سُنَنَية رسالة المسيح عليه السلام
(عندما تكلم عيسى في المهد) ج1
كلم المسيح عيسى بن مريم الناس بكلام حكيم في مهد حياته، وكلامه الحكيم مما علمه الله إياه (وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ) المائدة:110 وهذه الحكمة لازمته منذ مهده إلى كهولته، وانعكست حكمته في إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وخلقه من الطين كهيئة الطير؛ وهي آية ما ينفع الناس بطابعها الكوني السُنني (انظر: سلسلة مقالات “سُننية رسالة المسيح” في مجلة الفلق).
وآيات الرسل مثل إبراء الأكمه والأبرص والكلام الحكيم في الصِبا معادل موضوعي لآيات الكون (وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) البقرة:164 كلها آيات من عند الله لقوم يعقلون.
-1-
لم يحدد القرآن موقع ولادة المسيح، والنظريات التاريخية في ذلك متباينة بحسب المصادر المعتمدة وطرق قراءتها وبحثها، والقرآن كثيراً ما يختصر المسافات الزمنية، وينتقل في الخطاب من الدنيا إلى الآخرة أو من لحظات دنيوية إلى أخرى دون الالتفات إلى الفاصل الزمني بينهما سواء كانت ثوان أو أعوام، القرآن ذكر حمل السيدة الطاهرة مريم؛ ثم انتقل إلى لحظة المخاض مُجرداً القصة من تفاصيلها الاجتماعية والجغرافية، فلا يذكر:
ماذا حدث بين لحظتي الحمل والمخاض؟ فلا يذكر القرآن تفاصيل الفترة بين الحمل والوضع.
وهل استطاعت مريم البقاء في قريتها طوال فترة الحمل، أم أنها غادرتها إلى أخرى ثم عادت إليها؟
وأين كان موقع قريتها الأصلية؟ وإذا كانت قد غادرتها مع بداية الحمل فأين كانت وجهتها؟
وإذا عادت؛ فمتى كانت العودة، هل كانت بعد الوضع مباشرة أم كانت بعد أن تمهد الأمر للصبي للكلام الحكيم؟
وهل كان لكفيلها النبي زكريا دور في هذه الأحداث أم أنه غادر الدنيا قبلها؟
القرآن لا يُعنى بإيراد دقائق التفاصيل التاريخية، لذا ينتقل في قصصه من لحظة زمنية إلى أخرى دون الالتفات إلى طول أو قصر الفترة الزمنية الفاصلة بين اللحظتين، فهدفه توظيف قصص الرسل والأنبياء والصالحين في هداية ونفع الناس.
الفخر الرازي في تفسيره لم يستبعد أن يكون هناك فاصل زمني طويل نسبياً بين لحظة الولادة وقدوم السيدة مريم على قومها، ويبرر ذلك بقوله (وليس في القرآن ما يدل على التعيين)، وطالما أن القرآن لم يحدد مدد الفواصل الزمنية بين ولادة المسيح وكلامه الحكيم؛ فلا نستطيع الجزم بأنها كانت متلاحقة بحيث توصلنا إلى فرضية كلام الصبي الرضيع.
الذي أراه من خلال قراءة أحداث قصة السيدة مريم في القرآن؛ أنها غادرت قرية قومها بعد حملها، وولدت في منطقة أخرى، وبعد بضع سنوات أتت به قومها تحمله (فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا، يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا، فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا، قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا، وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا، وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا، وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) مريم:27-33.
ويؤيد ذلك أن الكلام الحكيم الذي صدر من الصبي لا بد أن يكون قد تمهد له من العمر ما يجعله قادراً على الاستيعاب والفهم، فعندما أتت به مريم قومها كان صبياً مُمَيِزاً يَعي ما يقول، وعندما وصلت بادرها قومها بالهجوم والاتهام بعد غياب كل تلك السنين، إذ لو كانت بين أظهرهم في الفترة الماضية لما بادروها بسيل الاتهامات.
-2-
إنسانياً لا بد أن تصاب السيدة الطاهرة مريم بالذعر من مواجهة واقع سيستمر باقي العمر؛ وهو أن يكون لها ولد من غير يمسسها بشر ولم تك بغياً آية للعالمين، لكن جاءها التطمين (فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا) مريم:26.
بعد غيبة ليست بالقصيرة عن ديار قومها؛ أتت مريم قومها (فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ) مريم:27 وعندما بادرها قومها بسيل الاتهامات (قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا، يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) مريم:27-28 أحالت الإجابة إلى ولدها الصبي مما أثار استغراب واستنكار قومها (فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) مريم:29.
(تَحْمِلُهُ) الحمل في لسان القرآن يدل على معنى تشكيل أو تشكل نطاق مادي/معنوي متسع ملائم:
المرأة تحمل جنيناً في رحمها (وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) الطلاق:4
ويُحمل الناس على الفلك (وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) المؤمنون:22
وتُحمل الأوزار والخطايا (لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ) النحل:25
(وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُم بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُم مِّن شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) العنكبوت:12
وحمل الأوزار والخطايا معنوي ليس مادياً، بحيث يتشكل نطاق معنوي يُساءل به الإنسان عن كسبه، ويُحمَل الناس على الفُلك لما تشكله من نطاق مادي يسعهم.
وعندما أتت مريم بعيسى وهو صبي تحمله؛ فإن حملها له يمكن أن يكون مادياً أو معنوياً، فيمكن أن تحمله بيديها أو على ظهرها أو كتفها، أو توفر له في سيرهما من الطمأنينة والرعاية ما يشكل نطاقاً له، وكل ذلك سائغ في اللسان.
