حول التسامح

وفي المقابل لم نشهد في العالم الإسلامي وللأسف الشديد رسالة واحدة في مفهوم التسامح كرسالة فولتير ونحن عندما نفتح الكتب الففقهية التي تقوم بشرح وبيان الأحكام الفقهية والدينية للمسلمين فإن أول باب يطالعنا هو باب الطهارة ومن ثم باب العبادات مثل الصلاة والصوم وغيرها إلى أن نصل إلى باب المعاملات مثل أحكام الزواج والطلاق والبيوع والتجارة وغيرها وعادة ما تكون خاتمة الكتاب في ذكر مسائل الجهاد والإمامة .

tasam72

حول التسامح

صالح البلوشي

في القرن الثامن عشر الميلادي وبينما كان الحرب على أشده بين الكاثوليك والبروتستانت في اوروبا وخاصة في ألمانيا وهولندا وفرنسا وغيرها بعد الثورة الإصلاحية التي قادها القس الألماني مارتن لوثرفي القرن السادس عشر وأدت إلى فصل الكنيسة البروتستانتية عن الكنيسة الكاثولكية الام رأى ثلة من فلاسفة أوروبا الكبار أنه لا افق قريب تنبىء بنهاية قريبة لهذه الحروب الأهلية الطائفية إلا بنشر وترسيخ مفهوم التسامح في المجتمع بحيث يستطيع الجميع أن يعيش بسلام ووئام دون أن يتدخل كل فريق في عقيدة الآخر وفي تلك الفترة العصيبة في تاريخ أوروبا ألف الفيلسوف الفرنسي الشهيرفولتير رسالته الشهيرة ” رسالة في التسامح ” لتكون صرخة في وجه التعصب الطائفي والديني وقال فيها بإن التسامح لم يتسبب قط في إثارة الفتن والحروب الأهلية في حين إن عدم التسامح قد عمم المذابح على وجه الأرض فلنحكم الآن بين تينك الغريمتين بين الام التي تود أن يذبح أبنها والأم التي تتخلى عنه كي يبقى على قيد الحياة وقال بانه لا يريد من رسالته إلا خدمة مصالح المجتمع المادية والمعنوية وأنه يتمنى من كل قارىء أن يتمعن جيدا في حقيقة التسامح ويعمل على نشرها من اجل عالم افضل خال من الكراهية والحروب .

وفي المقابل لم نشهد في العالم الإسلامي وللأسف الشديد رسالة واحدة في مفهوم التسامح كرسالة فولتير ونحن عندما نفتح الكتب الففقهية التي تقوم بشرح وبيان الأحكام الفقهية والدينية للمسلمين فإن أول باب يطالعنا هو باب الطهارة ومن ثم باب العبادات مثل الصلاة والصوم وغيرها إلى أن نصل إلى باب المعاملات مثل أحكام الزواج والطلاق والبيوع والتجارة وغيرها وعادة ما تكون خاتمة الكتاب في ذكر مسائل الجهاد والإمامة .

ولكن برز في السنين الأخيرة البحث في بعض المسائل المستحدثه وبدأنا نسمع عن كتب بعناوين فقهية جديدة مثل ” فقه الطب ” أو ” فقه البيئه ” أو فقه ” المسائل الحديثه ” وكلها تتحدث عن بعض القضايا الحديثة والتي لم يتطرق إليها الفقهاء الماضون بحكم البعد الزماني والمكاني وإختلاف ظروف عصرهم عن العصر الحاضر .

ولكن مع تعدد أبواب الفقه وتشعب مسائلها فإننا لا زلنا نفتقد إلى فقه التسامح الذي يبحث عن الإختلاف في الرأي وكيف نتعامل مع الآراء الاخرى المعارضة لنا وليس هذا فحسب بل في مقابل هذا الغياب الواضح لفقه التسامح فإن هناك بابا آخر له وجود بارز في أغلب كتب العقيدة المعتمدة عند المذاهب الإسلامية المختلفة وهو باب ” الولاء والبراء ” وتحت عنوان هذا الباب يجد القارىء نفسه أمام الكثير من الآراء والأقوال في البراءة من عقائد المذاهب الأخرى وربما تكفيرهم أيضا تحت مسميات مذهبية متعددة مثل أهل البدعة والجهمية والمجسمة وغيرها من المسميات التي تنطلق من الإيمان بعقيدة الفرقة الناجية والطائفة المنصورة وغيرها من المسميات المذهبية الضيقة وللأسف الشديد فإن هذا الباب موجود في جميع المذاهب الإسلامية بدون إستثناء .

