سيرة المسلمين: تقاليد الحكم والسياسة في عُمان ،تطبيق الشريعة (آلات اللهو/المَزِيقيا/المُوسيقى)

الأصل أن الآلات الموسيقية ليست من موضوعات الحكم والسياسة، لكن إذا تداولتها السلطة في تشريعاتها وقراراتها فذلك يدخلها ضمن تقاليد الحكم والسياسة، وهذا ما حصل في سيرة المسلمين، فقد حظي الموضوع باهتمام السيرة ممثلة في أعلام المسلمين الذين كانوا يعينون الحاكم ويعزلونه.

تطبيق الشريعة شعار ترفعه كل الحركات والتنظيمات الإسلامية المعاصرة ذات الجذور التاريخية القديمة، وكثيراً ما آل هذا الشعار إلى استنساخ تجارب تاريخية انتهت مدة صلاحيتها الزمنية، وما ذلك إلا بسبب خلط الشريعة بآراء الناس وتجاربهم، وعندما تقدم آراء الناس وتجاربهم على أنها شرع الله تضطرب الحياة وتتشوه صورة الشريعة في الأذهان.
سيرة المسلمين في عُمان وهي تقاليد الحكم والسياسة منذ عام 132ه؛ تجربة فيها الصواب والخطأ كأي تجربة إنسانية أخرى، وكل حقبة زمنية فيها عكست طبائع الاجتماع البشري وثقافة العصر وأنماط التفكير الإنساني فيها، وأفضل ما يمكن استصحابه من هذه التجارب ضرورة تطوير: الاجتماع البشري والأفكار الإنسانية التي تحكم هذا الاجتماع.

