الهولوكوست الثاني: الإبادات الجماعية في الشرق الأوسط 

كتب بواسطة خليفة سليمان

“هولوكوست” مصطلح استُخدم لتوصيف ضحايا الإبادة الجماعية أثناء الحرب العالمية الثانية والتي ارتكبها الحزب النازي في ألمانيا والمناطق المحتلة، أو تلك التي كانت تخضع للسلطة الألمانية. وتذكر بعض المصادر التاريخية بأن المصطلح يعود إلى أصول يونانية ويعني “حرق الكل”؛ ولذلك تستبدل بعض المصادر كلمة هولوكوست بمفردة “المحرقة”. ونصّ قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة، رقم 96 الصادر في 11 ديسمبر 1946، في مادته الثانية على “أن الإبادة الجماعية تعني أياً من الأفعال المرتكبة بقصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية، وذلك من خلال قتل أعضاء من الجماعة أو إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء من الجماعة. وأيضاً من خلال إخضاع الجماعة عمداً لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كلياً أو جزئياً، أو فرض تدابير تهدف إلى منع إنجاب الأطفال داخل الجماعة أو نقلهم من الجماعة، عنوة، إلى جماعة أخرى”.

وحسب التوصيف الآنف الذكر فإن الأحداث التي يشهدها الشرق الأوسط منذ منتصف القرن العشرين وحتى يومنا هذا تدخل تحت خانات تعريف الإبادة الجماعية. فهناك القتل لأعضاء من بعض الجماعات العرقية أو المذهبية، وهناك إلحاق الأذى النفسي والجسدي لجماعات من البشر. كما أن الكثير من الجماعات والأفراد العزل يخضعون عمداً لظروف معيشية يراد بها تدميرهم أو قتلهم أو تهجيرهم قسراً.

ومما لا شك فيه أنّ المنطقة تشهد هولوكوستاً آخر وبهوية شرق أوسطية مختلفة، بل ومتعددة، يتشابه من حيث الممارسات ويختلف من حيث الأسباب عن الهولوكوست الأوروبي، فالإبادات الجماعية في الشرق الأوسط تحمل هوية استعمارية ودينية وطائفية. ومنذ وعد بلفور في عام 1917، والذي كان عبارة عن انطلاق الشرارة الأولى للصراع العربي الإسرائيلي، وصولاً إلى أحداث الثورات العربية، أو ما عُرف بالربيع العربي، فإن الإبادة والقتل في الشرق الأوسط مستمر وممنهج، فقد سعى الصهاينة بعد حصولهم على وعد بلفور إلى تصوير فلسطين على أنها أرض بلا شعب.‍‍‍‍‍‍‍‍‌‌‌‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍ ولكي يحققوا ادعاءهم هذا لجئوا إلى أسلوب تقتيل أبناء الشعب العربي الفلسطيني في حوادث ومجازر باتت معروفة تاريخياً ولعل أبرزها صبرا وشتيلا في عام 1982؛ وذلك بهدف إفراغ المنطقة من أهلها وإجبارهم على ترك وطنهم بالتهجير القسري.

وفي العراق خلّفت الحروب المتعاقبة دماراً هائلاً، وقسّمت الدولة على أساس مذهبي وطائفي وعرقي، صراع سني شيعي، وآخر عربي كردي، وثالت عربي فارسي، وأصبح الشعب الأعزل يٌقتل بالعشرات، لا بل بالمئات، لا لشيء فقط إلاّ لكونه ينتمي إلى مذهب آخر أو إلى عرق آخر وسط صمت عالمي مريب. كما أن الأمريكان أقرّوا لاحقاً بأنهم قد استخدموا قذائف اليورانيوم في حرب العراق والعديد من الأسلحة المحرمة دولياً مما يعني التلوث القاتل ببطء والمرض وتشوه الأجنة.

ولحقت سوريا بالركب، فقد تم تدمير المدن والتراث وإبادة الشعب بشكل مفجع، وأصبح الفرد يقتل مواطنه بدم بارد. أنواع من الأسلحة تدخل سوريا بشكل منظم وتحت إشراف دولي تقوده المصلحة والتنافس على الهيمنة، فأصبح الشعب السوري يموت بالمئات باستخدام أسلحة مبتكرة دافعاً لإذكاء الصراعات الدينية والمذهبية، ومحققاً للمصالح الدولية.

وكذلك هو الوضع في اليمن وليبيا اللذان يشهدا صراعات تدفعها النعرات الطائفية والمذهبية وحب السلطة.

