قصيدة النثر في عمان
بين غياب الرومانسية وحضور السريالية (2 من 5)
د. شُـبّر بن شرف الموسوي
ثانيا غياب الرؤية الرومانسية (الوجدانية)
نبحث عن الحب وعن العاطفة وعن أي لحظة إنسانية مشربة بعاطفة حقيقية في قصائد النثر فلا نكاد نجدها وعندما يحاول كتاب قصائد النثر التعبير عن مشاعرهم فإنها تكون مشاعر فضاضة عامة لا تؤدي الغرض الذي كتبت من أجله ، أن قصائد النثر تفتقد إلى أي من الرؤى الرومانسية التي تنتشر في الشعر العربي الحديث فلا يمكن أن تجد فيها رؤية رومانسية أو رؤية عاطفية ، أي أنها تفتقد إلى الرؤية الوجدانية ، فهذه القصيدة تفتقد إلى دفء التجارب الإنسانية والعاطفية الحقيقية وإلى انتفاء الوجدان عموما . أليس الحب والعاطفة مشاعر إنسانية مفقودة في هذا الزمان ، فلماذا لم يحاول كتاب قصيدة النثر تصوير مشاعرهم وتحويلها إلى واقع ملموس ؟
ويرى الدكتور زكي العشماوي أن العاطفة لم يعد لها وجود في شعر الحداثة ، فيقول ” أما العاطفة التي كانت منبع الشعر عند الرومانسيين فلم تعد كذلك عند السرياليين فقد كان الرومانسيين يقضون فترة يعايشون فيها التجربة معايشة وجدانية عاطفية ثم تصدر القصيدة التي تعتبر تجسيدا للحظة الشعورية أو لهيمنة إحساس واحد ، أما في الشعر السريالي فالأمر متروك للكلمة فالكلمات تبحر في مغامرة مدهشة لاكتشاف الأحاسيس أو الحلم أو التجربة المبهمة للشاعر ومن ثم فالكلمة سابقة على كل شيء ، سابقة على الإحساس واكتشاف الحلم بل هي التي تقود إليه وتولده بأقل مقدرا من التأمل السابق ” ( دراسات في النقد الأدبي المعاصر ، محمد زكي العشماوي )
وإذا كانت هناك رؤية تجدها في قصائد النثر فإنها رؤية وجودية عامة أي أن قصيدة النثر تعبير عن هموم العالم وقلقه ورؤيته للعالم والآخر أكثر مما هي تعبير عن ذاتية الكاتب ومشاعره الوجدانية ، بل أن أحد الكتاب يرى أن سيف الرحبي يتجاوز في نصوصه الهموم الحياتية الضيقة كما يتجاوز الاغتراب الوجودي عن سارتر ، يقول محمد عبد الحليم غنيم “ولكن هموم الشاعر في رأينا تتجاوز دائرة الهموم الحياتية الضيقة ، أنها في رأينا تكيف شعري لتجربة إنسانية خاصة لروح قلقة تشعر باغتراب حقيقي أعتقد أنه يتجاوز الاغتراب الوجودي عند سارتر ، وهكذا يمكن استخلاص قيمتي الاغتراب والضياع وهما وجهان لعملة واحدة أو يفضي أحدهما إلى الأخر على الأقل سواء في هذا الديوان – يد في آخر العالم – ، بل في اختياراته الشعرية التي وضع لها عنوانا دالا على هذه التيمة المزدوجة وهو “معجم الجحيم” ، فالجحيم محصلة هذا الباطل : الضياع وتلك الغربة ” (يد في آخر العالم .. لسيف الرحبي ، كثافة الشعر ورهافة الرؤية ، محمد عبد الحليم ،عمان الثقافي، 3 أبريل 1999 )
يقول سيف الرحبي في إحدى قصائده التي يوجهها إلى إمرأة ما اسمها “داليا” ونتصور وجود نوع من العلاقة الرومانسية بينها وبين الشاعر ، من نص كونشرتو من أجل داليا ” :
من أجلك
من أجلك
يا داليا سقنا الصباحات الطريدة
إلى فسفورات التداعي المجنون
ومن أجلك قرع النفير أبواق
يأسه معلنا موته المجيد
أنت امرأة الحياة وما عداك
موت يدلف نحاس عينيك
فيتلاشى العالم في بؤبؤ الرعب
يا أيقونة البراري الوحشية
الأمداء صرخة الخضوع لخطوتك المتمادية
أي عذوبة هذه
أي صباح ينهض بتكاسل
من حلمتيك
أي وطن ينقش استغاثاته
فوق الأرصفة
وعلى أسفلت الوجوه المهشمة”” معجم الجحيم ، ص 25 .