-1-
الأصل أن الآلات الموسيقية ليست من موضوعات الحكم والسياسة، لكن إذا تداولتها السلطة في تشريعاتها وقراراتها فذلك يدخلها ضمن تقاليد الحكم والسياسة، وهذا ما حصل في سيرة المسلمين، فقد حظي الموضوع باهتمام السيرة ممثلة في أعلام المسلمين الذين كانوا يعينون الحاكم ويعزلونه.
1. محمد بن محبوب (ت:260 ه)، من أعلام المسلمين الذين عينوا الإمام الصلت، وأحد كبار القضاة، وهو من الكُتَّاب الأُوَل لسيرة المسلمين من خلال رسائله إلى أهل المغرب وحضرموت، نقلت عنه عدة آراء حول آلات اللهو كانت الرافد الرئيس لموقف الدولة والفقه.
عن محمد بن محبوب: (ضرب الطبل لا بأس به، وأما الدهر فيخرق الأديم الذي عليه) بيان الشرع ج29 ص46، والدهر أو الدهرة هو طبل صغير طويل يضرب للهو.
سُئل أبو عبد الله محمد بن محبوب (عن رجل ضرب الدفاف والمزامير والأدهار هل ينكر عليه؟ فأما الدف وحده من غير لعب فلا بأس به من غير لعب، وأما إن كان معه لعب أنكر على أهله، والمزامير والأدهار منكر أيضاً. وقلت: هل تكسرون ذلك إن قدرتم عليه؟ فلا أرى ذلك لكم ولكن يرفعونه إلى أولي الأمر حتى يعاقبوهم عليه) بيان الشرع ج29 ص48.
2. أبو المؤثر الصلت بن خميس (ت: 278 هـ): أحد أعلام المسلمين الذي عينوا الإمامين: الصلت بن مالك وعزان بن تميم.
قال أبو المؤثر: (ما كان من ضرب الدهرة والطبول من الهند فهو يكسر ويغير إذا كان من الملاهي، وإن كان من جهة الحرب يستحب فعله، ولا يتقدم على كسره، والتحكيم والتكبير والتهليل في الحرب أحق من ضرب الطبول أو ينفخ بوقه) في بيان الشرع ج29 ص50.
يستخلص من نصوص أعلام المسلمين محمد بن محبوب وأبي المؤثر؛ أنهم:
أجازوا استعمال بعض الملاهي دون أخرى
أجازا بعضها في أغراض دون أخرى
مستندهم في ذلك كراهية اللعب واللهو
وإطباق أحكام القضاء في قضية ما على توجه ما؛ كان التشريع الذي يدير به الإمام والولاة شؤون الدولة، ويشكل في الوقت ذاته الرافد الرئيس للفقه، ومن أهم ما ورد من أحكام ومواقف كبار القضاة في الملاهي:
1. مر رجل بسوق صحار فرأى دهراً مع أحدهم فكسره، فرفع عليه صاحب الدهرة إلى محمد بن محبوب، فقال له محمد بن محبوب: أعطه كسارة الخشب، ولم يحكم عليه بعد ذلك (بيان الشرع، ج29، ص50).
محمد بن محبوب الذي أُثِر عنه إجازة استعمال بعض الملاهي؛ حَكَمَ بأن يُرجِع صاحب الدهرة كسارة الخشب لصاحبها؛ ولم يلزم من كسرها بالضمان.
2. (كان سليمان بن الحكم وبعض الناس في قرى صحار قعوداً في الليل، إذ جاء شباب فقعدوا قريباً منهم، ثم قبضوا بالكريب. فقام بعض الشراة لينكروا عليهم. فقال سليمان بن الحكم: اقعدوا. فقعدوا إلى أن غنوا. فقال لهم سليمان: الآن فقوموا إليهم) بيان الشرع، ج29 ص56/المصنف، ج12 ص63.
وسليمان بن الحكم (ت: قبل عام 260 ه) كان والياً وقاضياً في عهد الأئمة: المهنا بن جيفر والصلت بن مالك، وسواء كان سليمان بن الحكم في الأثر السابق والياً أو قاضياً، فإنه يمثل السلطة التي تدير الدولة، وموقفه يمثل الاتجاه الرافض للغناء لأنه في نظره من المنكر، لكن يبدو أنه لم يكن هناك اتفاق داخل سلطتي التشريع والتنفيذ على منع الملاهي بكافة أشكالها، لذا أخذت المعالجة بُعداً حاداً بعض الشيء، توضحه الآثار التالية.
3. (ومما ينكر الاجتماع على اللهو واللعب من البالغين من الرجال ومن النساء بالدهرة والطبل… وكذلك لعب الزنج والهند وتكسر دهرتهم إلا أنا أدركنا هؤلاء الذين بصحار المطار وأصحابه لا يمنعونهم من ذلك مع الولاة والأئمة والله أعلم.
ما كان مذهبهم في ذلك على عهد موسى بن علي وسليمان بن الحكم والوضاح بن عقبة وغيرهم، وكانوا يفعلون ذلك في عسكر نزوى مع المهنا بن جيفر…
قال محمد بن المسبح: قد أنكر أبو الحواري المعنى -وكان من أشياخ المسلمين- الدهر على الهندي أن يضربه في العسكر، وغضب وتباعد ما بينه وبين المهنا بن جيفر بعد ذلك) بيان الشرع، ج29 ص50-51.
والوضاح بن عقبة (ق:3 ه) المذكور في الأثر السابق المنسوب إليه رفض لعب الزنج والهند بالدهرة؛ روى عنه ابنه زياد بن الوضاح أنه رآه يستمع القصبة (=مزمار) وهو يبكي (يحيى بن سعيد، الإيضاح في الأحكام، ج4 ص74)، وذلك في سياق الرأي القائل بجواز استماعها إن كانت تُذكِّر بالآخرة.
وأجاز محمد بن محبوب لأهل حضرموت أن يتخذوا في عسكرهم الدهر يكون علامة للمسير ويكون علامة للاجتماع ليعلم العدو أنهم غير نائمين وأشباه ذلك.
وعن ابن محبوب أيضاً: لم يعلم أن أحداً من الأئمة فعل ذلك ولا أمر به غير ما لو اتخذ ذلك علامة في حربه ومسيره ليعلم جنده برحلتهم ونزولهم، لم يخرجه ذلك من الولاية ولا الخلع به من الإمامة. قال: وترك ذلك أحب إلينا (بيان الشرع، ج29 ص58-59).
يلاحظ أن مواقف الأئمة والولاة والقضاة في القرن الثالث الهجري متباينة في استعمال آلة الدهرة، وهو نموذج على آلات اللهو، فلا فارق بين الدهرة وغيرها، ووصل الأمر ذروته بجفوة بين أبي الحواري والإمام المهنا بن جيفر بسبب ذلك.

