عمان للأئمة في اشعار ابن رزيق
متنكرة في هيئات متعددة
مرةً على هيئة امرأة شريفة تستحم في فلج الغنتق
يهجم عليها المغتصب فتفر مذعورة وتستغيث بهم
فيكسونها ثياب عمائمهم
واضعين احذية اقدامهم الجسورة
على صدور المغتصبين الملتهبة بالغيظ والأحقاد.
مرة تبدو لهم على هيئة بساتين وأموال مغصوبة ضائعة
يردونها الى منازل اهلها
ومرة كاسرارٍ ربانية غامضة
تعرفها الزوجات والأمهات
يكتفون كي يُغنوها بأقل الجرايات
وفي اوقات الشدة يخضبون لأجلها السيوف بالحناء.
يكسوهم الله هيبة تجعل الأسود الغاضبة كلاباً مذعورة
وفي أحداق أعدائهم يبدون كالحيات الضخمة السامة
كلما اشعل من يعاديهم النيران يحترق بها وتجعله رماداً
ويتشتت في عهدهم المنافقون
كلما صاغوا كيدهم في السر
يفتضحون
فيفرّون من الرعب
الى الفيافي المقفرة
التي تسخر منهم وتسميهم حميراً.
الغزاة في قصائد ابن رزيق اغنام في الفلاة
تلاحقهم جنود الأئمة كالذئاب والليوث
ثم تتوقف فجأة تاركة مطاردتهم للنسور والرخم والضباع.
أو يحل بهم في أوج انتصارهم وقوتهم بلابل مزلزلة تفرقهم
تصل يدٌ غامضة الى رقبة ملكهم في بلادهم البعيدة فيموت
يتوهمون أن دخان البنادق مجرد ضباب فيهلكون
يتجرعون ويشربون السيوف
حتى تقطع نساؤهم الحلي والزينة
ويلزمن الحدود بالثياب السود
لأن رجالهن صاروا رماد النيران،
اما اصحاب القلوب القاسية
فيذوب حديد قلوبهم ويحرقهم من الداخل.
حين لا يوفي الملوك والسلاطين
عهود الأمانات للأئمة في شعر ابن رزيق
فانهم يجبرونهم على الوفاء بسفن خرافية
انجر مراسيها ضخم اذا انكسر وسقط في البحر لا يمكن تحريكه ابداً من مكانه.
يعجز الشيطان بكل قواه عن جعل اعطاف الأئمة تميل
فتدين لهم بولائها موانئ وجزر بعيدة
وتقع في هواهم بقاع أخرى من الأرض تبعث رسلها اليهم
وتستغيث بهم شعوب مقهورة، ومدنٌ محاصرة
وتُبنى باسمهم قلاع في بومباي، والبحرين، وشرق افريقيه
وكل من جاء يطلب منهم الأمان يجد الأمان.
حين يغتني الأئمة في قصائد ابن رزيق
يبعثون وكلائهم ليشتروا لهم الجواهر والتحف من الموانئ بأغلى الأثمان
يُغرون بها التجار والسفن الى موانئهم
فتربح في عهدهم التجارات
ويأمن التجار وتتنهد البضائع من السرور.
يصبح الخير من أهل الديار
وتتحول سيرتهم الى حداء ابل يغنيه الأدلاء للركبان
يرقص على ايقاعه الرجال والنساء
في طول وعرض البلاد.
حين يموت الأئمة أخيراً في أشعار ابن رزيق
ويسلمون الأرواح بسلاسة
في الصلوات
او في ايقاف الفتن
او على فراشهم
او في انقاذ السجناء الغرقى
يصعد منهم ضوء منير
وتظللهم الغمائم التي هي دموع السماء
وتقام عزاءاتهم من الحمد والشكر.
اما اذا استشهدوا
فيلبسون ثياب الثواب بدل الثياب العادية
وفي عيون من يبكونهم
تظهر عمان يتيمةً تعير النحيب للمنتحبين
فيما هم ينامون ابديتهم
في قبور جميلة هادئة قرب مساجد العباد
أو يلتحمون بالحصون التي بنوها
او في اضرحة جميلة
يحطمها الحاقدون فيما بعد من شدة الغيرة.
بعدهم تبقى الحصون في اشعار ابن رزيق
حيرى متطاولة
تجعل البازي في طيرانه يحتار من ابراجها
ان كانت غماماً أم قمم جبال
هناك عند حد الأفق المحيّر ذاك
يتضح أخيراً
ان اشعار ابن رزيق وكتبه وقصائده
ليست الا حصوناً فنيّة
من الكلمات
تحررت من يد الزمن.