وعلى الرغم من وجود العديد من الإشارات التي توحي بوجود نوع من الاهتمام من قبل الرحبي بهذه المرأة إلا إننا لا نشعر بحقيقة الحب أو الوجدان كمحرك لكتابة هذا النص أو لوجود هذه العلاقة ، ولا نشعر بأي روح وجدانية أو نوع من العلاقة العاطفية أو الإنسانية بين الشاعر وداليا المرأة التي كتب الشاعر قصيدته من أجلها والتي يسوق صباحاته الطريدة من أجلها ، والجملة الوحيدة التي تدلل على أهمية هذه المرأة هي قوله “أنت امرأة الحياة وما عداك ،موت يدلف نحاس عينيك ” ، و نلا حظ عندما يريد أن يصف محبوبته فهو يختار لها صفات ذات صبغة ذهينة فهو يسميها بأيقونة البراري الوحشية ، وهو وصف يبعد عن المحبوبة أية صفات أنثوية أو جمالية أو رومانسية .
ولانكاد نرى أي وجود للمشاعر العاطفية والوجدانية الحقيقة التي تخرج من الذات المحبة ، بل لانكاد نجد مفردات الحب أو ألفاظه ولا مدلولاته تتكرر في نصوصهم الكثيرة ، ففي معجم الجحيم نجد كلمة يا حبيبتي في قصيدة واحدة وهي قصيدة “الخراب المبارك” يقول سيف الرحبي :
مبارك هذا الخراب
يلبس درع الأيام ويمضي
مبارك زنار البلابل على خصر حبيبتي
مباركة جرائم العصافير والنيازك
مباركة هذه الأرض التي تسع جميع الجلادين
ولا تسع زهرة على كف فراشة
مباركون نحن الصبيان الأشقياء
فوق بلدان الغيان
يا حبيبتي : هل رأيت خراب الزبرجد”معجم الجحيم ، ص 49
ومع توجه الرحبي لكتابة قصيدة تتقرب من الملامح الرومانسية لكنه يبتعد كثيرا عن مفهوم ولغة الوجدان أنه يجمع بين مفردات الخراب والجلادين وبين مفردات الوجدان ، فنلاحظ وجود عدد من المفردات السوداوية “درع ،زنار، جرائم ، الجلادين، خراب الزبدج ” جنبا إلى جنب مفردات الرومانسية ” البلابل ، خصر حبيبتي ، العصافير ، زهرة على كف فراشة ” وقد أدى هذا الجمع بين المفردات المتناقضة إلى بروز جملة من الثنائيات المتضادة في بنية القصيدة ، بحيث كونت شبكة من العلاقات الخفية والمتضادة داخل النص بين رؤية الخراب ورؤية الوجدان، لكن الشاعرلم يحاول تطوير هذه الرؤية إلى رؤية وجدانية خالصة ، تنقل أحاسيسه تجاه محبوبته بصورة واضحة . أنها الرومانسية المعذبة والمشغولة بهموم العالم أكثر من إنشغالها بهموم الكاتب وبذاته وأحساسيه أنه لا يعطي نفسه فرصة الانعتاق للتعبير عن ذاته ورومانسيته بصدق وشفافية .
