عن ناصر البدري وأبوية السلطان

كتب بواسطة المعتصم البهلاني

 

(١)

في هذا الوقت العصيب الذي تمر به المنطقة، لا يمكننا سوى أن ندعو الله أن تمر علينا هذه الريح العاصفة بسلام. أقول، لا يمكننا سوى أن ندعو الله، لأننا خلال العقود الماضية التي تدفق فيها النفط إلى منطقتنا العربية لم نعمل على إيجاد اقتصاد يقوم ويبنى على الإنسان بصفته أساس التنمية. لكننا عوضا عن ذلك، بعنا النفط – بثمن بخس- ومن ثم وزع شيء من ريعه على المواطنين إما بشكل مباشر من خلال دعم الطاقة وبعض السلع وتوفير بعض الخدمات المجانية، أو بشكل غير مباشر مثل التوظيف العشوائي الذي أتخمت به مؤسسات الدولة المدنية منها والعسكرية.

الإنسان هنا لم يكن العنصر الأساسي في معادلة بناء هذه الدول، بل كان المتغنى به في الخطابات الرسمية الجميلة مع وجود خجول لتنميته على أرض الواقع. وبهذا بنيت دول أساسها وسقفها النفط، ولا يعزز أمنها وأمانها سوى تدفقه وتوزيع ريعه على المواطنين. ومع توزيع هذه الثروة على المواطنين – بشكل عادل أو ظالم لا فرق في هذا المقام – غيبت هذه الحكومات عناصر أخرى هامة لا تتعلق فقط بالجانب الاقتصادي على مستوى الإنسان، بل غيبت عنه مشاركته في اتخاذ القرارات المتعلقة بمصيره ومصير الأجيال القادمة. هذه الدول مارست دورا أبويا بحتا، وأصبح حكامها آباء للمواطنين بدلا من أن يكونوا شركاء لهم في تنمية بلادهم. واستمر تعزيز أبوية السلطة طيلة هذه العقود الماضية من خلال ضخ إعلامي لا يبدأ من كتب الروضة ولا ينتهي بأجهزة إعلام الدولة، ناهيك عن قصائد الشعراء، ونصوص الأدباء، وأقلام أصحاب الأعمدة الصحفية. فالمواطن أصبح “ابناً” ينتظر مصروفه الشخصي من “أبيه” الحاكم، وعليه فإن الابن الذي لا يعرف من أين يأتي أبيه بالمال ولا فيم يصرفه يتوقع منه أن يكون المسؤول الأول عن دخله الشخصي وعن أي اضطراب في المنظومة الاقتصادية.

(٢)

المدخل أعلاه في (١) ضروري لمعرفة لماذا أقف مع الدكتور ناصر البدري في المحنة التي يمر بها، ولماذا أقول أن مضمون كلامه صحيح وأن القالب الذي أتى فيه – سواء أتفقنا أو اختلفنا معه – يأتي كنتيجة طبيعية للكيفية التي بنيت فيها الدولة العمانية الحديثة. الدولة الأبوية التي ينظر فيها المواطن إلى السلطان على أنه “الأب” لهذه الدولة، وهذه الأبوة مثلما تأتي بشقها الجميل فهي أيضا تأتي بشقها [الأقل جمالا] والذي يرى فيه المواطن الابن أن السلطان الأب هو وحده القادر على حل كل المشاكل. حاله كحال أبنائنا في بيوتنا، فهم يرون فينا المعيل لهم، وأننا مصدر دخلهم الذي لا ينضب، ومهمتنا هي أن نعمل جاهدين على عدم إحساسهم بأية توترات تحدث في مداخيلنا المالية. أذكر أنني قبل الدخول في لقاء تلفزيوني عند بداية الأزمة النفطية، قالت لي المذيعة خلف الكواليس، “يالله – ننتظر السلطان يرجع [من رحلة العلاج] ويرفع لنا أسعار النفط” لم أمتلك أنا والضيف الاخر الخبير في مجال النفط سوى أن نبلع تعجبنا وندعو للسلطان بطول العمر. هذه هي العقلية الموجودة لدى شريحة واسعة من المواطنين، والتي تعتقد يقينا أن السلطان يملك في يديه عصا موسى التي سيفرق بها بحر الظلمات وسينجينا من طغيان انهيار أسعار النفط. كل ما فعله الدكتور ناصر البدري في تغريداته التي كتبها على موقع التواصل الاجتماعي تويتر هو أنه طلب من السلطان “الأب” التدخل لإيجاد الإصلاحات اللازمة لتستمر هذه العائلة في البقاء متماسكة، هذه الإصلاحات التي بحت أصواتنا منذ تسع سنوات ونحن ندعو ونطالب بوجودها حتى نحافظ على ما كسبناه، وأن نبني عليه ما يمكننا من تدارك الأخطاء – على مستوى الاقتصاد والإنسان معا – التي وقعت خلال العقود الماضية. فنحن نعلم يقينا أنه لا يوجد حراك بشري دون أخطاء، هكذا خلقنا، لكننا نعلم أيضا أن الله أودع فينا القدرة على التعلم من الأخطاء والاستفادة منها واستخدامها لبناء مستقبل أفضل لنا ولأبنائنا.

