(قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء تَكُونُ لَنَا عِيداً لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) المائدة:114
(مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء) آية من الآيات ارتبطت برسالة المسيح عليه السلام، وهي آية من الله كآيات اختلاف الليل والنهار والفُلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس؛ وأرشدنا الله إلى تعقل آياته في الكتاب والكون (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) البقرة:164.
-1-
بدأت فصول آية (مائدة من السماء) عندما طلب الحواريون من عيسى بن مريم في صورة سؤال (إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء قَالَ اتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) المائدة:112.
قول الحواريين لعيسى (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ) يثير تساؤلاً عن مشروعية مثل هذا السؤال في حق الله؟
(يَسْتَطِيعُ/ اسْتَطَاعَ) هي صيغ (يستفعل/استفعل)، وتتكون من مقطعين:
1. المقطع الأول (يست/است): مثل (يستطيع/استطاع) (يستغفر/استغفر) (يستكبر/استكبر) (يستعمر/استعمر)، وأرى أن هذا المقطع يدل على تفعيل وتسريع الفعل الذي اتصل به، (استسقى الماء) أي فعل وسَرَّع كل الوسائل المتاحة للسُقيا، والشائع لدى اللغويين أن هذا المقطع يدل على الطلب نحو استسقى الماء أي طلب أن يسقاه.
2. المقطع الثاني (طيع) وهو يرجع إلى الجذر (طاع)، والجذر طاع يدل على الانقياد بتذليل الصعب، فيكون معنى (يَسْتَطِيعُ):
منسوباً إلى الإنسان: تفعيل المتوفر والمتاح لتذليل الصعب
منسوباً إلى الله: تطويع الشيء وتصريفه بمقتضى الحكمة الإلهية
فيكون معنى (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ) هل تطويع ما نطلب داخل في مقتضى الحكمة الإلهية.
أجاب عيسى الحواريين: (اتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)، وهذا الجواب يدل على وجود إشكال في الطلب المغلف بالسؤال، وهذا الإشكال راجع إلى طبيعة الشيء المطلوب، وهذا ما سأشرحه لاحقاً، لكنهم برروا موقفهم (قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ) المائدة:113.
رغم ما شاب طلب الحواريين من إشكال؛ دعا عيسى بن مريم ربه أن ينزل عليهم مائدة من السماء (قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء تَكُونُ لَنَا عِيداً لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) المائدة:114.
-2-
يبقى السؤال الأهم عن طبيعة المائدة التي طلبها الحواريون ودعا عيسى بن مريم أن ينزلها عليهم من السماء، التصور الشعبي السائد لمائدة من السماء هو سُفرة/طاولة طائرة مليئة بأنواع الطعام اللذيذ هبطت من السماء واستقرت على الأرض، وأخذت بهذه الفكرة أفلام الرسوم المتحركة التي أنتجت عن (مائدة من السماء) وقدمتها بصورة خوارقية وفقاً لنظرية المعجزة في التراث الفقهي.
وهذه الفكرة لم تنشأ من فراغ، بل صنعتها أفهام بشرية صعب عليها بحكم طبيعة المرحلة الزمنية استيعاب سُننية آيات الله في الكتاب والكون، والتقليد المتتابع رسخ الفكرة، فلم تلق تطويراً ومراجعة بما يتراكم من المعارف والخبرات الإنسانية.
نقل المفسرون أقوالاً في طبيعة (مائدة من السماء) أكثرها تَزَّيُد على ما في القرآن مما شاع في الثقافة الكتابية قبل القرآن، وهي أقوال تمثل الثقافة الزمنية التي كانت تقرأ آيات الله بمنطق الخوارق والمعجزات؛ نقل الطبري وابن أبي حاتم في تفسيريهما أقولاً كثيرة في ذلك منها:
عن سلمان: أنزل علينا مائدة من السماء فأنزل الله عليهم سفرة حمراء بين غمامتين: غمامة فوقها، وغمامة تحتها.
عن عمار قال: نزلت المائدة ثمراً من ثمر الجنة.