-2-
لم يتغير حال سيرة الدول بعد القرن الثالث الهجري في شأن اللهو، فقد ظل إنتاج سيرة دول القرن الثالث الهجري هو الرافد الرئيس للسيرة في شأن اللهو، وظل الأمر على حاله حتى مع بدايات القرن السابع عشر الميلادي الذي شهد بداية إرهاصات الصعود الكوني للحضارة الغربية الأوروبية.
الدولة العُمانية في عهد اليعاربة (1624-1741م) نتاج نظرية سياسية/اجتماعية دمجت تقاليد الإمامة والملكية في سياق واحد، وكان القاضي خميس بن سعيد الشقصي رأس أعلام المسلمين في بداية تأسيس الدولة في عهد الإمام ناصر بن مرشد، فكان الشخصية الثانية من حيث الأهمية في الدولة بعد الإمام ناصر.
خميس بن سعيد في كتابه (منهج الطالبين) أكد على الخط العام لسيرة المسلمين في القرن الثالث الهجري في الموضوع، وعنونه بذات مصطلحات القرن الثالث (في اللهو واللعب وآلاته)، ونصوص الموضوع هي مادة محمد بن محبوب وغيره تنقل كما هي من كتابي (بيان الشرع) و(المصنف)، وهذه السيرة تقوم على:
أ. أن الاجتماع على اللهو واللعب من المنكر
ب. منع استعمال بعض آلات اللهو في السِلم كالدهرة والأصناج والمزمار والقصبة
ج. جواز بعضها في السلم كالدُف في إشهار النكاح، ومنعها في غيره
د. جواز بعضها كالطبل، في الحرب والمسير عند النزول والاحتمال للعلامة والإشعار بذلك، وعلل الشقصي ذلك بالقول إن لكل زمان حكم وكل بلد حكم (منهج الطالبين، ج5 ص109).
وتبني رأس أعلام المسلمين استعمال الطبل في الحرب والعلامة والشعار للجيش يناسب الدولة الناشئة ذات النزعة العسكرية في الداخل والخارج، وهو اتجاه قديم لاقى بعض المعارضة في القرن الثالث.

-3-
بعد انهيار الدولة العُمانية بلونها اليعربي ودخول البلاد في حرب أهلية مدمرة؛ تأسست شرعية جديدة أقامها الإمام أحمد بن سعيد؛ استصحبت تراث اليعاربة في الجمع بين الملكية والإمامة في بداية أمرها ثم مالت أكثر إلى النظام الملكي، لكن ذلك لم يمنع من محاولات قيام نظام الإمامة في فترات لاحقة.
في الفترة بين 1869-1871م بُعِثت الإمامة من جديد وأطاحت بحكم السلطان سالم بن ثويني، وعُين الإمام عزان بن قيس، وهذه الإمامة قطعت فترة متصلة من الملكية، وأخذت الدولة الناشئة موقفاً رافضاً من عزف الموسيقى والطبول بحسب (روبرت لاندن، عُمان من القرن التاسع عشر حتى القرن العشرين، ص427)، ويبدو أن آلات اللهو كانت غير ممنوعة في عهد السلاطين السابقين قبل قيام الإمامة، وإلا لما كان التشديد على منعها.
فترة إمامة عزان بن قيس كانت تراجعاً عن سياسة تجويز بعض آلات اللهو في بعض الأغراض الذي كان معمولاً به في السابق، وهذا الخط الرافض لاستعمال آلات اللهو في بعض الأغراض النافعة يرجعه البعض إلى تصاعد النزعة الأخبارية لدى الفقهاء في عُمان.
وفي عام 1913م اشتبك نظاما الملكية والإمامة في عُمان في صراع مفتوح، ومن القضايا التي تنازع حولها الطرفان ما عُرف قديماً في سيرة المسلمين بآلات اللهو أو الملاهي، الوثيقة التي ناقشت هذه القضايا هي رسالة عبد الله بن راشد الهاشمي قاضي الإمام سالم بن راشد وعيسى بن صالح؛ إلى المقيم السياسي البريطاني بمسقط في 15 سبتمبر عام 1915م، هذه الرسالة تقدم أسباب قيام أنصار الإمامة بمعارضة مسلحة للسلطان فيصل بن تركي، وبعد سنتين من الاشتباك المسلح بين الطرفين أعلن طرف الإمامة استعداداً للقبول بحكم السلطان على المناطق التي يسيطر عليها بشروط، وهذه الشروط تمثل جوهر الإشكال القائم بين الطرفين منذ البداية، ومن أهمها:
أن يعمل بالشريعة
أن يقبل نائباً للإمام يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر في المناطق التي يحكمها السلطان
أن يترك النظام و(المزيقيا) التي هي من أفعال تركيا ولم يجر عليها آباؤه وحرمة دينه، وهي فرقة تركية كانت تعزف (المزيقيا) للسلطان.
أن يرد كل عبد هارب إلى مالكه.
أن يعزل الولاة الظلمة والقضاة الظالمين المرتشين
أن يسمح ببيع السلاح والتعامل به
أن يمنع بيع الخمر والدخان
أن لا تفتش البضائع النازلة في بندر صور من الهند وزنجبار على حسب العادة الجارية
(محمد بن عبد الله الحارثي، موسوعة عُمان-الوثائق السرية، المجلد الثاني ص31-32، ص592).