إن الممارسات التي يقوم بها تنظيم الدولة أو ما يعرف بداعش لهي أثبت مثال على منهج الإبادات الجماعية المتبع في منطقة الشرق الأوسط. وابتدعت داعش تقليعة جديدة، منهج تصوير المجازر وعمليات الذبح الجماعي التي ترتكبها، لتنشر الذعر في المنطقة، وتؤكد بما لا يدع مجالاً للشك ممارسات القتل الجماعي التي تمارس ضد السكان المدنيين، بل إن داعش عرّضت بكل امرأة وطفل ورجل إيزيدين من الذين اختطفتهم إلى أبشع الانتهاكات، وسعت إلى تدمير هذه الجماعة الدينية العرقية من خلال القتل والاستعباد الجنسي والتعذيب والمعاملة اللاإنسانية والترحيل القسري.

وبالعودة إلى التاريخ نجد إن فكرة الهولوكوست تعود إلى الطبيب الألماني وعالم البيولوجيا ألفرد بلوتيز (Ploetz) حيث برع في علم تحسين النسل، ونشر في عام 1904 معتقداته عن ضرورة تحسين النسل البشري وخلق مجتمع أكثر إنتاجية وذكاء، كما تحدث بلوتيز عن ضرورة وضع حد لما أسماه المعاناة الإنسانية للبشر. وفي عام 1920 تحدث الكاتب كارل بندنج (Binding) عمّا أسماه الرخصة للقضاء على الأحياء الذين لا يستحقون الحياة، وعن فكرة التعجيل بالموت عند المعاناة من الأمراض المستعصية، أو ما بات يعرف لاحقاً بـ “القتل الرحيم”. تلك الأفكار تنبع في ظاهرها من مبدأ البقاء للأصلح، بينما الشاهد عليها يقول بأنها تطبيق لفكرة البقاء للأقوى. وبعيداً عن أفكار تحسين النسل أو القتل الرحيم التاريخية، فإن ما دفع بهولوكوست الشرق الأوسط هي أفكارٌ أخرى تأتي في مقدمتها الطائفة والفشل في تطبيق نظرية التجاوز المذهبي التي تدعو إلى فهم الدين من خلال الواقع، وليس من خلال الدين ذاته.

وتتحدث بعض المصادر السياسية أن تلك الأفكار التاريخية كانت هي الذريعة التي استخدمها الحزب النازي لارتكاب الهولوكوست. فبعد أن وصل الحزب إلى السلطة، بدأ بمقاطعة الأعمال والمنتجات التجارية اليهودية في ألمانيا، تلك المقاطعة التي حدث في بداية عام 1933 كانت مصحوبة بأعمال عنف تبعها عدة إجراءات، منها طرد اليهود من المؤسسات الحكومية، وسحب الجنسية الألمانية منهم، ومنعهم من التصويت في الانتخابات، ثم تلا ذلك صدور قوانين نورمبرج للسلالات، الذي منع بموجبها تزاوج اليهود مع غيرهم. وقد صدرت هذه القوانين في عام 1935 وشكلت أساساً للسياسة التشريعية المناهضة لليهود في ألمانيا، التي كان من أبرزها قانون حماية الدم والشرف الألمانييْن الذي أسقط الجنسية الألمانية عن اليهود كونهم أبناء عنصر آخر، وحال القانون دون قيام علاقات جنسية بين اليهود وغيرهم، ودون تشغيل الخادمات الألمانيات في المنازل اليهودية. وفي عام 1942 تمت مناقشة خطة ما عرف بالحل النهائي أو الحل الأخير وذلك في مؤتمر داخلي للحزب النازي، حيث نوقشت فيه آليات إبادة اليهود في جميع أنحاء القارة الأوروبية، وفي هذا الاجتماع تم التوافق على تغيير آليات التعامل مع اليهود، واستبدال عمليات الإقصاء والدفع نحو الهجرة الطوعية من ألمانيا، إلى الهجرة القسرية أو القتل.

إن عمليات التهجير القسري والإبادة الجماعية وبنود الحل النهائي برّرتها الفلسفة النازية بكونها طريقة للتخلص، ممن اعتبرتهم، طبقة ما دون البشر. وصُنّفت بعض فصائل المجتمع ضمن هذه الطبقة حتى وإن انتمت إلى العرق الآري، مثل المثليين جنسياً والمجرمين والمعاقين جسمياً وعقلياً إضافة إلى الشيوعيين والليبراليين ومعارضي النازية.