عن ابن عباس: أن عيسى بن مريم قالوا له: ادع الله أن ينزل علينا مائدة من السماء، فنزلت الملائكة مائدة يحملونها عليها سبعة أحوات وسبعة أرغفة، فأكل كل منهما آخر الناس كما أكل منه أولهم.
عن ابن عباس في المائدة قال: كانت طعاماً ينزل عليهم من السماء حيثما نزلوا.
عن عطية قال: المائدة سمكة فيها طعم من كل الطعام.
وهب بن منبه في قوله (أنزل علينا مائدة من السماء): أنزل عليهم أقرصة من شعير وأحوات.
هذه الآراء ترسم صورة (مائدة من السماء) من ثلاثة عناصر:
– أنها سُفرة أو طاولة
– عليها طعام لذيذ مما تشتهيه الأنفس
– هبطت سُفرة الطعام من السماء على غمامة أو بطريقة أخرى مماثلة واستقرت على الأرض.
-3-
الرأي القائل بأن (مائدة من السماء) هي سُفرة/طاولة طائرة عليها سمك وثمر وأقراص من شعير هبطت على غمامة؛ منتقد من أوجه هي:
1. تصويره المرتبط بأصول التراث الكتابي القديم المنتمي إلى مرحلة ما قبل القرآن
2. خروجه عن سُننية آيات الرسل
3. ما دل عليه لسان القرآن من مآلات سُننية
الكلمة القرآنية (مائدة) ترجع إلى الجذر (مَادَ)، وتنقلب الألف إلى ياء فنقول (يَميد/تَميد)، ومن استعمالاتها القرآنية (وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) النحل:15.
في القرآن جذران (مد/ماد)، واسم الفاعل من الجذر (مد) هو (مَادّ) وهو ذات مادة الجذر (مَادَ) مما يدل على وجود علاقة سُننية بين الجذرين (مد/ماد):
أ. الجذر (مد) في السياقات القرآنية يدل على كيان معين مادي أو معنوي بوجهة أو وظيفة معينة:
(كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا) الإسراء:20
(أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ، نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَّا يَشْعُرُونَ) المؤمنون:55-56
المد من عطاء ربك هو حركة العطاء بوجهة ووظيفة محددة
والمد بالمال والبنين هو حركتها وتفاعلها الاجتماعي بوجهة ووظيفة
ويمكن تصوير (مد) من خلال مثال (مد بحر) المياه وكثبان الرمال؛ التي تتحرك أمواجها في وجهة ووظيفة محددة.
ب. الجذر (مَادَ)؛ يشكل الجذر (مد) ثلي (مَادَ) بعد إضافة الألف إليه، و(ماد) أيضاً هو اسم الفاعل من الجذر (مد)، وهذا يشكل جسراً بين الجذرين.
ومما ورد في الجمع اللغوي في معاني الجذر (مَادَ):
– العطاء والتفضل، وأَمَدْتُه أَعْطَيْتُه، تقول: مَادني فلان يميدُني إذا أحْسن إليّ.
– التحرك والاضطراب، ومادَ الشيْءُ مَيْداً: تَحَرَّكَ. ومادَ السرابُ: اضْطَرَبَ.
– الميل، ومادَ مَيْداً: تَمايَلَ.
– سُفرة الطعام، ولا تُسَمَّى مائِدَةَ حتّى يكونَ عليها طَعامٌ.
– والَمْيدُ؛ ما يُصِيبُ من الحَيْرَةِ عن السُّكْرِ أو الغَثَيَانِ أو رُكُوبِ البَحْرِ.
وهذه المعاني المتعددة من استعمالات الناس في أعرافهم الزمنية الإقليمية تحتاج إلى ربط ما يصح منها بلا عوج برابط سُنني واحد، باعتماد معيار الجذر (ماد) في القرآن، وهو دال على معنى الكيان المادي/المعنوي الذي يتحكم به بوجهة أو وظيفة محددة.