ويقول في نص “في غفلة الحب” :
قامة البنفسج
الشمعة التي بلا شمعة
الظل يكسو أيدينا بالمرايا
فتات القبلة القديم
أسفل النافذة المفتوحة
في غفلة الحب
المقعد الباكي بلا عنين
الموسيقا المقعدة في ركن الهواء الذابل
منذ آخر وادع أجلناه
هكذا ، كأنما لم نرحل
كلٌ إلى عمر أعمى ووحيد
كل إلى مسافة قلب
يشده الثقل المتدلي في الطرف الآخر من حافة العالم ” عيون طوال النهار ، ص 9
ويبدو هذا النص وكأنه تصوير للقاء رومانسي فالشمعة والظل الذي يكسو المرايا وفتات القبلة القديم والمقعد الباكي بلا عينين والموسيقى المقعدة في ركن الهواء الذابل كلها مفردات توحي أو تشير إلى لقاء رومانسي ، لكنه وعلى الرغم من تعدد مفردات الحب والرومانسية في هذا النص إلا أن الشاعر لم يحاول أن ينقل مشاعره حيال الحبيبة أو ما يشعر به لحظة اللقاء الرومانسي ، أنه ينقل إلينا مشاهد عامة تنقصها حقيقة مشاعره التي يشعر بها . ويبدو محمد الحارثي في مجموعة “عيون طوال النهار” أكثر تأثرا بتجربته السابقة في كتابة الشعر الرومانسي فنجد أن عنوان مجموعته “عيون طوال النهار” وبعض قصائده أنه لايزال رومانسيا ونلاحظ ذلك في عناوين القصائد ، نحو “بين عصفورين ، في غفلة الحب ، قصيدة للفرح ، حنين ، رجل لصباح مهزوم ، سماء الذين نحب ” ومع أن هذه العنوانين تعطي نوع من الإيحاء بتوجهها الرومانسي لكن مضمومنها ومحتواها لا يدل على ذلك ، فالرجل كان يمر بفترة التحول من شاعر رومانسي إلى مجرد كاتب أو ناظم للقصيدة النثر .
ويتحدث كتاب قصيدة النثر عن القبلة كنوع من أنواع التعبير الرومانسي ، لكنهم لا يعطونها البعد العاطفي والرومانسي بل يقارنون بينها وبين الرصاصة أو السكين ، يقول سيف الرحبي في نص “مساء الكوابيس”:
إنه المساء
يا سيدتي هل ترغبين
في قبلة أو رصاصة
هكذا تودع الشمس
إخوانها الفقراء لا صوت غير البكاءولا حشرجة فوق فوهة الجرح
والقمر مطفأ على هضبات العمر ” معجم الجحيم ، ص 35
ويقول محمد الحارثي في نص “بين القبلة والسكين ” :
ماضيا للبحث عن..
فكرت بالموت
صارخا لأول مرة
بقبلة الحياة الناعسة في شفتي
فكرت ، كنرد في سرة
بين القبلة والسكين
صارخا لأول مرة
يرفس السكون الأبدي
للفريسة ” كل ليلة وضحاها ، ص 48
نلاحظ كيف يقارن شعراء قصيدة النثر بين القبلة التي تمل قمة التعبير الوجداني وبين الرصاصة والسكين ؛ اللتان تمثلان أدتين من أدوات القتل والهلاك ، أنها السريالية التي تبيح للشاعر تغيير الحقائق وقلب المعادلات المتعارف عليها في الحب والحياة .
وهكذا فأن أغلب نصوصهم تعتمد على الصور الذهنية التي تفتقد لدفء التجربة الإنسانية الحية ، فليست هناك تجربة وجدانية أو أدنى إحساس يشعرك أنك تقرأ شعرا خارج عن تجربة شعورية ، وليس هناك بعد وجداني أو صور شعرية تنبع من خلال العاطفة والوجدان ، بل أكثر شعرهم مجرد كلام عام يتصف بكثير من السردية تغلفه صور ذهنية شاردة تسرد أخيلة مضللة ،وأن أية مقارنة نجريها مع شعراء القصيدة الرومانسية ، فأنها لن تكون في صالح كتاب قصيدة النثر وأن الغلبة سوف تكون بالتأكيد لشعراء الاتجاه الرومانسي التي تمتلئ قصائدهم ولغتهم وصورهم بمعاني وجدانية وعاطفية متصاعدة ، إن كان بالنسبة لصورة المرأة أو التعبير عن تجاربهم العاطفية .
