التفرغ الأدبي وصناعة اللؤلؤ

التفرغ الأدبي يقصد به إتاحة المجال للمثقف/المبدع أن يفرّغ نفسه لإنجاز مشروع أدبي محدد, وفي الأثناء تضمن له الجهة الثقافية الداعمة حصوله على وقت كاف لإتمام مشروعه، وتوفر له مصدر دخل ملائم يكفل له عدم الانشغال بالمتطلبات المعيشية كي يتفرغ لمشروعه الإبداعي.

لفترة ما أصبحت منحة “التفرغ الأدبي” تقليعة تمارسها وزارات الثقافة في الدول العربية, وربما ما زالت هذه التقليعة ناشطة ومرغوبة, تسعى لها جهات مختلفة داعمة للثقافة. وبنفس الوقت, مازال هناك من يطالب بها من المثقفين والمبدعين باعتبارها “مستحقات” على السلطة.
التفرغ الأدبي يقصد به إتاحة المجال للمثقف/المبدع أن يفرّغ نفسه لإنجاز مشروع أدبي محدد, وفي الأثناء تضمن له الجهة الثقافية الداعمة حصوله على وقت كاف لإتمام مشروعه، وتوفر له مصدر دخل ملائم يكفل له عدم الانشغال بالمتطلبات المعيشية كي يتفرغ لمشروعه الإبداعي.
هذا هو المؤدى العام للعملية وكذا هو ظاهرها، أما باطنها فإن هذا الدعم ربما يأتي من باب التكريم لهذا المثقف عن إنجازات سابقة, أو لإستيفائه الشروط المطلوبة للمنحة المعلن عنها. بالطبع منح التفرغ الأدبي من عدمه يعتبر مسألة اختيارية للجهة الداعمة, وتخضع أحياناً لاعتبارات تبدو ميتافيزيقية, وربما يستند بجزء كبير منها على اسم المثقف نفسه وشهرته (أو منصبه) ومحسوبياته وعلاقاته الشخصية أكثر ما يكون على جدّية المشروع الإبداعي أو قدرة المثقف على انجازه بالمستوى المطلوب.
يخطر بالبال, أن عنترة بن شداد لم يتفرغ للأسف, إذ لم تكن هناك جهة تقوم بذلك في عصره, وكان عليه أن يرعى الغنم ويحتطب, ويحلب النوق ويدافع عن شرف القبيلة تحت غبار المعارك. ورغم ذلك, حتى ابنة عمه لم تعترف به وبشعره وفروسيته. أبوالطيب المتنبي كذلك, لم يكن متفرغا, بل المسكين استمات لكي يحصل على منصبٍ ما في وزارة ثقافة الحمداني. تخيلوا لو أن أبا فراس الحمداني أعطى ذلك المنصب للمتنبي كنوع من التقدير الأدبي له، هل تشعرون بفداحة المصيبة التي كانت ستقع على رؤوسنا؟؟ لقد أهدى الحمداني أكبر مفخرة شعرية للأمة العربية بسبب حرمانه للمتنبي مما يريد.
وماذا عن وليم شكسبير؟ وليم شكسبير أيضاً يا سادة لم يتفرغ طوال حياته, كان ممثلا مسرحيا, وفي وقت استراحته بين العروض المسرحية, وقبل ان يخلع ملابسة الثقيلة المزركشة, كان يكتب وينقح المسرحيات التي يمثلها, والتي أصبحت جميعها تحمل اسمه. تخيلوا لو أن شكسبير تم تفريغه من قبل ملكة بريطانيا ليكتب مسرحياته الشهيرة؟؟ تخيلوا لو أنها قالت لخدمها: أعطوه ألف ألف دينار ليتحفنا بإبداعه الذي رفع رأسنا عالياً. أجزم أنه كان سيأخذ المبلغ, شاكراً لها وطابعاً قبلة على يدها الكريمة, كما يفعل رجل نبيل, ثم سيهرب مع فرقة غجرية الى خارج البلاد.
وهكذا, وعلى مرّ العصور والى عصرنا الحالي, لم يكن الأدباء والشعراء والمبدعون العظام أشخاصا متفرغين أبداً وبتاتاً. لقد انطلق ابداعهم من خلال معاناتهم ومكابدتهم الحياة وانشغالاتها الكثيرة التي ضغطتهم ففجّرت مواهبهم.