يلاحظ على هذه الشروط تداخل عناصر السياسة والدين والاجتماع، فالسماح بتجارة الرقيق وتجارة السلاح والذخيرة وعدم تفتيش البضائع شؤون اجتماعية تهم قطاعات في المجتمع تضررت من قرارات منعها، ومناهضتها للسلطان شأن اجتماعي بحت، وهذا أمر يُفهم بطبائع الاجتماع، وهو ما يفسر هذا التحالف الفقهي القبلي تحت راية الإمامة.
ما يهمنا من هذه الشروط/المطالب أن فيها انتقاداً شديداً لـ(المزيقيا) التي تعزفها الفرقة التركية للسلطان، التي وصفوها بأنها من أفعال تركيا ولم يكن عليها آباء السلطان وهي محرمة في دينه كما يرون، وبذلك يمكن تصنيف هذا الاقتتال الذي حصل بين أبناء الوطن الواحد بأنه الأول في التاريخ العماني الذي تكون فيها (المزيقيا) أحد أسبابه المعلنة، وهو تصعيد لم تشهده سيرة المسلمين من قبل.
مصطلح (المزيقيا) المستعمل في رسالة القاضي عبد الله بن راشد وعيسى بن صالح جديد على المعرفة الفقهية العُمانية، فهو نُحْتٌ من الكلمة الإنجليزية (music) أو الفرنسية (musique)، وهذا التطور في المصطلح لم يصاحبه تطور في نظر المسألة برؤية جديدة، ويرجع ذلك إلى:
– الطبيعة الزمنية للاجتماع البشري في تلك الفترة
– التراكم التاريخي لسيرة المسلمين والفقه المصاحب لها حول الموضوع
(المزيقيا) التي انتقدت بشدة في رسالة الهاشمي وعيسى بن صالح؛ مستوى متطور من الآلات، فلم تعد الآلات مقتصرة على (الدهرة، الدف، الطبل، القصبة، المزمار،…) التي عرفتها السيرة في القرن الثالث الهجري، بل تطورت في بدايات القرن العشرين -وقت كتابة الرسالة- إلى أشكال متعددة لم تُعرف من قبل كالبيانو والكمان وآلات النفخ النحاسية؛ وهي أكثر تطوراً وتأثيراً في نفوس السامعين.

