يسجل د. ستيفن بْرِوُر خفيةً هذا الحوار الذي دار بين فريا وأورِن. وترى فيه فريا أن نظريات المؤامرة هي نظريات غير منطقية، أما أورن فيبدو متردداًً في الاتفاق معها.
المشهد: غرفة تحتوي على كرسييْن وطاولة. أورِن يجلس على الطاولة ويبدو بمزاج سيء بسبب ألم في رجله اليمنى، بالإضافة إلى معاناته لليوم الثاني بسبب انقطاعه عن الكحول استجابة لأوامر الطبيب. تدخل فريا الغرفة وتجلس على الطاولة بجانبه ممسكةً بعلبة بيرة وتبدو منزعجة.
فريا (متحدثة إلى أورِن): لن تصدق ما عانت منه أذناي طيلة ساعتين بسبب ابن خالي الغبي، الذي أصر على أن يشرح لي كيف أن أحداث 11 سبتمبر والأزمة الاقتصادية العالمية والتغيير المناخي جميعها مؤامرة تقوم بها نخبة من القوى الخفية تحاول السيطرة على العالم. وإنهم إن حققوا ذلك سوف يقومون بقتلنا جميعاً.
حاورته طويلا بلا فائدة؛ فلا شيء من كلامي يجعله يرى الموضوع بشيء من المنطق. أتعجّب كيف يمكن لشخص أن يخلو من المنطق هكذا؟
أورِن: أعتقد أنك ستكتشفين يوماً ما كم كان ابن خالك محقاً ومنطقياً.
فريا: لا تقل لي أنك تؤيده في الاعتقاد بهذا الكم من الخزعبلات والخيالات الغير مثبتة التي ابتكرتها عقول شديدة الهلع وواسعة الخيال.
أورِن: لم أقل ذلك، ولكن إن كان ابن خالك يؤمن بها، فهذا لا يتعارض مع منطقية الفكرة. إن كانت عملية تفكيره قادته لتكوّين حجة متماسكة، ذات مكونات متعاضدة، فإنّ هذه الحجة ستكون منطقية. ستكون غير منطقية في حالة واحدة فقط، وهي إن تعارضت مكوناتها أو ناقضت الدلائل المتوفرة. ولكن الذي أعلمه أن نظريات المؤامرات الكبرى هي نظريات شديدة التماسك من هذه الناحية.
فريا: ولكن كيف يمكن لشخص تصديق مثل هذه الخزعبلات؟
أورِن: غالباً ما يرتاح البشر لنسب الأحداث السيئة إلى قوى شريرة خفية. ولو افترضنا أنه قدّم كلامه لك كقصة تحذّر من مخاطر الدولة التي تتبنى النظام الشمولي، فلعلّكِ تعجبين بالقصة؛ لأّنها حفّّزتكِ، وقامت بتحريك مخاوفك، وجعلتكِ أكثر مراقبة للدولة أو المؤسسات التي تدير العالم. أترين الآن أنّ مشكلتك ليست في منطقية الفكرة من عدمها، ولكن ببساطة أنتِ لم تعجبك قصة ابن خالك.
فريا: ما يفوتك هنا يا أورِن أن خزعبلات نظريات المؤامرة لا تُطرح كقصص وإنما كحقائق. إنهم يريدوننا أن نصدق أن ثمة خلية سرية تخطط وتتسبب في كل كارثة تجري من حولنا، وأنّ الخلية سوف تسيطر على العالم وتقضي علينا جميعاً عدا عدد بسيط سيُستعبد لخدمتهم. ولعلمك فقط أمثالك من المتقاعدين وأمثالي من العلماء هم في أول قوائم التصفية.
أورِن: حسناً ما هو الفرق بين النظرية الصحيحة والنظرية المتخيّلة؟
فريا: النظرية الصحيحة يا عزيزي يمكن إثباتها، تماماً كالنظريات العلمية حين تخضعها للاختبار المتكرر. على سبيل المثال: يمكنك رمي كرات في منحدرات معيداً اختبار تجربة جاليليو للجاذبية، ومن ثم ترمي الكرات نفسها في الهواء معيداً قانون نيوتن للحركة، وباستخدام التجربتين معاً يمكنك إطلاق صاروخ للقمر.