مسألة التفرغ الأدبي, هي تقليعة حداثية هدفها–برأيي- استجلاب النفقة للمثقفين لا أكثر, لكنها بشكل أو بآخر تقوم بعكس ما أريد منها تماماً, إذ أنها تبدو كمحاولة لإسكاتهم بعطايا تنزع عنهم إبداعهم الحقيقي وتجبرهم على تقديم ما هو أقل بالمستوى المطلوب, إذ بالنهاية سيجلس المثقف كـ “الطاعم الكاسي” شاكراً النعمة التي هبطت عليه, محققاً بذلك مكسباً واحداً للسلطة, إذ أنها ضمنت أنه لن يتذمر ليل نهار من خطيئة التخلي عنه, أو من جريمة قتل الإبداع فيه. وهي ذريعة صار يرددها الكثير من المثقفين المفلسين هذه الأيام.
حسناً, قد يقول قائل: وماذا في ذلك، الخير كثير, والأموال تذهب لمن يستحق ولمن لا يستحق، فلماذا نبخل على المثقفين/المبدعين ؟ ألا يعني ذلك أننا نحسدهم على حصولهم على (عظمة من يد السلطة) وهو أقل “استحقاقاتهم” عليها؟كلا, الأمر ليس كذلك, فالمسألة برمتها تتعلق بالمخرجات المطلوبة والتي ننتظرها من وراء التفرغ الأدبي والإبداعي. لقد دلّت كل التجارب السابقة على أننا يجب ان لا نرفع توقعاتنا كثيراً بما سيتحفنا به(المتفرغون) بأعمال إبداعية. بمعنى أخر, من السذاجة الإعتقاد بأننا سنكون أمام أعمال إبداعية مبهرة وعظيمة منذ البداية. فالملاحظ أن أغلب الذين تفرّغوا(سلقوا) مشاريعهم الإبداعية خلال الـثلاثة أشهر الأخيرة من موعد تسليمها للجهة الداعمة.
كثير من الناس لا يستطيعون التفريق بين اللؤلؤ الطبيعي واللؤلؤ الصناعي (المستزرع). لكن–ربما لسوء الحظ- مازال هناك أناس يستطيعون التمييز بينهما. لذلك فـ(الجواهرجية) يضعون سعراً باهظاً للؤلؤ الطبيعي وآخر أقل بكثير للؤلؤ الصناعي. المسألة هنا لا تتعلق بكون الطبيعي هو لؤلؤ, والصناعي ليس كذلك. كلاهما لؤلؤ, لكن الأمر يتعلق بطريقة وطبيعة تكوين اللؤلؤ نفسه وسماكة طبقته وأشياء أخرى يجهلها عامة الناس.
اللؤلؤ الطبيعي يتكون حين يدخل جسم أو حصى إلى داخل المحارة في أعماق البحر, ولكي تخفف المحارة من ازعاج هذا الجسم ونكده لحياتها في الداخل, تفرز عليها طبقة اللؤلؤ الطبيعي الذي نعرفه, وذلك ضمن سياق بيئي طبيعي, وهذه العملية قد تستغرق لسنوات طويلة .. بينما اللؤلؤ الصناعي المستزرع هو ان تأخذ المحار من بيئته الطبيعية وتحبسه في مزارع وترغمه على ابتلاع الحصى بقطر وشكل وقياسات محددة, وبعد فترة تخرج الحصى بعد أن تكون قد تكونت عليها طبقة ليست سميكة من اللؤلؤ، هذا هو الفرق بين اللؤلؤ الطبيعي والصناعي.
في الأدب, الإبداع هو لؤلؤ طبيعي لا شك .. بينما التفرغ الأدبي هو محاولة استزراع للإبداع من خلال توفير الظروف الملائمة (بإعتقاد جهة ما) .. لكن جوهر الإبداع هو التأزم, المشكلة, العقدة, المعاناة, الصراع .. الذي يمارس دور عامل التحفيز الأهم لإنتاج الأدب/اللؤلؤ. وما فات (الجهة الداعمة) أن المثقف/المبدع قد يستسهل العيش الرغيد, وهذا حتماً لن يمكنه من الإبداع الحقيقي. لقد فات (الجهة الداعمة) أهمية تلك الحصى التي تدخل الى قلب المحارة بسياقها الطبيعي.
أعلم أن ما أقوله لن يجد آذانا صاغية, لأنه ببساطة يتعارض مع صيرورة الحياة المادية والبراغماتية التي نعيش. لكنني انطلق من وجهة نظر تناهض استزراع الأدب والإبداع, لأننا للأسف أصبحنا نجد صعوبة في العثور على اللؤلؤ الطبيعي أمام الكم الكبير من المعروض الصناعي والمدعوم حكومياً. وما يزيد الطين بلّة, أن السوق يكاد يغرق بأنواع بلاستيكية مختلفة, تحاول ان تحاكي الطبيعية. يضاف الى ذلك أن الجواهرجية أنفسهم–للأسف- أصبحوا غشاشين.

أدب السبعون

عن الكاتب

رأفت خليل عبدالله