سُنَنية رسالة موسى عليه السلام (يَدٌ وجَيْبِ وجَناح) الجزء الأول

إذا تحدثنا عن رسالة موسى لا يجب أن نغفل أننا نتعامل مع رسالة نشأت في ظرف تاريخي يرجع لآلاف السنين، حيث الإنسان القديم في بقعة من الأرض تسمى (مصر)، لم يحددها القرآن تعييناً، ولا يلزم أن تكون هي أرض وادي النيل، التي عرفت في فترات زمنية لاحقة بـ(مصر).

كثير من الناس في الحقب الغابرة لم يفهموا من آيات الرسل سوى أنها خوارق للعادات لتحدي الناس، وسموها معجزات لا يمكن للناس الإتيان بمثلها، وهذا التصور ناسب التفكير الإنساني في تلك العصور التي كانت تصوراتها عن الكون بدائية وساذجة.

آيات الرسل من الكتاب، وهي معارف وعلوم كونية متقدمة على عصرها، علمها الرسل أقوامهم لربطهم بكتاب الكون الذي يدلهم على خالقهم، وهذه العلوم والمعارف أضافت إلى الرصيد العلمي والمعرفي المتراكم للبشرية، وهي داخلة فيما أنزله الله على عباده من الكتاب والميزان.

آيات الرسل ليست خوارق ومعجزات للتسلية أو التحدي كما قيل، هي مادة للتعقل البشري (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) البقرة:242.

 

-2-

كلمات القرآن تنتمي إلى بيئتها الكونية، فالقرآن كتاب نُحت من مادة الكون، وهذا ما تدل عليه الآيات (حم، وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ، إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) الزخرف:3، الضمير في (جَعَلْنَاهُ) يعود على الكتاب المبين، أي جعلنا الكتاب المبين قرآناً عربياً، والكتاب المبين هو تمظهر لمفردات كونية مثل:

(وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) هود:6

(وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) الأنعام:59

القرآن جُعل في كله وجزئه من الكتاب المبين، فكل حرف وكلمة فيه بمضمون كوني، مآلات كلمات القرآن أوسع من الدلالات اللصيقة بالأعراف الزمنية والإقليمية، الطبيعة الكونية السُننية للقرآن تعطي كلماته وحروفه مآلات بسعة السماوات والأرض وامتداد الآخرة، وهذا لن يتحقق طالما ظللنا نحدد سقف مآلات القرآن بالجمع اللغوي الملتصق بالمعرفة الزمنية.

من أمثلة ذلك؛ آيات الرسول موسى في بلده (مصر) القرآنية: العصا و(يد/جيب/جناح):

(وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى، قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى، قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى، فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى، قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى، وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى، لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى) طه:17-23.

اختلف نظر الناس في تكييف آيات الرسل:

  1. منهم من عدها خوارق ومعجزات بحسب اصطلاحهم؛ لا تخضع لسُننية كونية ولا يمكن تعقلها واكتشاف طبيعتها، والهدف منها في نظرهم تحدي الناس وإثبات قدرة الله، وهذا الرأي هو الذي كان سائداً قبل القرآن عند الذين أوتوا الكتاب، وهذا الرأي تبناه المفسرون والمتكلمون بعد القرآن.
  2. من الناس من عدها آيات كونية، فالقرآن لم يفرق بين آيات الكون وآيات الرسل، فعصا موسى مثل الفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس، كلها آيات من عند الله لقوم يعقلون، فمن الممكن كشف طبيعتها وتعقل مضمونها بتراكم الخبرات والمعارف الزمنية، أما مصطلح (معجزة) فهو صناعة فقهية لا أصل له في القرآن، والغريب أن كلمة معجزة حلت تدريجياً محل كلمة (آية) في الثقافة الفقهية والشعبية على السواء.