أشارت مريم إلى عيسى الذي كان في المهد للكلام عنها (فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) مريم:29 فاستنكر قومها ذلك وتعجبوا منه؛ لأنهم حسبوه صبياً لا يُميِز ما يجري حوله، وكونه في المهد يعني أنه في مرحلة عمرية تمهده للوصول إلى مرحلة البلوغ، فالأقرب أن يكون في عُمر:
– يميز ويستوعب فيه ما يجري حوله
– يكون فيها الصبي محتاجاً إلى أمه
وهذا يُعقل من كلمة (تحمله) بما تتضمنه من حاجة إلى رعاية أمه.
(مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) المهد في لسان القرآن من الجذر (مَهَدَ)، وهو دال على التهيئة بإزالة واستبعاد ما يعوق وتوجه إلى ما يلي من المراحل، وورد الجذر (مهد) في القرآن:
أ. (وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا) المدثر:14
التمهيد هو التهيئة والتوطئة كما قال السمعاني، وذهب قطاع من التفسير أن التمهيد هنا بمعنى بسطت له العيش وطول العمر، والصواب أن التهيئة بالاستبعاد والتوجيه هي التي تؤدي تالياً إلى السعة والزيادة، فالسعة والزيادة نتيجة التمهيد وليست هي التمهيد.
ب. (مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) الروم:44
من عمل صالحاً يمهد لنفسه أي يهيئ لها حياة آمنة مستقرة ونجاة وسعادة في الآخرة، وذلك باستبعاد ما يعوق ذلك والتوجه إلى ما ينفع.
ج. (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) الزخرف:10
جعل الله الأرض مهداً؛ أي مهدها لتكون صالحة للعيش فيها، وذهب التفسير أن مهداً في هذه الآية تعني فراشاً، لكن يعكر صفو هذا التفسير أن في القرآن (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء) البقرة:22 فالله جعل لكم الأرض فراشاً، فما الذي يدعو أن تكون (مهداً) مرادفة لـ(فراشاً)؟!، الصواب أن (مهداً) تتضمن معنى مختلفاً؛ هو تهيئتها بإزالة ما يعوق العيش فيها.
وليس في اللسان العربي ترادف بين الكلمات، فكل كلمة تعطي مآلات مختلفة عن الأخرى، حتى لو كانت تدل على نفس المسمى، قد تتقاطع مآلات الكلمات وتكون بينها مشتركات، لكن لا توجد كلمة تغني عن الأخرى، فأسماء الله كلها دالة عليه سبحانه، ودلالة كل اسم منها لا تطابق الأخرى.
-3-
بنى الجمع الروائي/اللغوي نظريته في كلام الصبي الرضيع على ما قرره من أن (المهد) يعني الموضع الذي يُهيّأ لينام فيه الصبي، وقد قال عدد من اللغويين والمفسرين بأن أصل (مَهَدَ) هو الموضع الذي يهيأ للصبي الرضيع، وفرعوا على هذا الأصل أن (مهداً) في الآية (جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا) تعني فراشاً.
وأحد مكامن الخلل الكبرى في الجمع الروائي/اللغوي؛ أنه يختار مفردة من بيئته الزمنية الإقليمية لتكون أصلاً يُهيمَن به على القرآن، وبمرور الزمن تعجز تلك المفردة بطاقتها الزمنية أن تعبر عن المآلات المتجددة لآيات الكتاب، ونظلم آيات الله عندما نحبسها في صندوق جمع لغوي ضيق تفاعل مع الآيات بقدر وسعه الزمني، وهذه المآلات أوسع من أن تحتويها معارف زمنية انتهت مدة صلاحيتها منذ قرون.
وقد عرف الجمع اللغوي القديم والحديث معنى التهيئة والتوطئة للجذر (مَهَدَ) ضمن حزمة من مجموعة من المعاني التي تداولتها كتب اللغة؛ ففي الجمع اللغوي القديم:
قال الليث: المهْدُ للصّبيّ، وكذلك الموْضعُ يهيّأ لينام فيه الصبي
أبو عبيد: مهدَ لنفسه يمهد مهداً؛ كسب وعمل
تَمْهِيدُ الأَمُورِ: تسويتها وإِصلاحها
مهَدْتُ لنفسي خيراً: أي هيّأتُه ووطّأته
(فلأَنفسهم يَمْهَدُون) أَي يُوَطِّئُون
ومَهَدَ لنفسه خيراً، وامتَهَدَه: هيأه وتوطأه، ومهدت الأمر وطأته وتمهد توطأ
(انظر: تهذيب اللغة، لسان العرب).
وفي الجمع اللغوي المعاصر؛ يطلقون على المراحل الأولى في التعليم والمنافسات الثقافية والرياضية (المراحل التمهيدية)، أي أنها تهيئ بإزالة العقبات وتوجه نحو المراحل التالية.
وأرى أن المعنى الجامع للجذر (مَهَدَ) هو تهيئة لما يلي باستبعاد ما يعوق، فمرحلته العمرية المبكرة مهد؛ أي أنها تمهيد لما يأتي من مراحل تنضج فيها معارفه وخبراته، وأعرض الجمع الروائي/اللغوي عن فكرة الصبي الممَيِز القائل للكلام الحكيم، رغم أنها محتملة وفقاً لبعض ما يختزنه هذا الجمع؛ وفَضَّلَ عليها فكرةَ الصبي الرضيع، المتوافقة مع قراءة الآيات بمنطق المعجزات والخوارق الموروثة من التراث الكتابي القديم.