— 1—
رغم عادية أبيات قصيدة (معتاد على الليل) للشاعر الأمريكي روبرت فروست (1874- 1963) فإنها تخفي ظلالا من المعاني العميقة خاصة أصوات المعاناة الخافتة. ان عادية التعبير، لا الغموض، هي التي تسمح لنا بتشارك الخبرة و هنا تكمن معجزة الشعر. لذلك ينعي الفيلسوف العربي أبو يعرب المرزوقي الشعر العربي الحديث الذي يحاكي الشعر الغربي الحديث بقوله : ” انه يحاكي الشعر الغربي الحديث دون أن يفهم أسسه الفلسفية و الوجودية الحلولية و التثليثية. و لذلك فهو مجرد نقل اغلبه سرقات أدبية تتخفى تجملا باسم التناص الذي بلغ درجة لا يمكن أن يذهل عنها أدنى ناقد. و لعل من اكبر سخافات هذا الشكل الظن بأن الهلاميات الصوفية معرفة عميقة بالنفس البشرية في حين أنها مجترات خاوية لا تعبر عن أدنى تجربة و معاناة فعلية ” ( 1) . فعندما قرأت (معتاد على الليل) لأول مرة خيل إلي أنها تصف حالتي الداخلية في السنوات التي كنت أعالج فيها نوبات الكآبة و الحيرة بالمشي على شاطئ البحر باتجاه غروب الشمس في المساء فلا ارجع إلى القرية إلا بعد حلول الظلام (فترة يوليو1981- يونيو 1982 بعد عودتي من جنوب لبنان بعد ان تطوعت مدة تسعة أشهر للقتال في الكتيبة الطلابية احد كتائب القوات اللبنانية الفلسطينية المشتركة أثناء حرب الاستنزاف مع إسرائيل و حلفائها جيش لبنان الجنوبي و بعد إطلاق سراحي بعد تحقيق في مسقط استغرق 71 يوما). و حتى عندما ابتعثت للدراسة في الولايات المتحدة عاودت المشي في المساء لكن هذه المرة بمحاذاة نهر صغير قريب من مسكني في مدينة توليدو، اوهايو، نهر أوتاوا. إننا نعرف من سيرة فروست انه نفسه عانى اضطراب الاكتئاب طوال حياته حيث عاودته النوبات بين الفينة و الأخرى. فهنا هو يمشي في الليل. يمشي في الليل يحاور عالمه الداخلي حتى أطراف المدينة أو ابعد ليس لان الوقت مناسب بل لداعي حالة داخلية. يقول (ترجمة هذا الكاتب):
على الليل قد تعودت
تحت المطر مشيت و تحت المطر رجعت
و بآخر عمود إنارة في المدينة قد مررت.
إلى الزقاق الأكثر إثارة للحزن في المدينة قد أمعنت النظر.
مررت بالحارس الليلي يؤدي عمله المألوف—
غير راغب في الشرح أغضضت البصر.
وقفت و توقف وقع أقدامي…
من شارع آخر من خلف البيوت
انتهت إلى سمعي
صيحة مقطوعة
لا تدعوني أن أعود و لا تودعني.
و من ساعة ابعد مضيئة تطاول السماء
أعلنت ليس الوقت صحيحا أو خطأ
فقد تعودت على الليل أنا.
الى جانب معاناة نوبات الاكتئاب حفلت حياة فروست بالمحن. توفى والده و هو ابن عشر ثم ماتت أمه بالسرطان في شبابه. في عام 1920 اضطر الى إدخال أخته الصغرى الى مصح عقلي حيث ماتت هناك بعد تسع سنين. كما عانت زوجته من نوبات الكآبة و توفت عنه عام 1938 بسبب السرطان. في عام 1940 انتحر ابنه كارول و في عام 1947 ادخل بنته ارما الى مستشفى للاضطرابات الذهنية و النفسية. توفى ولده أليوت بالكوليرا. في حين ماتت ابنته مارجوري بعد الوضع. ربما من هذه المحن و المعاناة النفسية نفهم قوله المأثور ” ثلاث كلمات تصف الحياة: إنها تمضي”.لا تتوقف لموت احد أو حياته. و لا لفرحه أو حزنه. لذلك فان الصوت الخافت في قصيدته القصيرة المشهورة ( لا شيء من ذهب يبقى) هو صوت الفقد. لذا قال عنها الناقد الأدبي جورج باجي عام 1993 إنها في مجاز مرسل مركز تبرز تصور كلي ينتقل من تفاصيل نمو النبات إلى تاريخ المعاناة الإنسانية (ترجمة هذا الكاتب):
أول خضرة الطبيعة من ذهب
لونها الأصعب
الذي لا يبقى
فما يلبث أن يذهب.
و أول أوراقها زهرة
و إنما لساعة
ورقة وراء ورقة.
جنة عدن تغرق في الأسى
و الفجر يغرق في النهار
لا شيء من ذهب يبقى.
و لهذا الشاعر الأمريكي الفذ قصيدة أخرى مشهورة هي (طريق غير مطروق) تعد الى جانب قصيدته القصيرة ( لا شيء من ذهب يبقى ) و قصيدة (إصلاح جدار) أشهر قصائده على الإطلاق. فلا غرو في ذلك ففروست يعتبر من أهم شعراء الانجليزية من المتقدمين و المتأخرين. يعرف بأسلوبه البسيط و الموسيقى المستمدة من الالتزام بالقافية و بحور الشعر الانجليزي. يقول في قصيدته طريق غير مطروق (ترجمة هذا الكاتب):
في الغابة الصفراء افترق طريقان
و أسفاه! لا استطيع ان أسافر فيهما معا
أنا المسافر الوحيد أطلت الوقوف
حدقت في احدهما الى منتهى البصر
أنى انعطف عند الأعشاب تحت الشجر.
بعيدا نظرت الى الطريق الآخر كما نظرت الى الأول
فرب دعواه أفضل
فهو عشبي يريد البلى؛
بيد ان المشي قد أبلاهما معا
و في ذلك الصباح امتدا
تغطيهما أوراق أشجار لم تبليها قدم.
آه! ليوم آخر تركت الأول!
و لأني اعرف كيف تقود طريق الى طريق
سلمت بأني لن أعود.
سوف اخبر بهذا مع تنهيده
سنوات و سنوات من الآن:
في الغابة افترق طريقان
و أنا اخترت أقلهما وطء قدم
و هذا احدث كل الفرق.