لقد كانت قصائد الشعراء الرومانسيين تعبر عن أحاسيس الشاعر الحقيقية والذاتية ، ولم تعد رغبة اللقاء أو تفاصيله ، أو وصف شكل المرأة تشغل بال الشعراء ، ” وإنما أصبحت قصيدة الحب تمثل أغنية تفيض بالمشاعر الفياضة المتدفقة المليئة بالعواطف الجياشة والذكريات السعيدة ، والحب عند هذه الجماعة من الشعراء نوع من التقديس للعواطف ، ولذلك ترد في غزلهم ألفاظ القداسة ، كما كانت ترد في شعر العذريين من قبل ” ([1]).
ولا تقف تجربة الحب عند الرومانسيين لذات الحب وحده ، وإنما هي تجربة روحية ، ترتبط بمعاني الطهارة والعفة ، ولذلك يرى د. عبد القادر القط أن تجربة الحب عند الرومانسيين تبدو “وكأنها تجربة روحية ترتبط بمعاني الطهارة والعفة والصمود أمام الشهوات ، ويسمو الشاعر فيها بخياله إلى عالم نوراني من الأحلام والأوهام ، متخذا من حبه مجرد إلهام لموهبته وحافزا لوجدانه ليرقى إلى ما يستطيع من رحاب الروح والفن ، ومن هنا كان وجود المرأة عند من ينحون هذا المحنى من الشعراء وجودا مطلقا غائما لا يحده في الأغلب اسم أو زمان أو مكان ، يتحدث الشاعر عنه في كثير من الأحيان حديثه إلى غائب مجهول ، أو يخاطبه أحيانا كما يخاطب مثالا ساميا ، خالصا من أدران الحياة وأطماعها ” ([2]).
فمثلا يختار الشاعر ذياب بن صخر العامري لمحبوبته صفات أقرب إلى المثالية فيصفها “بترنيمة ود عفوية ” ، وهي “النبع الصافي الدافق عبر ضفاف الأبدية”، كما يقتبس من الطبيعة أجمل ما فيها ، فيصف بها محبوبته بأنها ” خصب الواحات المليئة بورود وبراعم حورية” ، بالإضافة إلى صفات أخرى أسهم الخيال وجمال الطبيعة في رسمها فيقول :
إني أهواك مدى عمري
ترنيمة ود عفوية
يا أنت النبع الصافي الدافق
عبر ضفاف الأبدية
يا خصب الواحات الملأى
دفلى وبراعم جورية
يا نهر الموسيقى الموحي
بقصائد شعر ٍ غزلية
إني أهواك مدى عمري
ترتيلة شوق صوفية([3])
ويرسم الشاعر سعيد الصقلاوي صورة جديدة لمحبوبته قريبة من هذا المفهوم الرومانسي ، فيشبهها باللؤلؤة ، كما يضيف مجموعة أخرى من التشبيهات الإنسانية والطبيعية والخيالية إليها ، فهي بسمة حب وشمس العمر وفرحة عيد وهمس الحب ، وهي أيضا روح الروح فيقول :
يا أجمل ما في الكون لدي
يا أحلى بسمة حب في شفتي
يا شمس العمر ، ويا لحني الأبدي
يا فرحة عيد تتهلل في عيني
يا لؤلؤة القلب العاشق ، يا كنزي الذهبي
يا همس الحب ، ويا نور الأمل الفضي
يا روح الروح ، ويا حلمي الوردي
إني أبحث عنك
أفتش في شتى الطرقات
في ثوب حرير هندي
وذريرة طيب صوري
في دقات النغمات ([4])
ونلاحظ أن الصفات التي أوردها الشاعر في قصيدته تبدو صفات نفسية أكثر منها جسدية ، فهو يحشد عددا من الصفات التي يخلعها على محبوبته ، فهي “أحلى بسمة حب ، وهي شمس العمر ، ولحن أبدي ، وهي فرحة عيد ، ولؤلؤة القلب ، وهمس الحب ،ونور الأمل الفضي ، وروح الروح، وحلمه الوردي ” ، وقد أتاح له هذا الحشد من الصفات والتراكيب تشكيل موقف غزلي يصور عواطفه بطريقة رومانسية ، مزج فيها بين صفات المرأة النفسية ومجموعة من مفردات الطبيعة ، وهذه الالتفاتة إلى تلك المفردات من مشاهد الطبيعة تبدو صدىً لاتجاهات مماثلة عند بعض شعراء الرومانسية في الوطن العربي .