-4-
توقف الصراع المسلح بين الملكية والإمامة بعد توقيع اتفاقية السيب عام 1920م، وفي الفترة من (1920-1954م) حَكَمَ الإمام الثاني محمد بن عبد الله الخليلي خلفاً للإمام الراحل سالم بن راشد الخروصي، والخليلي إمام وفقيه اتفق أهل عصره بمن فيهم خصومه على احترامه وتقديره.
وفي عهده ظل الموقف رافضاً لـ(المزيقيا=الملاهي) والوسائط التي تذيعها، فكان التشريع النافذ في المناطق التي تديرها الإمامة أن استماع السنطور والراديو ودخول السينما التي يسمع فيها من الأغاني؛ من الملاهي التي تعد من أعظم المفاسد وتنفق فيها الأموال في غير حلها (الفتح الجليل من أجوبة الإمام أبي خليل، ص531).
في عهد السلطان تيمور بن فيصل (1913-1932م) كان أفراد من الشرطة العمانية يتدربون على آلات النفخ الموسيقية النحاسية على يد مدربين من الهند، وتشكلت فرقة للعزف ضمن حرس السلطان كان لها حفلتان عامتان تعزف فيهما إسبوعياً (وليد النبهاني، من تاريخ الموسيقى في عمان، ص25، ص60).
ولم تتغير هذه السياسات المرحبة بالعزف الموسيقي في عهد السلطان سعيد بن تيمور (1932-1970م)، وفي عام 1955م توحدت البلاد تحت حكمه، وبحسب بعض التقارير الأجنبية فإن السلطان سعيد لم يقم بتغيير كبير في البنية الاجتماعية بعد استيلائه على المناطق التي كانت تديرها الإمامة:
– في المناطق التي كانت تتبع إدارة السلطان قبل عام 1955م؛ كانت آلات اللهو مباحة وغير ممنوعة، وهو ما درج عليه الاجتماع البشري فيها.
– أما في المناطق التي كانت تديرها الإمامة قبل عام 1955م فقد مَنع ولاةُ السلطان سعيد استماع آلات اللهو التي كانت تبث عبر الراديو والسنطور استصحاباً لما كان معمولاً به في فترة الإمامة.
وهذا نظر اجتماعي فرضته ضرورة إقامة حالة من التوازن التشريعي بعد فترة انقسام طويلة، وساعد على ذلك اعتماد التشريع في ذلك الوقت على العُرف أكثر من التشريع المكتوب.
في يوليو عام 1970م تولى السلطان قابوس الحكم بعد والده، وقد أعلن في 9 أغسطس عام 1970م أنه (سنبدأ في رفع الممنوعات غير الضرورية)، وبالفعل لم تتبنْ الدولة العمانية في عهد السلطان قابوس سياسة منع آلات اللهو، التي ستسمى فقهياً وشعبياً في هذه الفترة بالموسيقى.
منذ وقت مبكر بُثت مواد موسيقية عبر الإذاعة والتلفزيون المملوكين للدولة، وخلا التشريع المكتوب الذي صار سمة بارزة في مرحلة الدولة الحديثة من أي قانون أو لائحة تنظيمية تحظر الموسيقى في ذاتها، وترك الجدل الفقهي حولها للتدافع المجتمعي.
الدول القديمة في العالم بفلسفتها الشمولية كانت ترى ضرورة تدخل مؤسسات الدولة في كل مفاصل الحياة وتفرض رؤيتها في كل صغيرة وكبيرة، أما نهج الدول الحديثة فيترك كثير من تفاصيل الحياة اليومية إلى التدافع المجتمعي، وتكتفي جهة الإدارة الحكومية بحفظ الأمن والسكينة والصحة والآداب العامة، وهذا ما صُبغ به الاجتماع البشري في العالم الذي تأثر بشدة بفلسفات الحرية الإنسانية.

