تركيا : وأسئلة ما بعد الانقلاب الفاشل

كتب بواسطة صالح البلوشي

قبل الحديث عن المحاولة الانقلابية الأخيرة الفاشلة تجدر الإشارة إلى أن تاريخ الانقلابات العسكرية في تركيا هو تاريخ حافل، فقد شهد هذا البلد انقلابات عدة في تاريخها الحديث منذ تأسيس تركيا الحديثة على يد مصطفى كمال أتاتورك عام 1923، وجميعها حدثت تحت عنوان الحفاظ على العلمانية والقيم القومية التي نادى بها المؤسس،

شهد العالم مساء الخامس عشر من يوليو الجاري بتوقيت جرينتش حدثاً فريدًا من نوعه؛ ألا وهو المحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا التي أعلن عن فشلها بعد أقل من خمس ساعات فقط من بدئها. وتكمن أهمية هذا الحدث في عدة أسباب، منها: إن العالم قد تجاوز الانقلابات العسكرية، وخاصة في الدول الديمقراطية التي تؤمن بنظام التعددية الحزبية وتداول السلطة مثل تركيا. نعم قد يحدث ذلك في بعض الدول النامية الصغيرة، ولكن الأمر ليس كذلك بالنسبة للدول الاقتصادية الكبيرة. سبب آخر هو موقع الحدث. لقد تجاوزت تركيا عهد الانقلابات العسكرية منذ انقلاب الجنرال كنعان أفرين عام 1980 بسبب التحولات السياسية والاقتصادية الكبيرة التي حدثت في البلاد في عهد حزب العدالة والتنمية والتي جعلت من تركيا واحدة من الدول الأغنى والأقوى اقتصادياً في العالم.

قبل الحديث عن المحاولة الانقلابية الأخيرة الفاشلة تجدر الإشارة إلى أن تاريخ الانقلابات العسكرية في تركيا هو تاريخ حافل، فقد شهد هذا البلد انقلابات عدة في تاريخها الحديث منذ تأسيس تركيا الحديثة على يد مصطفى كمال أتاتورك عام 1923، وجميعها حدثت تحت عنوان الحفاظ على العلمانية والقيم القومية التي نادى بها المؤسس، كان أولها في 27 مايو/أيار 1960، حين وقع انقلاب عسكري أطاح برئيس البلاد آنذاك جلال بايار وبالحكومة الديمقراطية المنتخبة التي يقودها “عدنان مندريس”، وتم اعتقال الرئيس ورئيس الوزراء إضافة إلى عدد من الوزراء. وفي 12 مارس 1971 جرى انقلاب عسكري ثانٍ عُرف باسم “انقلاب المذكّرة”، وهي مذكّرة عسكرية أرسلها الجيش بدلاً من الدبابات. وفي 12 سبتمبر 1980 حصل انقلاب ثالث بقيادة الجنرال كنعان إيفرين أعقبته حالة قمع سياسي غير مسبوقة، وهو من أشهر الانقلابات في التاريخ التركي لما تبعه من قمع ودموية أشد من سابقيها. وفي عام 1997 حدث ما سمي بـ “الانقلاب الأبيض” على حكومة نجم الدين أربكان ذي التوجه الإسلامي، أو ما عرف بـ”الانقلاب ما بعد الحداثة”، بعد وصول حزب الرفاه إلى السلطة عام 1995، ويعتبر أربكان هو أول رجل ذي توجّه إسلامي صريح يصل إلى السلطة، وهو الأمر الذي أغضب العلمانيين ودعاهم إلى تحريك الأذرع العسكرية ضد الحكومة المنتخبة. وكرة فعل على الانقلاب، تم تشكيل حزب العدالة والتنمية الذي حقق فوزاً ساحقاً في انتخابات عام 2002، أي بعد خمسة أعوام من الانقلاب.