وينطلق الشاعر الرومانسي في التعبير عن عواطفه الجياشة تجاه محبوبته مستسقيا من الطبيعة أحلى مظاهرها، ومن ذلك قصيدة ” أنت لي قدر” ، لسعيد الصقلاوي :
في بحر شعرك الجميل أبحر
وروض خدك النضير أزهر
وهمس عينك الحنون أسفر
مسافر أنا وأنت لي قمر
وأنت لي هوى وأنت لي قدر
وشاطئ الأمان بهجة العمر
***********
على جدار خافقي نقشتك
ومن خيوط الشمس قد غزلتك
وبالبخور والعطور قد رسمتك
وددت لو أضيع في أنفاسك
أجول كالبحار في إحساسك
وأن ألوح كالبريق في عيونك
***********
ففي تبسم الزهور تبسمين
وفي تألق العقيق تشرقين
وفي تناغم البيان تهمسين([5])
إن الشاعر في هذه القصيدة يلغي كل مسافة محتملة بينه وبين حبيبته ، وبينه وبين مختلف تفاصيل الزمان والمكان ، فيكون هو وحبيبته وحدة زمانية ومكانية واحدة ، وتصبح عناصر الطبيعة معادلا لكل وجه من وجوه الجمال عند صاحبته في ثنائيات متتابعة ” الشعر والبحر ، الخدَّ والروض ، الحب والشاطئ”. ويتجسد الإنسان المعشوق خلال المادي الجميل المحمّل بالرموز ” الحبيبة – مغزولة من خيوط الشمس ، مرسومة بالبخور والعطور ، والحبيب بحّار جواب في إحساسها وبريق يلوح في عيونها ” .
ونصادف مثل هذا الأسلوب مرة أخرى عند هلال العامري ، فيكرر المفردات الأثيرة نفسها عند هؤلاء الشعراء ، كما كانت أثيرة عند غيرهم من الرومانسيين العرب كالطير والورد ، ويعتمد على التكرار المؤكد للإحساس “طيرا..يحب الحياة – وأنت الحياة .. وأنت القدر – وأنت الورود ” ، فيقول :
وكنت اصطفيتك في داخلي
لأهواك كل سني العمر
رسمتك طيرا …يحب الحياة
وأنت الحياة..وأنت القدر
وأنت الورود التي تستفيق
على قبل من لظى ..مستعر
***********
وحين ألح حضورك فيا
حثثت خطاك إلى عشنا
وكان الظلام يخبئنا عاشقين
ويحرسنا في ظلال القمر ([6])
فأين يقف مثل هذا الشعر الجميل المعبر والموحي عن صدق التجربة العاطفية وتدفق الدفعة الشعورية لدى شعراء قصائد الشعر الرومانسي حيال محبوباتهم وتجاربهم العاطفية ، مقارنة من قصائد النثر التي تفتقد أي سمة أو حالة وجدانية صادقة ؟ . ولقد جئنا بهذه النصوص فقط لمجرد المقارنة والدلالة على جودة الشعر الرومانسي الذي يعبر بصدق عن مشاعر وأحاسيس الشاعر وبين تلك النصوص التي تفتقد لأية مشاعر أو روح رومانسية حقيقية .
