جزيرة قشم والزيارة الأولى

كتب بواسطة أحمد الشيزاوي

لو عُدنا الى جزيرة “قشم” وتأملنا موانيها لوجدناها تقارع الواقع السياسي بسيف الاقتصاد، فلعلها تكون سوقا حرة ورئة يتنفس منها “منذر ” إذا ما ادرك ذلك ، قبل أن تكون رئة يستنشق خيراتها كهنة السياسة ، أما تربتها فهي طينية خصبة مطحونة مسحوقة كعجينة في كف عجوز تلبس برقعها الأسود ، وتتكئ على موقدها وهي تصنع منه رغيفا رقيقا لطفل لا يعرف ملامح هويته العروبية المتفرسنة، ولو تجولنا بين نخيلها لوجدناها منحنية خجلا للأرض التي أنبتتها وسقتها من رمق المطر ، والندى المبلل على سعفها في زمن الجفاف وقلة الماء والحيلة.

 

ربما لا يدرك “منذر” الذي يعيش على تراب جزيرة قشم وهو ابن السادس عشر ربيعا، أن جزيرته العائمة على خليج اسمه وهويته تتصارع عليها قوميتان، تحركها رياح السياسة وعصبية الانتماء القومي ، المشحون بعمق الصراع العربي الفارسي، فهي الجزيرة الطويلة كما يسميها العرب، والتي فرضت عليها جغرافيتها أن تعترض طريق كل مهاجر وتاجر وغازٍ وطالب للمعرفة، وهي في يوم ما كانت راحة للمسافر وزاده ، والعمق الاستراتيجي لمملكة هرمز، وصلة وصل بين البصرة والهند وإفريقيا وجزيرة العرب.

 

ما زال “منذر” الذي يلهو على شواطئها لا يدرك التاريخ جيدًا ، ولو أدركه لما تردد أن يستحضر ويستجوب عمرو بن العاص الذي استراح على تراب جزيرة “قشم” يوما ما ، قادما من صحار بعد لقاءه بملوك عُمان ليسلمهم رسالة الرسول محمد (ص) ويدعوهم للإسلام، وبعد مغادرته صحار توجه إلى دبا ومن ثم زار جزيرة “قشم” – حسب رواية سكانها الذين دخلوا الإسلام في الحقبة نفسها- وبعدها غادرها متوجها إلى البحرين، ويُقال انه رجع مرة أخرى إلى صحار، والعهدة هنا على الرواة.

 

كان حري على ” منذر”  أن يقرأ شيئا مما كتبه ابن بطوطة عن جزيرة قشم ووصفها ، لكن مملكة هرمز كان لها النصيب الأكبر في كل ما دار عليها من أحداث وخاصة فترة وصول قائد الاحتلال البرتغالي “البوكيرك” الذي قرر بناء قلعته عليها وإسقاط مملكة هرمز ، هذه المملكة الثرية التي ابتلعها التاريخ ، وضمت كل من قلهات ومسقط وصحار وخورفكان وجزيرة قشم وجزيرة قيس والبحرين والإحساء ، ولم يبق منها إلا وصف الشاعر الإنجليزي “جون ميلتون” الذي أشاد بها في ديوانه الفردوس المفقود، حيث أورد بيتا من الشعر جاء فيه:

 

إذا كان العالم مجرد خاتم ، فإن هرمز هي جوهرته

 

ولو عُدنا الى جزيرة “قشم” وتأملنا موانيها لوجدناها تقارع الواقع السياسي بسيف الاقتصاد، فلعلها تكون سوقا حرة ورئة يتنفس منها “منذر ” إذا ما ادرك ذلك ، قبل أن تكون رئة يستنشق خيراتها  كهنة السياسة ، أما تربتها فهي طينية خصبة مطحونة مسحوقة كعجينة في كف عجوز تلبس برقعها الأسود ، وتتكئ على موقدها وهي تصنع منه رغيفا رقيقا لطفل لا يعرف ملامح هويته العروبية المتفرسنة، ولو تجولنا بين نخيلها لوجدناها منحنية خجلا للأرض التي أنبتتها وسقتها من رمق المطر ، والندى المبلل على سعفها في زمن الجفاف وقلة الماء والحيلة.