وأنا ارى من خلال تتبعي البسيط فأنه بإستثناء كتب قليلة جدا ونادرة وربما تعد على أصابع اليد التي تحدثت عن الدعوة إلى إسلام واحد بعيد عن الطائفية والمسميات المذهبية الضيقة ورفضت مفاهيم التكفير والإقصاء والتضليل وغيرها فإن الطابع الإقصائي لا زال هو السائد في أغلب الكتب المذهبية .

يقول الفيلسوف الفرنسي الكبير فولتير في رسالة التسامح : ” لقد وجد الدين ليجعلنا سعداء في هذه الحياة الدنيا وفي الآخرة , ما المطلوب كي نكون سعداء في الآخرة ؟ أن نكون صالحين . وما العمل كي نكون سعداء في هذه الدنيا في حدود ما يسمح به بؤس طبيعتنا ؟ أن نكون متسامحين “.

كان من المفترض أن تكون الأديان مشعلا لتكريس ونشر قيم الأخوة والتسامح بين الناس ولكن وللأسف الشديد ونتيجة للقراءات الخاطئة والتفسيرات الإقصائية لفلسفة الأديان فقد تحولت إلى مصدر للتعصب والكراهية بين مختلف أفراد المجتمع وخاصة في المجتمع الواحد وفي داخل الدين برز مسألة المذاهب التي كفرت بعضها بعضا بل وتحاربت وتقاتلت بإسم الدين والشريعه وفي داخل المذاهب برزت كيانات وإتجاهات داخلية مما وسع من دائرة الإنشقاقات وبات\لتالي ساهمت في زيادة رقعة التكفيرلتطال الجميع بدون إستثناء .

يقول المفكر الهولندي توماس مارتنز ” إن مبدأ التسامح يتطلب من الناس أن يتعايشوا في سلام مع من يحملون معتقدات وقيم مغايرة أن التسامح فضيلة تعني في الأساس الإستعداد لأن نسامح لان تحمل ما لا نرغب في سماعه وما ننزعج منه ليس بالأمر السهل وإنما يحتاج إلى الكثير من الصبر والمران ولعل أول رد فعل طبعي يمكن أن نلمسه هو عندما نقوم بمحاولة إقناع الآخرين بخطأ ما يفعلونه أو تغيير وجهات نظرهم حسبما نعتقده إن رفض الإقتناع بوجهة نظرنا يجعلنا نحاول أن نتخلص من هذه المشكلة كلما تمكنا من ذلك ” ( مجلة التسامح ص 191 العدد رقم 18 ربيع 1428 / 2007 )

إن مبدأ التسامح يقوم على إحترام الآخر وحقه في التعبير عن رأيه بكل حرية وشفافية مهما كانت معارضتك لذلك الرأي الذي يجب أن تكون معارضة منهجية قائمة على الدليل والبرهان وليس على الإلتزام المذهبي والتعصب الطائفي كما هو الحاصل وللأسف الشديد اليوم في أغلب المجتمعات الإسلامية .

صفحات مؤلمة من تاريخ الأمة :

لقد مرت على تاريخ المسلمين الكثير من الفترات التي ساد فيها روح التعصب والكراهية للآخرين المخالفين في المذهب والطائفة وحتى في الآراء الفقهية ومن الغريب إن هذه الصفحات تخلو منها الأمة الإسلامية في العلاقة مع أصحاب الديانات الاخرى مثل اليهود والنصارى والصابئة والمجوس وغيرهم وتقتصر على معاملة المسلمين بين بعضهم البعض وهذا الموضوع بحاجة إلى دراسة سيكلوجية موسعة لمعرفة أسباب ذلك وكيف يكون المسلم متسامحا مع المخالف له في الدين وفي نفس الوقت يكون تعامله مع أخوه المسلم الذي يخالفه في المذهب يتخذ شكلا آخر أشد عنفا وربما يصل إلى الدموية أيضا ؟

يقول الشيخ محمد جمال الدين القاسمي ” لقد أريقت دماء محرمة وعذبت أبرياء بالسجون والنفي والإهانات بإسم الدين ” ويقول أيضا ذاما للتعصب الأعمى الذي لا يفرق بين البريء والمدان : ” إن التعصب يحمل على الأخذ بالظنة أو الإيقاع بالشبهة وإن المتطوعة بالشهادة قد يحملهم على إختلاقها ظن الأجر بنصرة الدين بقتل أولئك المساكين لا سيما إذا دفعوا بتشويق المتصولحين والمتمفقرين والحشوية البكائين إحتيالا وقنصا للمغفلين ” .