ومن جهته، تداول العالم العربي أخبار الانقلاب بانقسام حاد بين مؤيد له بحجة دور حكومة أردوجان في تأجيج الصراع في سوريا عبر تقديم التسهيلات للإرهابيين، وخاصة من تنظيم داعش، للدخول إلى سورية عبر الأراضي التركية، وكذلك دورها في دعم ومساندة حركة الإخوان المسلمين المصنفة ضمن الأحزاب الإرهابية في دول عربية منها مصر والسعودية وسورية، وآخر مندد بالانقلاب لعدة أسباب، أيضاً، منها سياسي وآيديولوجي، فالإسلاميون وخاصة الإخوان المسلمون رفضوا منذ اللحظة الأولى الانقلاب لأنه يهدف إلى الإطاحة ب” الحكم الإسلامي في تركيا ” على اعتبار أن حزب العدالة والتنمية ينتمي إلى “الإخوان المسلمين”. ولقد تزعمت قناة الجزيرة المعروفة بتوجهاتها الإخوانية هذا الاتجاه، في مقابل قناة سكاي نيوز، التي تبث من دولة الإمارات العربية المتحدة، المتزعمة للاتجاه المؤيد للانقلاب. ومن الغريب أنه في الوقت الذي كانت فيه الجماهير التركية -سواء من أنصار حزب العدالة والتنمية الحاكم أو أحزاب المعارضة أو المستقلين- ترفع الأعلام التركية فقط في مواجهة الانقلاب، فإن كثيراً من وسائل الإعلام العربية وحسابات الإعلاميين العرب الشخصية في تويتر والفيسبوك ركّزت فقط على شخصية أردوجان، فالمؤيدون يرونه شخصية إسلامية قيادية، والمعارضون يرونه دكتاتوراً منتمياً إلى التيار الإخواني، بينما كان الشارع التركي بعيداً جداً عن هذه التصنيفات، وكان ينظر إلى الرئيس أردوجان بصفته رئيساً منتخباً جاء إلى السلطة بطريقة ديمقراطية، وكان الشعب يتعامل مع الانقلاب بنفس هذه الطريقة، حتى لو كان الرئيس ينتمي إلى حزب آخر. والطريف أن كثيراً من مناوئي أردوجان في العالم العربي أخذ بهم الحماس للانقلاب كل مأخذ وقاموا يتحدثون عن الإطاحة بأردوجان بينما كانت الأوضاع غير واضحة في تركيا، واضطر كثير منهم بعد الإعلان عن فشل الانقلاب إلى حذف تغريداته ومنشوراته في مواقع التواصل الإجتماعي.

أما من ناحية الطرف الآخر المناهض للانقلاب فقد كان ملاحظاً وجود مبالغة أيضاً في تصوير ردة فعل الشارع التركي على الحدث من حيث:

1-كانت هناك مبالغة كبيرة في تصوير أعداد الجماهير التي خرجت إلى الشوارع تنديداً بالانقلاب، حيث لم تكن بالملايين كما ادعت بعض المصادر غير الرسمية وخاصة الحسابات المرتبطة بجماعة “الإخوان المسلمين” في العالم العربي، وإنما بضعة آلاف فقط، حيث كان هناك تخوف واضح بدايةً في الخروج بعد إعلان الانقلابيين عن حظر التجول في المدن التركية، وبدأت الجماهير بالتوافد بشكل أكثر بعد إعلان قيادة الاستخبارات رسمياً فشل الانقلاب.

2-كان خروج الجماهير هو إعلاناً عن رفضهم للانقلاب ووقوفهم مع الشرعية الدستورية والعملية الديمقراطية في البلاد، وكانت تضم مختلف فئات الشعب، سواء الموالين لحزب العدالة والتنمية الحاكم أو أحزاب المعارضة أو المستقلين، ولذلك فإن الرفض الشعبي للانقلاب لم يكن من أجل “الإخوان المسلمين” أو “الإسلام السياسي”؛ وإنما من أجل الدفاع عن الجمهورية التركية التي وصفها الدستور بـ “الديمقراطية العلمانية الاجتماعية التي تقوم على سيادة القانون في حدود مفاهيم السلم والعلم والتضامن الوطني والعدالة واحترام حقوق الإنسان والولاء لقومية أتاتورك والمبادىء الأساسية للدستور التركي”.

ومن ناحية أخرى فقد جرى بوضوح تضخيم دور الجماهير في إفشال العملية الانقلابية، وكان يراد من هذا الادعاء تضخيم شخصية أردوجان وحزب العدالة والتنمية، ربما تمهيداً لإعطاءه صلاحيات إضافية في المستقبل القريب بحيث يتم تحويل تركيا من النظام البرلماني الموجود حالياً إلى النظام الرئاسي، وهو الهدف الذي كان أردوجان يسعى إليه منذ عدة سنوات. فرغم خروج الجماهير التركية -على قلة عددها- إلى بعض الشوارع والميادين، وخاصة في إسطنبول للدفاع عن العملية الديمقراطية في البلاد، إلاّ أنها لم تكن العامل الحاسم في فشل الانقلاب الذي انتهى رسمياً بعد أقل من خمس ساعات فقط من الإعلان عنه، ويرجع أسباب الفشل إلى عدة عوامل منها :

1- عدم وجود بيان رسمي من قادة الانقلاب عن هوية قادة الانقلاب والأسباب التي أدت إلى قيامهم بهذه العملية، فكيف تؤيد الجماهير حركة انقلابية وهي لا تعرف هويتها، ومن يتزعمها، وبرنامجها، وخططها المستقبلية؟ وخاصة في دولة مستقرة أمنياً وسياسياً واقتصادياً مثل تركيا؟

2- من المعروف في الانقلابات العسكرية أنّها تبدأ أولاً باعتقال القيادات السياسية الكبيرة مثل رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ورئيس البرلمان وكبار قادة الجيش الموالين للحكومة، ولكن في الحالة التركية الأخيرة لم نشهد اعتقال حتى موظف صغير في الدولة، سوى ما قيل عن اعتقال رئيس أركان الجيش ثم ترددت إشاعات عن مقتله قبل أن تؤكد أخبار أخرى إطلاق سراحة دون تقديم أي إيضاح عن عملية إطلاق سراحه، ولا أدري كيف غفل الانقلابيون عن ذلك، مما أتاح المجال لرئيس الجمهورية أردوجان ورئيس الوزراء ورئيس البرلمان بسرعة التحرك والحديث بكل حرية مع وسائل الإعلام التركية وطالبوا خلالها الشعب التركي برفض الانقلاب والخروج إلى الشوارع.

