لوحة الفنان العماني أنور خميس سونيا الزدجالي
مملكتي ليس من هذا العالم
قراءة في تجربة الفنانة التشكيلية آنتج مانس([1])
سما عيسى
التجربة تمثل لنا اقتراباً حقيقيا من الطفولة والحلم والشجرة . ربما تكون هذه الثلاثية روحاً واحدة تنضوي في إسارها وبين جوانحها روح الأمومة الخالدة . الـروح التي تستقي منها الفنانة آنتج مانس ينابيع جمالها ، لتقدمه لاحقاً على تجارب هي المزيج الدافئ من الحب الصوفي الخلاق. هل يكون ذلك اقتراباً حميما من الشرق ؟ من الشرق البعيد الذي عشقته مانس والتجأت إلـى روحه الدافئة ، هرباً من مـاديات الحياة فـي الغرب .
ربما لا يكون ذلك كافياً للتعبير عن التجربة الروحية الخلاقة التي ربما لا يكون ذلك كافياً للتعبير عن التجربة الروحية الخلاقة التي تعيشها هذه الفنانة المبدعة . فما هو حلم خارج عن حدود التعبير والانغلاق والقيد ، يكون دون الالتفات إلى تناقض ما بين أشكال حياة مختلفة ، درجت عليها البشرية في عصورها المختلفة ، وفي أماكن مختلفة أيضاً من هذه البقعة الضيقة : الأرض .
الأرض التي ورثها الكائن البشري ، والذي لا نجد تعاطفاً حميمياً مع تجربته الطويلة لدى مانس . ذلك وحي تجربة خاصة بالطبع ، فالفنانة تتجه بنا إلى ملاجئ معهودة لدى أسلافنا الفنانين والشعراء . تتجه إلى القمر والشجرة والصحراء والأمومة ، تنشد من خلالها صفاءً كونياً خاصاً ، تعيشه الفنانة في حياتها الخاصة يوماً بيوم في عزلة فريدة ، لا تقترب فيها من صخب المدن وهواجس البشر وهم يتجهون بالأرض من دمار إلى دمار .
الجذر الأسطوري يحضر واضحاً في تجربتها كما هو الجذر الديني المسيحي خاصة . فالانفلات من قيود الأرض والإنسان تخضع الفنانة إلى أدوات هذا الانقلاب كأسلحة تحلق بها نحو صاف الروح . المرأة في جمالها الخلاق تبتعد بها مانس عن الحسية ، تقدمها طيفاً روحياً غامضاً يسير بها نحو الانعتاق من قيد الجسد الذي يفرض بقاءه شكلاً إنسانياً ضيقاً في الرحابة والانطلاق .
لكأنك لا تفيق من الحلم ، هذا ما أرادت دوماً مانس خلقه فينا . الحلم الذي يعني لديها غسل الواقع ونفض رماده ، وإعادته إلى براءة الأسطورة الأولى . لذلك تتضافر هذه العناصر مجتمعة في خلق الإنسان القادم ، إنسان الحرية وترمز له بالطيور المهاجرة وبالفراشات في طيرانها من غصن لآخر .
الأمومة ورمزها الدائم : الشجرة ، وهي تعطي لنا الظلال والثمر والهواء وألوان البهجة . إنسان الضياء الروحي المشع على العالم ورمزه الدائم القمر الذي يحيل العتمة إلى كون منير .
لا تذهب مانس إلى أبعد من ذلك ، أنها لا تطرح علينا أسئلة ، ولا إجابات لأسئلة ، تدور بعقولنا ونحن ندخل عالمها الرحب الطفولي الجميل . إنها تبتعد بنا عن التثاقف ، وما نحاول إضفائه على اللوحة من تفسيرات كونية منعقدة . عالمها الهادئ البسيط عميق في كونه يذهب بناءً إلى عشق الطفولة وإلى ظلال الشجرة وحرية الطير في رحيله دون قيد . إنها التجربة عندما تلتصق بالطفولة البشرية العذبة ، تطالبنا بالعودة الحميمية إليها . لربما يمكن ذلك في خلاصنا المفقود ، الخلاص الذي سعت إليه أرواحنا منذ أن فقدت الطريق إلى الحب وابتعدت عن قيم الأنبياء وغرس دمائهم النبيلة على الأرض.
فيما نعود إلى تجربة مانس والتي منها نستمد الوهج والإضاءة ، نعود إلى تجربة الانطباعيين الجدد ، لا سيما جورج سورا (1859-1891) الذي أضفى على الانطباعية لغة الحلم ، لا سيما في لوحة : موديل كما ترى من الخلف 1877 ، والتي قد اقتنصت فيها وباقتدار لحظات السكون البشري المطلق . لذلك لا نستطيع فهم تجارب مانس إلا بدراسة محاولتها الغوص في الدواخل ، كما هي محاولتها للتلاؤم مع المشاهد الخارجية . ذلك ما يجعلنا نلمح جلياً قوة الدفق ، العاطفي في تجاربها ، ما يدفع بقوة الشعر إلى إضفاء جمال لا يضاهي على تجاربها .
هذا هوس تعاطف مانس مع الفضاء في اللوحة ، يتسع الفضاء لدفق عاطفي يحسمه تنافر الألوان وتجاذبها ، ويقدم لنا بعداً عميقاً للوحاتها تكون في مستوى الشكل المجسم أمامنا .
لا يعني ما تقدم ابتعاد مانس عن التجريب في الفن ، التجريب هنا تحققه دقة توازن كتل الضوء والظلام في تجاربها ، معتمدة في ذلك على الدقة والسيطرة التامة لنغمات اللون وما تضيفه لنا من معالم الحياة تارةً والهجير فالغياب تارةً أخرى .
(1) فنانة تشكيلية تعيش في سلطنة عُمان .