تعد مدينة الـ “polis” من أقدم الأشكال التنظيمية للدولة باعتبارها قوة سياسية، ومؤسسة اجتماعية واقتصادية كبيرة. هذه المدينة ابتدعها اليونان القدامى، بعد احتدامات وصراعات فكرية مريرة استمرت سنوات طويلة بين التفسيرات الأسطورية للعالم والمفاهيم، والتفسيرات العقلانية التي خرجت منتصرة من هذا النزاع لتشكل مدينتها وفقا لتفسيرها ونظرتها للحياة، إلا أن هذه الشكل البدائي للدولة اتسم منذ بداياته بالإقصاء على نحو واضح، فكان تركيزها منصبا على حيازة أكبر قدر ممكن من علامات القوة، البدنية منها تحديدا، لإضفاء الهيبة وطابع الغلبة عليها، وبناء عليه جرى التركيز المعرفي والفلسفي بما يتلاءم وينسجم مع هذه النظرة، إضافة إلى ترسيخ المفاهيم التربوية المرتبطة باستثارة الغرائز العنفية وتغذيتها، وجرى تعميم نظرة الدولة بل وفرضها على جميع رعايا اليونان. وفي المقابل جرى إقصاء كافة المظاهر الفكرية التي لا تتوافق مع هذا التوجه، ليس ذلك فحسب بل إن التعليم في هذه الدولة كان يتوقف عند مستوى معين وعلى نحو إجباري، وكل من يتعداه أو يعمد إلى تطوير قدراته الذهنية على نحو مغاير لما اختطته الدولة في محاولة منه للفهم أو للاستزادة في طلب التفسير وتقديم حلول مبتكرة لقضايا عالقة ومشاكل راهنة، فانه يواجه بالعقاب والإقصاء.
على نحو قريب من هذه الصورة البدائية، فإن دولنا العربية بوضعها الراهن شبيه إلى حد كبير بحال دولة الـ” polis” اليونانية التي اندثرت منذ أكثر من أربعة قرون، لجهة أن أقصى ما تخشاه هذه الدول المعاصرة من مواطنيها أن يعملوا على تطوير قدراتهم الذهنية. هناك خشية حقيقية، ولكن مستترة بأن يصبح المواطن مفكرا في القضايا التي تخصه على الأقل، أو منشغلا بالهمّ العام، يقرأ الحدث الراهن بمختلف مستوياته، الوطنية أو الإقليمية أو العالمية على نحو غير الذي تروج له الرواية الرسمية. وبعيدا عن الإعلان الرسمي النظري للحكومات التي لا تنفك تكرر منذ عقود، على نحو دؤوب لا يعرف الملل ولا حتى التجديد، أن غاياتها القصوى وهدفها الأسمى مصلحة الإنسان ونفعه، نماءه ورفاهه، ليس هو فحسب بل ونسله لسنوات قادمة، فان المواطن الذي امتلأ لدرجة الشبع من هذا الترويج إذا نظر حوله، وهو من المؤكد دائم النظر، فانه لن يجد سوى محاباة ومحسوبية ورشى، وغياب محاسبة وتدن في الخدمات الصحية والتعليمية على وجه الخصوص، والمطلوب من المواطن لا أكثر ولا أقل من أن يكذّب واقعه، ويؤمن بواقع افتراضي تروج له الرواية الرسمية صبح مساء، أن يجد تبريرا لكل هذه الإخفاقات تطمئن إليه نفسه، إن لم يحمل هذه الأخيرة أخطاء لم يرتكبها، ويعفي المسؤولين من أخطائهم، ويبرئ ذمتهم.
ورغم كل الإعلانات الودودة المحبة، فإن الدولة العربية شديدة الريبة بمواطنيها، وفي صميمها خشية حقيقية تجاهه، إلا أنها خشية مستورة، تجليات هذه الريبة واضحة وتطبيقاتها متنوعة، من بينها هذا الانتزاع القهري لكل صاحب كفاءة، أو من قدرت على انتزاعه، وإقصاؤه بعيدا عن مجال اهتمامه الحقيقي، وبالتالي عن مجال تأثيره، وإدماجه قسرا، بسبب انعدام الخيارات، بمجالات بسيطة أفقها متدن ولا تتطلب إلا قدرا متواضعا من القدرة الذهنية. وبالإضافة إلى هذا الانتزاع القهري وتغيير المسار، هناك ما يمكن تسميته بمعالجة الطموح، فالمواطن باعتباره إنسانا يسكن بداخله طموح ما، وهذه الطموحات ليست على درجة واحدة من حيث الاهتمام أو الأهمية، وكذلك من حيث التحفز والاستعداد وفقا لجملة معطيات أبرزها التكوين الذهني للفرد وبيئته الحاضنة، غير أن المشترك الوحيد لطموحات الإنسان العربي على مختلف مستوياتها، وفي الغالب الأعم، ليس الفشل وإنما الإفشال المقصود، فما أن يضع الفرد قدمه على بداية طريق حلمه، يرى نفسه وبعد مضي فترة بمكان غير المكان الذي تخيله ورسمه لنفسه، بعض الطموحات تفشل من بداياتها وبعضها في وسطها، وبعضها تستكمل مراحلها إلا أن النتائج وبصورة غير مفهومة تأتي على عكس ما هو مخطط له تماما.
إن مطلب الدولة العربية من مواطنيها بسيط وسهل، من وجهة نظرها، هي لا تريد إلا الخضوع، وأن يرهنوا قدراتهم برغبتها، وأن لا تتقدم هذه القدرة بحال من الأحوال رغبة الدولة التي يروج لها باعتبارها الحقيقة التي لا يعلوها شيء، أن تقدم الأحلام والطموحات الإنسانية والشغف في المعرفة قرابين والتضحية بها على مذبح الوطن. المطلوب لا أكثر ولا أقل من النهج الذي أورده النص القرآني تذكيرا وإعادة استحضار لتجربة إنسانية عتيقة توازي تجربة دولة الـ “polis”، ولا يزال هذا النص المقدس صالحا وترجمانا حقيقيا لسياسة الإقصاء وترسيخ الخضوع: “ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد “.
على مذبح الدولة
دولنا العربية بوضعها الراهن شبيه إلى حد كبير بحال دولة الـ” polis” اليونانية التي اندثرت منذ أكثر من أربعة قرون، لجهة أن أقصى ما تخشاه هذه الدول المعاصرة من مواطنيها أن يعملوا على تطوير قدراتهم الذهنية.