وكون آيات الرسل لقوم يعقلون دال على أمرين:

  • أنها تضمنت علوماً ومعارف كونية نافعة لأقوامهم والإنسانية من بعدهم
  • أنها قابلة للتعقل الإنساني، وليست خوارق مبتوتة الصلة بالكون

لذلك لا بد أن ينتبه إلى هذا البعد في آيات الرسل، فالمعرفة الإنسانية كانت لا تزال في بداياتها وتحتاج إلى ترقية، ومن وظائف الرسالات النهوض بالإنسانية، لذا أنزل الله مع الرسل الكتاب والميزان (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) الحديد:25

الكتاب هداية ومعرفة كونية، وهو أساس المعرفة الإنسانية، ومنذ عرف الإنسان الكتابة والكتاب بدأ عهداً جديداً في عمارة الأرض، فالكتاب ليس مجرد شرائع فحسب، بل هو ارتقاء بمعارف الإنسان وعلومه، وهذا هو جوهر كل الرسالات، فآيات الرسل مثل بقية الآيات: كالشمس وما في الأرض، كلها مادة للتعقل واستخلاص المعارف الكونية.

 

 

-3-

إذا تحدثنا عن رسالة موسى لا يجب أن نغفل أننا نتعامل مع رسالة نشأت في ظرف تاريخي يرجع لآلاف السنين، حيث الإنسان القديم في بقعة من الأرض تسمى (مصر)، لم يحددها القرآن تعييناً، ولا يلزم أن تكون هي أرض وادي النيل، التي عرفت في فترات زمنية لاحقة بـ(مصر).

كان التفكير الإنساني في تلك الفترة الموغلة في القدم محكوماً بمعارفه وخبراته، التي قد تبدو لنا اليوم بدائية وساذجة، لكنها مراحل مرت بها الإنسانية كما يمر الإنسان بمراحله العمرية المختلفة، ورسالات الأنبياء ربطت الإنسان بخالقه من خلال ربطه بالكتاب، والكتاب يمثل قيماً إنسانية أخلاقية مرتبطة بالكون، ورسالات الأنبياء بارتباطها بالكتاب تزكية للنفس وتعليم للناس وعمران للكون.

آيات الرسل ليست لتعجيز الناس كما قيل، بل هي لنسخ معارف نافعة في سجل الاجتماع البشري (مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) البقرة:106 ونسخ الآية هو انتقالها وتشكلها من صورة إلى صورة أخرى كما تُستنسخ الأعمال في الكتاب الناطق بالحق (هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) الجاثية:29، وهذا المعنى معروف في الجمع اللغوي ولا يزال شائعاً.

وفي نسخ الآيات، لم يُفرِق القرآن بين آيات الرسل وآيات الكون وآيات القرآن:

أ. آيات الكون لها من المآلات الواسعة التي أودعت فيها، وهي تتشكل بخصائصها من صورة إلى صورة، فالشمس آية، ضوؤها يُنسخ ليصير أشكالاً من الطاقة على الأرض، والماء الذي نشرب يُنسخ في بنية الجسد، واختلاف الليل والنهار تنسخ تجديداً في الحياة ونمواً فيها.

في الجمع اللغوي (نَسَخَتْ الشمسُ الظلَ) وهو شاهد على فكرة التشكل والتحول من صورة إلى أخرى، فالظل يتشكل طولاً وقصراً بحسب أشعة الشمس، فهي لا تلغي الظل، فعندما تكون زاوية ارتفاع الشمس قليلة وذلك عند الشروق والغروب؛ تكون الظلال أطول ما يمكن، أما إذا كانت زاوية ارتفاع الشمس عالية وذلك عندما تكون في منتصف السماء؛ فإن الظلال تكون أقصر ما يمكن.

ب. آيات الرسل، وهي ذات طبيعة كونية كعصا موسى وما خلقه عيسى من الطين كهيئة الطير، نُسخت أي نُقلت وتشكلت في صورة معارف وتجارب تراكمت في حياة الناس، فما خلقه عيسى من الطين كهيئة الطير فنفخ فيه فكان طيراً بإذن الله؛ هو تعليم الناس سُنَن طيران الأشياء، بالنفخ السُنني فيما خلقه من مادة الأرض.

ج. آيات القرآن تُنسَخ؛ أي يتشكل منها ممارسات وقيم وأفكار وأقوال نافعة وراسخة في الاجتماع البشري، وهذا النسخ لآيات القرآن يحتاج تطويراً وتحسيناً مستمراً.