أورن: لقد نسيتي نقطة هامة، وهي أن نظريات نيوتن في الحركة تطلبت قدراُ كبيراً من الخيال يفوق الناتج العملي الذي أنتجته التجربة.
فريا: صحيح، كانت تلك إحدى اللحظات التي تجلت فيها عبقرية نيوتن، فقد قام بتخيل ماذا سيحصل لو لم يُبطء الاحتكاك حركة الأشياء.
أورن: بالضبط وهنا مربط الفرس، فكل النظريات تتطلب لحظاتٍ من تجلي الخيال الذي يتجاوز الحقائق المجردة ليدخل بها إلى عالم من المفاهيم المجردة. وقد تم إثبات وجود عدد من المؤامرات في الماضي، وقد يوجد عدد منها أيضاً في وقتنا الحاضر. وكما تعلمين من الممكن -كما يقال- “خداع جميع البشر لفترة من الزمن”. فإذا ما جمعتِ ما سبق مع حقيقة أنّ الناس يفعلون أي شيء للحصول على السلطة والمال، ومع لحظة من لحظات تجلي الخيال فإنه يمكننا افتراض أن هذه النخبة تتآمر للسيطرة على العالم. وبهذا ياعزيزتي لا فرق بين ما سبق وبين من اخترع مبدأ “الجذب العام” وهو لم يختبر هذه النظرية في كل بقعة من هذا الكون الشاسع.
فريا: هنا تسوء الأمور أكثر فأنت تقول أن كل النظريات هي مجرد قصص، وطالما أنها قصص متماسكة، هذا يجعلها تحظى بقدر متساوي من المصداقية، ولكنك تعلم أن هذا الأمر خاطئ.
أورين: أها! أنت الآن تطلبين مني أن أقوم بتقييم كل نظرية مقارنة بالأخرى. حسناً، بدافع من المتعة فقط سأختار قصة مرعبة على تلك العلمية الرياضية، وهذا اختياري الذي تحتمه عليّ ذائقتي. الموضوع موضوع أذواق يا عزيزتي. أتعلمين، أعرف بعض علماء الرياضيات الذين يجدون متعة كبيرة في مطالعة إثباتات مبرهنة فيرما الأخيرة (2).
فريا: أرجوك توقف عن محاولة فلسفة الأمر بطريقةٍ تعلم أنها تضيع محور حديثنا. أقصدُ بالنظريات الجيدة تلك التي يمكن اختبارها، وليست تلك التي لا يمكن اختبارها.
أورِن : أظنك تقصدين هنا النظريات العلمية.
فريا : بالطبع، فنحن في الحقل العلمي نسعى دوماً إلى تطبيق تجارب نقدية لدحض نظرياتنا؛ وذلك بهدف الخروج بنظرية أفضل. ولكن المؤمنين بنظريات المؤامرة يقومون ببساطة بإقصاء أي شيء يتعارض معها. نحن العلماء نتأقلم مع الحقائق الجديدة ولا نتمسك بنظرياتنا إن جد ما ينافيها.
أورِن: ولكنكم يا معشر العلماء لا تتخلون عن نظرياتكم إن ظهرت حقائق لا تنسجم معها. فإن كانت مفيدة لتعاملكم مع ما حولكم، فإنكم تبقون عليها. والدليل على ذلك أنكم لازلتم حتى الآن تستخدمون قوانين نيوتن للحركة لإطلاق أقمار الملاحة إلى مداراتها في الفضاء، وبعدها تقومون بضبط ساعاتها الذرية باستخدام نظرية آينشتاين. أترين أن ما تفعلونه ببساطة هو “الغاية تبرر الوسيلة”، فلا أحد يحتاج نظرية صحيحة بالمطلق، نحن نستخدم أية نظرية قادرة على عمل اللازم.
فريا: على كل حال نحن هنا لا نتكلم عن العلوم والنظريات. فأحداث 11 سبتمبر ليست تجربة يمكن إعادتها بهدف اختبار وفحص ما جرى حينها. فنظريات المؤامرة تشبه إلى حد بعيد ما يحصل في قاعات المحاكم، حيث ترى المتهمين في قفص الاتهام، والأدلة من شهود ومراسلات معروضة أمام الجميع، وعلى القاضي أن يجد النخبة مذنبة.