ويرجع الدكتور كمال نشأت غياب الرؤية الوجدانية عن قصائد النثر إلى التلاعب في الدلالات ، فيقول : “وفي تصوري أن من أسباب انعدام الدفء الشعوري في شعر الحداثة التلاعب في الدلالات ، فمجال الصورة الاستعارية من ناحية الدلالة الحقيقة لا يقنع الشاعر ولذلك فهو يتجاوزها إلى دلالة خاصة به ترجع إلى تكونيه النفسي ، ومدى وعيه العقلي ، لأنه لا يمتح من الواقع المعيش ، فالنموذج الشعري الذي نشأت عليه شاعريته ، نصفه سريالي ونصفه تجريدي في الغالب ، ولما كانت الصورة الشعرية لا تخضع لروح التجريد الذي يتوقف على خيال الشاعر ، كان من الطبيعي إذن أن تفقد القصيدة صلتها بالحياة وبالاشعاع الوجداني الذي لا يكون الشعر شعرا إلا به ذلك أن الذهينة الباردة هي المسيطرة ، وحتى إذا سمحت هذه الذهنية بلمحة من الدفء الشعوري فأنه سرعان ما يتقلص ويختنق في بقية القصيدة تحت ركام العلميات المفروضة مسبقا والتي يعيها الشاعر أشد الوعي ، وهي حاضرة في ذهنه باستمرار حتى قبل كتابة قصيدته ، فهو يعتقد بأن الحداثة لا تحقق إلا بالتثوير ، وانفجار اللغة ، والانزياح ، والتناص إلخ .. وانصرافه إلى تحقيق هذه التعاليم والشعارات في قصيدته حتى يحقق الحداثة يجعل كتابة القصيدة عملية صناعية متعمدة تقتل كل إحساس ، وتقضي على دفء الشاعرية ، وفي هذه اللحظة يتحول الشاعر إلى (ترزي) يفصل حسب الموديل ) شعر الحداثة في مصر ، د .كمال نشأت ، ص 262
وحقيقة لم أجد في قصائد النثر العمانية من يتمرد على هذه الطقوس الشعرية الحداثية التي أصبحت نوعا من التقليدية لكثرة اتباعها من قبل كتاب وشعراء الحداثة ، فلم أجد شاعرا يتمرد عليها تاركا شاعريته الصادقة – هذا إذا كان يملك تلك الشاعرية – تتلون بعيدا عن هذه الطقوس . ولهذا فإن الدكتور نجيب العوفي يرى أن شاعر قصيدة النثر أصبح يكتب الشعر وفق معايير الحداثة ومواصفاتها التي ينادي بها رواد قصيدة النثر ، لا وفق معايير الشعر ومواصفاته الخاصة ؛ ” أي يكتب ليحقق ويرضي الحداثة لا الشعرية ، ويغدو نصه لذلك تمرينا في الحداثة أكثر منه إبحارا شعريا . أصبح الشاعر الحداثي في أكثر حالاته يصغي بأذن إلى وجدانه ، ويصغي بأذن أخرى إلى تعاليم ووصايا الحداثة وفي تناوحه بين القطبين ضيع الحداثة وضيع الشعر ” ([7]). وهذا الكلام صحيح ولا غبار عليه ، فخلال النصوص الماضية لم نسمع لصوت الشاعر الوجداني الداخلي بقدر ما سمعنا لصوت وأفكار الحداثة التي حاول الشعراء التعبير عنها في نصوصهم ، أكثر من تعبيرهم عن أحاسيسهم ومشاعرهم الوجدانية .
([1]) تطور الشعر في منطقة الخليج ، ص 73 .
([2]) الاتجاه الوجداني ، ص 372 ،328 .
([3]) مرفأ الحب ، قصيدة أني أهواك ، ص 89 .
([4]) أنت لي قدر ، مطبعة الألوان الحديثة 1985 ، قصيدة أنتِ ، ص 85 .
([5]) أنت لي قدر ، قصيدة أنت لي قدر ص 97 .
([6]) رياح المسافر بعد القصيدة ، قصيدة ذكريات ، ص 119 .
([7]) منطوق الحداثة ومسكوتها ، د. نجيب العوفي ، مجلة نزوى ، عدد إبريل 1996، ص 113 .