-4-

وردت آية (يد/جيب/جناح) موسى في القرآن في عدة آيات:

(وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ) النمل:12

(اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ) القصص:32

(وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ) الأعراف: 108

(وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى) طه:22

هذه الآية ارتبطت بثلاث كلمات هي (يَدَكَ-جَيْبِكَ-جَنَاحَكَ) وكان نتاجها خروج يد موسى بيضاء من غير سوء، وقد ربطها التفسير بأعضاء في جسد الرسول موسى، فعندهم أن:

اليد: الكف

والجناح: الجنبان أو الذراعان

والجيب: جيب القميص

ومن أوائل من قال بهذه النظرية: كعب الأحبار ووهب بن منبه وعبد الله بن عباس كما نسبها إليهم ابن جرير الطبري في العديد من الآثار التي رواها، وتابعهم عليها المفسرون إلى يومنا هذا، وهي السائدة في الثقافة الشعبية.

اعتراضي على هذا التفسير التاريخي:

أن الآيات كالشمس والفلك والسحاب تجري بسنن يعقلها الناس، والتفسير الوارد لا منطق سنني له، فهو يفترض أن الرسول موسى عليه السلام سلك يده في جيبه فخرجت بيضاء من غير برص تشع لها شعاع كشعاع الشمس يغشى البصر، السؤال: كيف لجوارح موسى أن تشع كالشمس؟ لم يقدم من قال بنظرية إشعاع جوارح موسى تفسيراً سُننياً مقبولاً، مكتفين بالقول إنها معجزة خارقة للعادة، في القرآن هي آية كالشمس والسحاب المسخر بين السماء والأرض، والآيات يعقل الناس سُننَ جريانها.

القائلون بنظرية الجارحة المشعة (كعب الأحبار ووهب بن منبه وعبد الله بن عباس) عبروا عن معارف وخبرات زمنهم أو إقليمهم التي قد لا يستوعب أكثر من حدود النظرية، وهذا لا يعيب أحداً، الإشكال أن النظرية قُدست من بعد ولم تتطور، وظلت تراوح مكانها إلى يومنا هذا.

سأورد بعض روايات الجمع الروائي التي تشرح تفاصيل هذه النظرية (من تفسيري: الطبري وابن أبي حاتم):

الطبري: (يقول تعالى ذكره واضمم يا موسى يدك فضعها تحت عضدك، والجناحان هما اليدان، كذلك روي الخبر عن أبي هريرة وكعب الأحبار، وأما أهل العربية فإنهم يقولون هما الجنبان).

ابن عباس: (قوله: وادخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء. قال: كانت على موسى جبة من صوف لا تبلغ مرفقيه. فقال: له ادخل يدك في جيبك فادخلها).

ابن عباس: (أخرج يده من جيبه فرآها بيضاء من غير سوء يعني من غير برص ثم أعادها إلى كمه فعادت إلى لونها الأول.

وهب بن منبه: (وقوله تخرج بيضاء من غير سوء ذكر أن موسى عليه السلام كان رجلا آدم فأدخل يده في جيبه، ثم أخرجها بيضاء من غير سوء من غير برص مثل الثلج، ثم ردها فخرجت كما كانت على لونه).

الحسن: (في قوله اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء قال فخرجت كأنها المصباح، فأيقن موسى أنه لقي ربه. قال بن عباس: “واضمم إليك جناحك” قال: يدك).

مجاهد: (“واضمم إليك جناحك” قال:

وجناحاه الذراع

والعضد هو الجناح

والكف اليد اضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء).

من آراء القائلين بنظرية الإشعاع الذاتي للجارحة، تقوم النظرية على أسس هي:

  1. كلمات (يدك-جيبك-جناحك) تدل على جوارح في جسد الرسول موسى.
  2. كلمات (بيضاء-من غير سوء) تدل على حصول إشعاع قوي من جارحة اليد شبهوه بإشعاع الشمس أو المصباح.
  3. الإشعاع الحاصل من جارحة اليد ذاتي، ليس له تفسير سُنَني من القائلين به سوى أنها معجزة خارقة للعادة، الإيمان بها واجب وتعقلها مرفوض.

في الجزء الثاني من المقال؛ سوف أتحدث عن نظريتي في قراءة كلمات (يدك-جيبك-جناحك) بما يدل على كونها آية يمكن تعقلها من آيات القرآن بلسانه العربي.

 

الثالث والسبعون ثقافة وفكر

عن الكاتب

خالد بن مبارك الوهيبي