وقد ورد الجذر (مَادَ) في القرآن من خلال الفعل (تميد) في الآيات:
(وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) النحل:15
(وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) الأنبياء:31
الرواسي بداهة ليست مرادفة للجبال كما شاع في كتب التفسير، فلا ترادف في اللسان العربي، والرواسي من الجذر (رسا)، وقد شاع في الجمع اللغوي أن (رسا) بمعنى (ثبت)، وهو معنى قاصر، والذي أراه أن الجذر (رسا) دال على تسارع واضطراد وصولاً إلى نقطة معينة، وهذا المآل يُعقل من سياق آيات قرآنية:
أولاً: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا، فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا، إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا) النازعات:42-44
مُرسا الساعة لا يدل على التثبيت، بل هو وصول التسارع الزمني نقطة معينة هي الساعة، لأن الآية ميزت بين مُرسى الساعة ومنتهاها، فمُرسى الساعة ممتد حتى منتهاها، ومنتهاها هي نقطة الثبات، فالساعة متسارعة زمنياً (مرساها) نحو (منتهاها).
ثانياً: (وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ) هود:41
مرسا الفُلك أو السفينة هو الموضع الذي تتسارع نحوه، وعندما نقول (رَسَتْ السفينة) يعني ذلك أنها تسارعت حتى وصلت نقطة معينة وهي المرسا، والتسارع له نقطة نهائية يتوقف عندها.
ثالثاً: (وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا، مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ) النازعات:32-33
الجبال يقع عليها الإرساء، وليست هي الرواسي، ووقوع الإرساء على الجبال يعني أنها تتسارع بفعل قوى معينة، وهذا أمر صار معلوماً لدينا اليوم، لذا فالجبال ليست جامدة بل تمر مر السحاب بفعل حركة الأرض حول نفسها (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ) النمل:88.
يلاحظ أن الجمع الروائي ركز على المرحلة الأخيرة من (رسا) وهي الثبات وجعلها الأصل في فهمه كافة اشتقاقات الجذر (رسا)، لكن الصواب أن (رسا) مراحل من التسارع تنتهي بالثبات والسكون.
إذن (رواسي) التي جعلت/ألقيت في الأرض هي قوى تحفظ لمظاهر الحياة في الأرض طابعها المتسارع، لذلك ربطت (رواسي) في العديد من الآيات بمظاهر الحياة في الأرض:
(وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) الرعد:3
(وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ) الحجر:19
(أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) النمل:61
(وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ) فصلت:10
(وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) ق:7
ومن أمثلة (رواسي) التي تحفظ لمظاهر الحياة طابعها المتسارع: الغلاف الجوي الذي يحيط بالأرض، والنظام الحراري الذي يحفظ درجة حرارة الأرض، ونسب تكوين الهواء الذي تتنفسه الكائنات، وقوة الجاذبية في الأرض.
و(تميد) في الآيات:
(وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) النحل:15
(وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) الأنبياء:31
هي نتيجة جعل/إلقاء (رواسي) في الأرض، فرواسي الأرض مثل: الغلاف الجوي الذي يحيط بالأرض والنظام الحراري للأرض؛ تحفظ تسارع مظاهر الحياة وديمومتها (الأنهار، البحار، النباتات، التوازن البيئي،…)، وبالتالي فإن دور الرواسي ينعكس على الناس بأن تمدهم بعطاء مستمر، والتعبير (تَمِيدَ بِكُمْ/بِهِمْ) بدلاً من (عليكم/عليهم) يعني أن الميد يكون بالناس، أي أن للإنسان دوراً في التداخل والتأثير والتفاعل إيجاباً وسلباً مع هذه الرواسي، فلا بد أن يكون كسب الإنسان حافظاً للرواسي ولا يفسد في الأرض.
وما يميز مَيْدُ الرواسي ثباتها واستمرارها، فالغلاف الجوي الذي يحيط بالأرض يحميها من الاشعاعات الضارة الآتية من الفضاء الخارجي، وميد الرواسي يظل مستمراً حتى الوصول إلى منتهى الساعة، عندما يتفكك النظام الكوني.