-5-
أساس سيرة المسلمين هو القرآن، وسكت القرآن عما عرف بآلات اللهو/المزيقيا/الموسيقى، فهي داخلة في دائرة المسكوت عنه، والمسكوت عنه في القرآن متروك للناس يصرفونه بما ينفعهم وتعمل فيه الخبرة الإنسانية بتراكمها الذي تستفيد فيه مما سخر الله لها في السماوات والأرض (وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) الجاثية:13.
وقد حذرت آيات القرآن من تصنيف الرزق إلى حرام وحلال دون إذن من الله، وعدته من الافتراء عليه (قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ) يونس:59.
وما نسب إلى النبي عليه السلام من روايات وأحاديث في ذم أو تحريم ما عرف بآلات اللهو لا أصل له في الكتاب، وهي على تقدير صحتها من آراء وتجارب جيل الصحابة والتابعين في التعامل معها ولا تصح نسبتها إلى النبي، ولذلك فإن عدداً من المشتغلين بالإسناد قديماً وحديثاً رأوا أنه لا يصح في ذم آلات اللهو حديث ينسب إلى النبي.
أجازت سيرة المسلمين في عُمان في القرن الثالث استعمال بعض آلات اللهو في أغراض بعينها كالأغراض العسكرية، وهو ما تبناه الخط العام للسيرة في المراحل اللاحقة، وإذا كانت آلات اللهو من المنكرات فمن التناقض البيِّن أن تباح في أغراض وتمنع في أخرى، والأولى أن يُقال إن معالجة السيرة للموضوع اجتماعي بالدرجة الأولى بنظر راعى نفع ومصلحة المجتمع.
وقد أورد صاحب بيان الشرع وغيره عدداً من الآثار توضح أن مستند السيرة في ذم آلات اللهو واللعب لا يرجع إلى الأحاديث المنسوبة إلى النبي بالدرجة الأولى، إنما يرجع إلى ذمهم ذات اللهو واللعب، من هذه الآثار:
– عن زياد بن الوضاح أنه رأى أباه يستمع القصبة (=مزمار) وهو يبكي
– ولا يجوز استماع القصبة (=المزمار) للهو إلا أن يريد ذكر الآخرة.
– والدف مكروه، ولا يجوز لعب الحوبة للهو إلا أن يريد بذلك أن يجرب نفسه لمثل حق يكون فيجرب نفسه بذلك يُعَوِدُه الخفة.
– ولعب السيف إذا أبصرته للهو لم يجز إلا أن ينوي أنه يتعلم الثقافة لحق يكون.
– ومن أبصر جري الجمال يريد بذلك الفروسية لحق يكون فجائز.
– وكذلك لعب هؤلاء إلا الدف فلا يجوز ضربه للرجال (الإيضاح في الأحكام، ج4 ص74. بيان الشرع، ج29 ص46).
يلاحظ من هذه الآثار أن الذم متجهة إلى كل لهو ولعب، سواء كان آلة كالدف والطبل أو لعباً بالسيف أو سباقاً للجمال؛ وكأنهم يرون أن الأصل منع اللهو واللعب إلا أن يكون غرضه مباحاً، والإباحة يقدرونها بالنفع الاجتماعي برؤيتهم الزمنية.
وذم اللهو واللعب تسرب إلى الفقه من رؤيته الزمنية لآيات:
(الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا) الأعراف:51
(وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا) الأنعام:70
(وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ) لقمان:6
وهذه الآيات لا تذم ذات اللهو واللعب، لكنها تذم اتخاذ الدين لهواً ولعباً أو من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله.
والذي يؤكد ذلك أن القرآن قرر أن الحياة الدنيا لعب ولهو:
(إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) محمد:36
(اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) الحديد:20
فكيف يمكن ذم اللعب واللهو وهما يشكلان الحياة الدنيا؟
الجمع اللغوي كان قاصراً في تعريف هاتين الكلمتين، فلديه أن:
اللعب ضد الجد، أما اللهو فهو ما يشغل من هوى أو طرب، وبعضهم رادف بين اللهو واللعب.
الكلمتان غير مترادفتين، إذ لا ترادف في اللسان العربي، وهما تعبران عن تركب الحياة الدنيا من اللعب واللهو، وأرى أن:
1. (لهو): هو كتلة من المشاعر الإنسانية التي تتفاوت وتتدرج بحكم الطبيعة البشرية (فرح، حزن، رضا، سخط، كره، حب، عشق، ضحك، جد، هزل، إعجاب…) فهذه الكلمة معبرة عن أطياف متدرجة لا حصر لها من المشاعر الإنسانية، وكلها يطلق عليها (لهو).
واللهو بهذا التعريف منه الحياة الدنيا، وذلك بما يحويه من تدرج لأحوال تعرض للبشر جميعاً في حياتهم.
مثال: (لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ) الأنبياء:3
(لاهية قلوبهم) لاهية وصف لكتل المشاعر الإنسانية المتدرجة (حُب، كره، هزل، تودد، رغبة، رهبة…) وهي تؤثر على قلوب الناس وتعاطيهم الموضوعي مع القضايا المختلفة، بما يخل بالنظر المتجرد لها.
2. (لعب): كتلة المشاعر الإنسانية المتفاعلة مع الحياة وتنبثق إلى الوجود بصور متعددة، فمنها الهادئ الطبيعي ومنها العنيف المدمر ومنها ما بين ذلك.
– انبثاق هادئ طبيعي لكتلة المشاعر الإنسانية في نموذج لعب الصبي (أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) يوسف:12
– انبثاق لكتلة مشاعر إنسانية بطبيعة مدمرة في نموذج المكذبين (فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ، الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ) الطور:11-12 فلعب هؤلاء المكذبين أخذ طابعاً مدمراً ساهم في وصولهم درجة المكذبين.
الفارق بين اللهو واللعب؛ أن اللهو يمثل تدرج وتفاوت كتل المشاعر الإنسانية، أما اللعب فيمثل طبيعة انبثاق هذه الكتل من حيث الشدة، فاللهو واللعب أحوال بشرية تركبت عليها الحياة الدنيا، وذم اللهو واللعب جملة ذم للبشر في كافة أحوالهم.

السبعون ثقافة وفكر

عن الكاتب

خالد بن مبارك الوهيبي