3-كما أن الانقلابات العسكرية تحاول قبل إذاعة البيان الانقلابي رقم واحد السيطرة على مبنى الإذاعة والتلفزيون الرسمي، وقصر الرئاسة ومبنى رئاسة الوزراء والبرلمان والأماكن الحيوية الأخرى في البلاد ، ولكن في الحالة الانقلابية في تركيا لم يقم الانقلابيون حتى بالسيطرة على مبنى الإذاعة والتلفزيون (تي.آر.تي) سوى دقائق معدودة أعلنوا خلالها البيان رقم واحد الذي كان هزيلاً ولا يرتقي إلى مستوى هذا الحدث الكبير الذي يشبه البركان، وحتى الشوارع الرئيسية التي يقال أن الانقلابيون قاموا بإغلاقها فإننا لم نشاهد في شاشات التلفزيون المختلفة التي نقلت الحدث سوى أفرادا معدودين منهم فقط تقوم بمهام الحراسة مما جعلهم فريسة سهلة للجماهير الغاضبة التي قامت بإهانة الكثير منهم وضربهم بشكل مهين جدا، كما أنه ترددت أخبار بأن طائرات الانقلابيين قصفت مبنى الرئاسة والمخابرات والبرلمان عدة مرات ولكن لم نرى أية آثارٍ للقصف مما يثير شكوكاً قوية حول حقيقة هذه الادعاءات.

4-كما أهمل الانقلابيون السيطرة على وسائل الإعلام من قنوات فضائية وإذاعات وصحف وإغلاق مواقع التواصل الإجتماعي كالفيس بوك وتويتر والواتس آب والسكايب وغيرها؛ مما أتاح المجال للرئيس التركي والمسؤولين الكبار التحدث مع الشعب بكل حرية من خلال استخدام “فيس تايم”، وهو تطبيق فيديو للمراسلة على الهاتف الذكي. والجدير بالذكر أنه في الحالة المصرية في 3 يوليو 2013 قامت السلطات المصرية، بعد قراءة وزير الدفاع –حينها– عبدالفتاح السيسي البيان رقم 1، بالاستيلاء على جميع القنوات الفضائية المؤيدة للإخوان المسلمين، مما لم يتح المجال لقادة الإخوان الحديث مع الشعب المصري وتحريضه على رفض حركة التغيير التي حدثت.

سيناريو المحاولة الانقلابية الهزيل، والأخطاء الكبيرة التي ظهرت فيها، تطرح تساؤلات حقيقية حول هذا الانقلاب الفاشل، خاصة بعد التصريحات التركية بأن من قام بهذه المحاولة هم “أفراد معدودين من الجيش بينما وقفت رئاسة الأركان والقوات البحرية والأمن والاستخبارات مع الشرعية”، مما دفع ببعض المراقبين إلى القول بأنه سيناريو مفتعل من أجل التخلص من جماعة المفكر الإسلامي فتح الله كولن في الجيش والمعارضة تمهيداً لإعطاء صلاحيات دستورية للرئيس أردوجان، وقد نقل موقع قناة روسيا أنه بعد فشل الانقلاب مباشرة تم توقيف 50 جنرالاً وأميرالاً للاشتباه بتورطهم في محاولة الانقلاب، بالاضافة إلى 100 ضابط. وأضافت نقلاً عن بعض المصادر:  أوقفت قوات الأمن 10 أشخاص، ينتمون لما يسمى في تركيا بـ”الكيان الموازي” المتهم بالضلوع في المحاولة الانقلابية. وطالت موجة الاعتقالات نحو ثلاثة آلاف عسكري يحملون رتباً مختلفة بتهمة التورط في محاولة الانقلاب. وتمت إقالة أكثر من 2700 قاض في مختلف المحاكم، بينهم ما لا يقل عن 10 قضاة في المحكمة الإدارية العليا، للاشتباه بتورطهم في الانقلاب.

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل جرت تحقيقات أثبتت بهذه السرعة القياسية تورط هؤلاء الضباط والقضاة في المحاولة الانقلابية؟

عموماً، وبغض النظر عن حقيقة هذه المحاولة الانقلابية والشكوك التي يطرحها بعض المراقبين، فقد بات مؤكداً أن الرئيس التركي أردوجان أصبح في وضع أقوى من السابق، والأيام القليلة القادمة ستكشف الملامح القادمة لعهد أردوجان ما بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة.

الثالث والسبعون سياسة

عن الكاتب

صالح البلوشي

كاتب عماني