تنبؤات أم نماذج تطرحها السينما؟ 

كتب بواسطة أمجد سعيد

ليس ثمة شكُ بأن تسليع الفن أصبح رائجاً، وأنّ السينما قد أدارت ظهرها للفن، وانحنت مبجلةً للأيديولوجيات السياسية والفكرية. وفي خضم الاضطربات السياسية والأمنية الحاصلة في العالم، فإنّ السينما قد أدخلت تاريخاً مرئياً في حاضرنا المغيب عن التاريخ. و بالرجوع إلى التاريخ نفسه نجد أنّ الفن في جانبه السينمائي كان المستضيف الحيوي الذي باستطاعته الإمتاع والأدلجة في آن واحد، ما خوّل الأيديولوجيات أن تبث تصاعداً محموماً يشهده العالم الآن ويبقيك متيقظاً دائماً. والسؤال المطروح الآن: هل هنالك أي نبوءة سابقة لهذه الاحداث التي بدأت باقتلاع أعداد هائلة من البشر من الجذور؟ وأيضا هل هنالك ما قد يعتبره البعض سيناريو مشابه لأحداث الحاضر المضطربة؟

تتعد الجوانب التي يمكن الالتفات لها لإيجاد نسق مشابه لأحداث العالم الآن، ولكن إذا توقفنا لبرهة وأمعنّا النظر فنياً وأسقطنا أنفسنا في أحد الأجناس الفنية سنجد أن الجانب السينمائي قد طرح مسبقا سيناريوهات سينمائية فنية تشابه وتحاكي أحداث العالم اليوم. هنالك خيارات كثيرة تطرحها السينما ولازالت هذه الخيارات مستمرة كنوع من الرسالة الفنية التي قد تركل مؤخرات رؤسنا لنضيق حدقات أعيننا و نرى الأشياء بماهيتها.

في الواحد والعشرين من الشهر الماضي وقبل ثلاث سنوات من الآن قامت شركة “Paramount Picture”  بالتعاون مع plan E لإنتاج فيلم (World War Z) “الحرب العالمية زبالاستعانة بالمخرج السويسري الأصل مارك فورستر والذي خاض من قبل تجربة تحويل الكتب إلى أفلام سينمائية من خلال فيلم “عداء الطائرة الورقية”. استُمدَّ فيلم “الحرب العالمية ز” من كتاب “الحرب العالمية ز، تاريخ شفوي لحرب الزومبي” للكاتب الاميركي ماكس بروكس الشهير بقصص الزومبي. وقد تردد الكاتب بداية في تحويل الرواية لعمل سينمائي بذريعة أنه لم يكن جاهزًا بعد. ما فعلته الشركات الهوليودية بمحتوى الكتاب كان شيئا لا يصدق، إذ أنّ ما زُجّ به من سيناريوهات كانت كفيلة بالإخبار أن التغيير الحاصل في محتوى الكتاب يخدم رؤية هوليوودية تامة. والسؤال الذي يطرح الآن نفسه هو هل كانت مشاهد الفيلم نبوءة لما يحصل الآن في العالم، وخصوصاً في أوروبا، من أحداث إرهابية، أم أن أحداث الفيلم تم اتخاذها كنماذج لتنفيذ ما تم تنفيذه؟

على غرار جميع الأفلام الملحمية، فإن التصاعد والتسلسل في الأحداث هو من يتحكم برتم الحبكة. في فيلم “الحرب العالمية ز تبدأ مشاهد الفيلم بحياة العالم الروتينية من قطارات الأنفاق إلى الأسواق الشعبية في دول العالم الثالث ومن ثم تنحاز أصوات الأنباء المقروءة جاذبة معها المشاهد الوثائقية لنفوق بعض الحيوانات والأمراض المعدية وحظر السفر إلى بعض الدول كإجراء وقائي، غير أن النبأ الخفي الأهم هو أن المشاهد التي تعرض تخبرك بشكل غير مباشر بأن الكوكب مكتنز بالبشر.

استخدام الشاحنة في حادثة نيس والذي أدى إلى خسارة 84 إنساناً له مشهد مشابه في فيلم “الحرب العالمية ز حيث يكتسح أحد الممسوخين الشارع وهو يقود شاحنة بتلك الهستيريا، وهذا المشهد يصعّد الأحداث من الرتابة المشوبة ببعض التوتر إلى القلق والذعر، القلق الذي اكتسح العالم لاحقاً، أو بالأحرى كان قد بدأ منذ مدة زمنية ليست بالطويلة، وهذا ما يعرضه لنا مخطط الدول التي احتضنت الفيلم:

بدأً بأمريكا من ثم الانتقال إلى كوريا الشمالية لإيجاد السبب الأول لثورة الزومبي، ولكن المصادفة أنّ البعثة التي ذهبت إلى كوريا الشمالية لم تلتق بأي كوري شمالي، بل اقتصرت المشاهد على مشهد من ليلة واحدة في قاعدة عسكرية أمريكية في كوريا الشمالية معزولة تماماً عما يحدث من حولها، وهي تضم عدداً من الجنود الذين يفضلون التضحية بأنفسهم على النجاة في طائرة الأمم المتحدة التي جاءت لإنقاذهم من جيش الزومبي. ثم جاء انتقال مشاهد الفيلم من كوريا الشمالية إلى إسرائيل  بسبب عميل للسي آي إيه في كوريا الشمالية ، والذي أثناء هلوسته أشار إلى أنّ إسرائيل لها معرفة مسبقة بثورة الزومبي، ثم ينتهي به المطاف قائلاً: إسرائيل هي أوّل من عرف، وهي أوّل من تصرّف. وقد أبلى العميل بلاءً حسناً في إقناع بطل الفيلم بالاتجاه مباشرة إلى إسرائيل -بصرف النظر عمّا إذا كانت الأمم المتحدة توافق على ذلك أم لا- للبحث عن السبب الأول لتفشي فايروس التحول إلى زومبي. نجد في مشهد إسرائيل أن القدس قد سُيّجت بسور عظيم ومتين يحمل بوابات تسمى بوابات الخلاص، وفي قلب القدس نرى الانسجام التام بين الجميع من يهود و مسلمين ومسيحيين. كأن المخرج أراد لنا أن ندرك أنها هي مدينة العالم الفاضلة.

في مؤسسة دوائية تابعة لمنظمة الصحة العالمية في “ويلز”، وهي الدولة الأخيرة التي لجأ إليها بطلنا، يتم هناك اكتشاف اللقاح الذي بدوره سوف ينقذ البشرية. وقام بطل الفيلم جيري لاين بتحويل عامل قوّة الزومبي، وهو فيروس التحول إلى زومبي، إلى نقطة قوة في صالحه حينما حقن نفسه بنسخة ناقصة من ذات الفيروس.

وهذه الفجوة العلمية التي توصّل إليها جيري لاين لم تكن محظ مصادفة، لم لم تكن كذلك، لن ما أفصح عنه الدكتور فاسباخ لجيري لاين هو ما أعطى الدافع لاستمرارية البحث. وما ذكره الدكتور فاسباخ لم يُبرز فقط تلك الفجوة، بل كان أقرب إلى أن يكون موجزاً مبسطاً في قوى الطبيعة الكونية، وهذا ما يعيد بكرة الفيلم إلى الوراء، بالتحديد إلى الثلث الأول منه.

في بداية الفيلم، في الطريق الجوي من أمريكا إلى كوريا الشمالية، ينشأ حوار بين الدكتور فاسباخ وجيري لاين محقق الأمم المتحدة، وهو حوار أبعد من كونه حواراً عادياً أو إجابة لسؤال عابر: “هل تعتقد بأننا سنجد شيئاً؟”. فتأتي الإجابة من الدكتور فاسباخ كالتالي: “إن الطبيعة سفاحة بطبيعتها الحقيقية و ليس هناك أفضل وأكثر إبداعاً منها في ذلك. وككل السفاحين فإن الطبيعة لا يمكنها مقاومة الرغبة في أن تكون تحت أصابع الاتهام. لذا ما فائدة كل تلك الجرائم الرائعة إن لم يثني عليها أحد. لذلك فإنها تترك بعض الفتات (الأحداث الغريبة) خلفها. أمّا الجزء الأصعب، والذي نقضي بسببه عقوداً من الزمن في التعليم الأكاديمي، فهو أنّنا نرى تلك الفتات على أنها حل للغز. وفي أحيان كثيرة تعتقد أن درع الفايروس هو الجانب الأكثر وحشية فيه، لكن يتضح أنه نقطة ضعفه. إنها تحب أن تجعل ضعفها مصدر قوتها“. 

يمكن القول عموماً أنّ الفن هو القوة الناعمة التي تبطل مفعول ما نُثر على الأدمغة. ولأن الأحداث التي قد حولت العالم إلى ما هو عليه الآن قد بدأت بفكرة، وبالطبع فإن الفكرة هي الأشد فتكاً من بين ما يحدد مصيرنا كبشر، فالفن يحارب الفكرة بفكرة، والأفكار، بدورها، قد تساهم بقدر كبير أيضًا في تثبيط جهد الفن وقولبته. ومع مرور الوقت هناك ثمن باهض يدفعه البشر لتسليع الفن وأدلجته.

أدب الرابع والسبعون

عن الكاتب

أمجد سعيد