 

حتى قُراها وحاراتها المتناثرة التي نشأ فيها “منذر ” ترسم ملامحها بقايا قبور ( للنصارى) ،  وخنادق محصنة للجيش تغطيها كومة من الرمال التي رسا عليها قادة الاحتلالين البرتغالي والبريطاني ، وما خلفه القائد البرتغالي “دي سوزا” حينما جاء ليساند البرتغاليين بعد سماعهم عن بداية ثورة سكان الخليج ضدهم – ولا أدري العلاقة بين اسمه وبين مدينة “سوزا” الساحلية في جزيرة قشم – التي كان يتردد عليها متنقلا بين صحار ومسقط وهرمز .

 

من يتجول في أزقة جزيرة قشم وكأنه في حارة ساحلية في صحار أو في قرية برأس الخيمة أو بخا او جميرا أو خصب قبل ان يلبسوا ثوب التمدن ، تتشابه جدران منازلهم ، وطينة “منذر” تشبه طينة اولاد الساحل العربي ، حتى طقوس الأعراس والرزحة، وزفة المعرس إلى بيت العروس وثياب رجالهم البيضاء والموالد النبوية والطقوس الصوفية ، والبرزنجي ، وكأنك في عرس ساحلي ،  يتشابهون في كل شيء ويتنكر الواقع لهم من كل شيء، حتى من الزمن الذي كان الساحل العربي مصيفهم وحصنهم وهويتهم .

 

على قسوة الغربة والعزلة الا أن الجزيرة ما زالت حية بحكم موقعها الاستراتيجي الذي لم يتنكر له الواقع في زحمة التكنولوجيا والتواصل الافتراضي وسهولة الترحال والسفر وعبور القارات ، فهي السوق المأمول ، والوسيط المجتمعي بين القوميتين ، وبوابة العرب لقلب فارس ، ونافذة الفرس للعالم الخارجي، ولو أدرك ” منذر” أهميتها قبل أن يكبر لصنع لنفسه ورقة اقتصادية مستقبلية تفرض على الآخرين احترامه،  فقشم حفيدة مملكة هرمز ، وحصنها الاستراتيجي الذي كان قلب التجارة في يوم ما .

 

وربما كان لانهيار الدولة العباسية بعد غزو المغول ، وهجرة رموزها وعلماءها الى سواحل البر الفارسي والعربي في الخليج ، دور في تغيير الخارطة الجيوسياسية للجزيرة ولمنطقة الخليج عموما ، الى ان تحولت الجزيرة خلال القرون السابقة – والى ما قبل ظهور النفط بالتحديد – قبلة للعلم والمعرفة ، وبرزت فيها مدارس علمية كالمدرسة الإسماعيلية والمدرسة الكمالية ، والتي ما زالتا إلى يومنا هذا تمتلكان أوقافًا ومزارع ونخيل في صحار، الى أن أصبح للمدرسة الكمالية ثلاثة فروع مدرسة في صحار بفلج القبائل  ومدرسة في خصب ومدرسة في جزيرة قشم ، ففي عام ١٩٣٠م أعفى السلطان تيمور بن فيصل بن تركي آل سعيد أوقاف مدرسة الكماليين من العوائد والعشور والزكاة، وما تتعجب منه حجم المخطوطات القديمة التي تحتويه مكتباتهم ، مع وجود نسخة من القرآن الكريم كتبت بيد سكان الجزيرة ، لتحكي ل”منذر ” ولأهلها حكاية مكان ، وشيء من صفحات تاريخ منسي.

 

ولو أدرك “منذر” أن جزيرته ما زالت عائمة في فم مضيق يُسبّح الاقتصاديون والسياسيون بحمده ليل نهار، كان أولى به أن يحرك مجاديفه ويبحر بجزيرته إلى مكان أكثر هدوءً ووضوحا ونقاءً لهويته التي هاجرت مع من هاجر الى ضفة الخليج  العربي ، وتركوا “منذر” يكبر وحيدا لا يعرف الا انكسار الموج على سواحلها ، وانكسار مستقبله الغائم على ظهر جزيرته الطويلة.

أدب الحادي والسبعون

عن الكاتب

أحمد الشيزاوي

كاتب عماني