أورِن: صحيح، ولكن دعينا نتمعّن في الجملة القانونية التي تقول: “إثبات لا يداخله شك معقول”، هنا كما ترين لا يُطالب بوجود دليل قطعي لإثبات الجرم، فالحكم القضائي بالجرم يصدر عن طريق بشر في النهاية. والحال ينطبق على فحص مصداقية النظريات العلمية، فالاختبارات المخبرية يقوم بها بشر لديهم ملاحظات مسبقة قائمة على الخبرات المتراكمة من غيرهم. وبالتالي نخلص هنا أن من الصعب استبعاد الأحكام والآراء الشخصية للعنصر البشري من المعادلة.
فريا: حسناً، لا يمكنك أن تتهم النخبة المتنفذة في نظريات المؤامرة، فقط لأنهم ذوي سلطة مهيمنة، يقومون بفضلها بمحو كافة الأدلة التي تدينهم، ولأن القاضي نفسه هو جزء من منظومتهم. فلعل أضعف الإيمان هو أن نقوم بكشف عيوب نظريات المؤامرة، عبر التأكيد أن كل الأحكام الصادرة تدور في دائرة مفرغة لأن الجميع يتبع منظومة واحدة لا يمكن قبول الحكم منها، فهي لن تدين نفسها بلاشك.
أورِن: أخشى أن هذا غير صحيح، فأنتِ بمجرد بنائك لهذه المنظومة المتشابكة حيث كل شيء مرتبط بالآخر، فإنّكِ تجعلين كل عنصر فيها قابل للإثبات من أي عنصر في المنظومة. لهذا فأنت ترين هذه النخبة المتنفذة بسبب إيمانك بفكرة وجود مؤامرة.
فريا: بظنك إلى أين سيقودنا هذا الحديث؟
أورين : خلاصة الحديث أنّ الاعتقاد بأنّ المنطق والتفكير العقلي وحده من يحدّد صحة النظرية هو اعتقاد خاطئ. فيكفي أن تكون النظرية متماسكة ومقبولة منطقياً، ليتبقى بعد ذلك حكمك الشخصي لها بالرفض أو القبول، وهذا الحكم يعتمد على تقييمك لقيمتها وأهميتها.
فريا: إن طبّقت ما تقوله، فنظريات المؤامرة لا تمثل لي شيئاً، عدا أنها تسبب لي قدراً كبيراً من الانزعاج والقلق على الصحة العقلية لمن يؤمن بها.
أوِن: شخصياً أرفض نظريات مؤامرة النخبة لسبب واحد، وهو أنها لا تتناسب وما أعرفه شخصياً عن أصحاب السلطة. فهم متعطشون بشكل دائم لكسب مشاعر الاحترام والإعجاب وأيضًا زرع مشاعر الخوف منهم. إنّ إحدى متع هؤلاء هو جعل شرطي المرور يوقف السير من أجل مرورهم ليعبر سُوَّاقهم بهم الطريق بأعلى سرعة ممكنة متجاوزين إشارات المرور. فما جدوى أن تكون من هذه النخبة ولا يعرف أحدٌ عنك شيئاً، كما تفرض نظريات المؤامرة أن النخبة تدير كل شيء في الخفاء. لا متعة في ذلك إطلاقاً.
دعينا منهم وأخبريني من أين هذه البيرة التي بين يديك؟
هوامش:
- Dr Stephen J. Brewer: دكتور متقاعد في الكيمياء الحيوية، ونشر هذا النص بمجلة Philosophy Now العدد 114- 2016
(2) مبرهنة فيرما الأخيرة: فرضية رياضية تعتبر إحدى أشهر المعضلات الرياضية. وضعها بيير دي فيريما 1637ولم يكملها كاتباً في هامش كتابه: “أحمل برهاناً مدهشاً لهذه الفرضية إلا أن هذا الهامش لا يتسع لها”، لتستمر هذه العبارة ممثلة معضلة علمية لمدة 358 عاماً ولم ينشر لها برهان صحيح حتى عام 1995.
نص المقال :
https://philosophynow.org/issues/114/The_Conspiracy_of_Theories