(٣)

جميعنا يعلم أننا نمر بأزمة اقتصادية صعبة، وكل الدعوات بأن لا نقلق لا محل لها في نفوسنا ونحن نرى أسعار النفط تتهاوى، ولا معنى لدعوات التفكير الإيجابي ونحن نتألم من بعض الإجراءات الاقتصادية التي اضطرت الدولة لاتخاذها لتتمكن من تسيير أمور البلاد. في الوقت ذاته، لا بد على الدولة أن تعي أن “على قدر الألم يكون الصراخ”، وكلما تكشفت عنا حجب تداعيات الأزمة على مستقبل البلاد ازددنا أنينا. وفي هذه الحالة، لم – ولن يكون – التدخل الأمني حلا ولو مؤقتا لهذا الصراخ الذي قد يصدر من بعض المواطنين. ولكن هل تملك الأجهزة الأمنية خيارا آخر غير الاستدعاء والحبس وربما الإحالة إلى الإدعاء العام؟

إنني أفهم جيدا – ولا أتفهم – أن الأجهزة الأمنية لا تملك سوى الخيار الأمني للتعامل مع أية أصوات تتألم من هذه الإجراءات، أقول أنني أفهم ذلك جيدا لأن الخيار الآخر والبديل ليس بيدها، وإنما بيد السلطان “الأب” وحده. الخيار الآخر هو القيام برزمة إصلاحات على مستويات عدة، أهمها القضاء وإعادة هيكلة السلطة السياسية والسعي حثيثا لإيجاد اقتصاد مبني على الإنسان العماني يدا وفكرا. أمر انظرناه منذ أمد، وظننا أن عودة السلطان من رحلة علاجه ستكون فاتحة لهذه الإصلاحات، لكن شيئا من هذا لم يحدث، ولا أدري إلى أي أمد بأمكاننا أن نمد حبل الأمل، ولا أدري أصلا إن كانت هنالك رؤية مشتركة بين من يطالب بهذه الإصلاحات وبين السلطة.

(٤)

يا ناصر، ذنبك أنك كنت مرآة عكست شمس أيلول.

لا يمكنني أبدا أن أتصور أن شاعرا بقامة ناصر البدري أن يسيء إلى السلطان، نحن نعلم جيدا من هو ناصر البدري، نعلم قصائده التي نشرها في حب السلطان. وبغض النظر عن موقفي من مضمون هذه القصائد وأثرها، إلا أنني في هذا الموقف أقول: حدثوا العاقل بما يعقل.

من قال:

أنتَ السماءُ إذا الأكفُ تضرَّعتْ       هطّالُ غيثٍ إنْ تقطَّعتِ السُّبُلْ

والكونُ أنتَ بزهوهِ وزهائِهَ           يخضرُّ إذْ تخطو، وتكلؤكَ المُقلْ

من قال هذه الأبيات في السلطان وغيرها لا يمكنني قطعا أن أتصور أن يسيء إليه. فاللغة يا سادة حمالة أوجه، لذا أقول لكم عودوا إلى ما سطره ناصر البدري من أبيات في حب السلطان، بل وعودوا إلى تغريداته الأخيرة التي كتبها ويبدو أنه احتجز بسببها، سيتجلى لكم أنها فاضت وفاحت بحبه له مهما بدت في ظاهرها غير ذلك.

(٥)

رسالة سريعة إلى الأجهزة الأمنية: أعلم أنكم ترون أن ما تقومون به من استدعاءات هو من باب أدائكم لعملكم وواجبكم، لكنني أدعوكم لرؤية الواجب الوطني في صورته الأكبر. في حال استمرار انخفاض أسعار النفط ربما تضطر الحكومة إلى اتخاذ إجراءات أشد إيلاما مما نمر به اليوم. الحكومة – وليس أنتم – مطالبة أن تكون أكثر شفافية فيما يتعلق بالمستقبل المنظور، وأن تكون الإجراءات المتخذة سارية على الجميع، عندها سيكون المواطن أكثر تفهما وأقل سخطا، لكنه في كل الأحوال سيسخط حينا ويهدأ حينا آخر، من حق المواطن أن يعبر عن مشاعره، وأي كبت لها قد تتحول إلى ما لا يحمد عقباه. لذا، فمن جانبكم، وسعوا صدوركم، فالمرحلة المقبلة لا تحتمل تتبع كل كلمة أو هنة تخرج من شخص هنا أو هناك يعبر فيها عن مشاعره الغاضبة حيال أمر ما. وتذكروا دائما، أن الخوف يدفع الإنسان إلى التمرد.

(٦)

#الحرية_لناصر_البدري

السادس والستون سياسة

عن الكاتب

المعتصم البهلاني

رئيس تحرير مجلة الفلق الإلكترونية