ومما لا شك فيه فإن ترسيخ مبدأ التسامح الديني في المجتمع سوف تحدث الكثير من التحولات سواء في الواقع الإجتماعي أو السياسي في المجتمعات الإسلامية وسوف تفضي إلى إختفاء الكثير من مظاهر التعصب والتطرف الذي اتخذ منحى خطيرا جدا في الأعوام الأخيرة عن طريق الإستهداف المسلح وربما التفجيرات الدموية التي طالت أيضا المساجد وأماكن التجمعات الدينية للطوائف الاخرى وبرز هذا المنحى الدموي بشكل خاص في العراق بعد الإحتلال الامريكي وأيضا باكستان

.

يصف الفيلسوف الفرنسي الشهير فولتير التعصب في القاموس الفلسفي بقوله ” إن التعصب هوس ديني فظيع مرض معد يصيب العقل كالجدري وهؤلاء المتعصبون قضاة ذوو أعصاب باردة يحكمون بإعدام الأبرياء الذين لم يفكروا بطريقتهم ولا يوجد علاج لهذا الداء المعدي إلا الروح الفلسفية التي بانتشارها شيئا فشيئا تتهذب أخلاق البشر وتتحاشى التطرف وليس الدين أو القوانين بكافيين لمكافحة هذا الطاعون ” ( مجلة التسامح مقال للاستاذ عاطف علبي تحت عنوان ” إشكالية التسامح ” )

وقد رأينا ما فعلت السيارات الإنتحارية والأحزمة الناسفة في أسواق العراق والجزائر وأفغانستان من قتل جماعي للبشر بإسم الدين ونصرته تدفعهم إلى ذلك التعصب الأعمى والجهل وشيوخ لم يسمعوا في حياتهم عن فقه التسامح

.

يقول المفكر الإيراني الإصلاحي الدكتور محمد مجتهد الشبستري في مقالة له تحت عنوان ” الإيمان . الحكومة . السياسة ” ما نصه : ” فلا يمكن تحقيق المجتمع الديني في جميع أبعاده بإستخدام أدوات القهر والعنف فقد يكون لدينا إيمان حقيقي وإختيار للدين ولكن لا يمكن أن يكون لدينا علم وفلسفة وفن وصناعة وحضارة صحيحة وحقيقية إن القوة والعنف آفة الإيمان ولا يمكن أن يكون الإيمان على أساس القوة وإن المجتمع الذي يقوم على دعامة الإستبداد والعنف لا يوجد فيه مجال للعقل والإيمان

كيف ندعم فكرة التسامح ؟

بين الفترة والأخرى تقام مؤتمرات للتقريب بين المذاهب الإسلامية أو الحوار بين الأديان في بعض العواصم العربية والأجنبية المختلفة والغرض من إقامة هذه المؤتمرات كما يقول القائمون عليها هو ترسيخ مفهوم التسامح بين المذاهب والأديان المختلفة والعمل على دعم القواسم المشتركة بينها ولكني أرى إن جميع هذه المؤتمرات لن تستطيع أن ترسخ قيم التسامح والتعددية لسبب بسيط جدا وهو إنها تبحث عن القواسم المشتركة ومن ثم العمل على الإتفاق عليها والعمل في ضمن أطرها بينما كان من المفترض أن تبدأ هذه المؤتمرات على مبدأ الإعتراف بالآخر أولا ومن ثم الحوار معه ورغم كثرة هذه المؤتمرات وخاصة في التقريب بين المذاهب الإسلامية إلا إنها تعمل داخل الغرف المغلقة ولا يسمع بها المواطن العادي فكيف تستطيع إذن ترسيخ قيم التسامح بين المسلمين وهي فشلت حتى في ترسيخه بين اعضاءها ؟

ولذلك يقول الدكتور علي حرب إن من المحال ترسيخ ثقافة التسامح بين المذاهب الإسلامية دون أن يعترف كل فريق بالآخر ويعترف بالتعددية الدينية وإلا فإن هذه المؤتمرات لن تكون سوى مضيعة للوقت فقط

.

المصادر :

1 – رسالة في التسامح للفيلسوف الفرنسي فولتير . منشورات رابطة العقلانيين العرب

2 – كتاب ” تاريخ الجهمية والمعتزلة ” للشيخ جمال الدين القاسمي مكتبة النافذة . مصر

3 – كتاب ” مطارحات في عقلانية الدين والسلطة ” للدكتور مصطفى ملكيان والدكتور مجتهد شبستري . دار الجمل

4 – مجلة التسامح العدد رقم 18 ربيع 1428 / 2007

__________________

العدد الثالث ثقافة وفكر

عن الكاتب

صالح البلوشي

كاتب عماني