لقد آمنت هذه الفلسفة أنّ الأمة الألمانية لها الحق في حكم العالم، كما اعتبرت العرقَ الآري فائقاً في جودته مقارنة بالأعراق الأوروبية الأخرى. هذه المبادئ تشابه تلك التي انطلقت منها عمليات الإبادة في الشرق الأوسط ، فكل عرق أو مذهب ينظر إلى نفسه بأنه الأفضل والأنقى، وأنه يسير في الطريق الصحيح، وأنه الفرقة الناجية التي سوف تدخل الجنة، وأن البقية مخطئين وكفّاراً يستحقون القتل.

ومن حيث الممارسات، فقد بدأ الحزب النازي عمليات ممنهجة لقتل الأطفال المعوّقين من خلال استخدام الحقن القاتلة والتجويع وإطلاق النار. ثم تطور الأمر إلى استحداث غرف للقتل بغاز ثاني أكسيد الكربون، وهي الفكرة التي أوحت للحزب لاحقاً بفكرة الإبادة الجماعية لليهود أو ما عرف بالهولوكوست والتي أصبحت لاحقاً أكثر تنظيماً من خلال معسكرات الإبادة التي أقامها الحزب وشاركت فيها بعض دول المحور في الحرب العالمية الثانية. وفي كتاب “حرب روسيا” ذكر المؤرخ ريتشارد أوفري (Overy) أن الحزب النازي استخدم أسلوب صف المعتقلين وراء بعضهم البعض وإطلاق النار عليهم لقتل أكثر من شخص في الوقت نفسه، وهي نفس الفكرة التي استخدمها تنظيم الدولة مؤخراً. وتحدث أيضاً عن تجربة إلقاء القنابل على مجموعات أو حشود من المعتقلين لقتل أكبر عدد منهم، وهي ذات الطريقة المستخدمة في المفخخات والعبوات والأحزمة الناسفة التي تُلقى في شوارع بغداد المكتظة بالبشر. وأورد الكاتب أيضاً تجربة استعمال دخان السيارات في غرف مغلقة، وهي الآلية التي باتت تستخدم في سوريا حيث يموت البعض بسبب استنشاق الغازات السامة وغاز الأعصاب التي تُلقى في المناطق السكنية المكتظة.

والحقيقة أن تلك المجازر والآليات المستخدمة في القتل الجماعي كانت محل خلاف من الناحية السياسية والقانونية والإنسانية، وحتى من الناحية العلمية. فمصطلح الإبادة الجماعية مثلاً لا يستخدم لتوصيف بعض الحالات بمعناه القانوني . فبعض الدول والجماعات ترغب في تبرير أو إخفاء جرائهما، وقد ينتج عن استخدام المصطلح صراع سياسي، كما حصل للأكراد في العراق وتركيا مثلا، أو في قضية إبادة الأرمن. أيضا حاول العلماء إيجاد تفسير علمي لفهم جنوح الإنسان نحو التصفية الجماعية، فبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية حاول الباحثون دراسة الأسباب التي تدفع بالإنسان لتنفيذ أو اتباع أوامر قد تصنف بأنها غير أخلاقية أو غير إنسانية، وحاولوا إيجاد أجوبة مقنعة لانصياع الإنسان للموت دون مقاومة. وقد قام العالم النفس الأمريكي ستانلي ملغرام (Milgram) بدراسة عرفت  ب”اختبار ملغرام” وهي دراسة مشهورة في علم النفس الاجتماعي هدفت إلى بحث مدى انصياع الإنسان للسلطة. وبعد سلسلة من التجارب التي أجراها في عام 1961 على مجموعة من المتطوعين توصل ملغرام إلى أنّ للإنسان نزعة لاتباع الأوامر إذا ما اعتقد بأنها صادرة من أشخاص ذي سلطة أو مسؤولية، حتى إنْ كانت هذه الأوامر منافية للمنطق أو للأخلاق. وهذا في الحقيقة ما يفعله تنظيم الدولة عندما يسوق ضحاياه إلى حتفهم دون أية مقاومة.

إنّ التاريخ الإنساني مليء بالحوادث التي يمكن أن تصنف على أنها إبادة جماعية، وشاهد على المجازر التي ارتكبتها بعض الدول والجماعات ضد البشرية وخصوصاً في القرن العشرين. كما أنه شاهد على المجازر والإبادات التي ترتكب حالياً بحق المدنيين العزل في منطقة الشرق الأوسط. ورغم أن بعض المنظمات الدولية قد بذلت جهوداً لوقف الأعمال الوحشية التي ترتكب ضد الإنسان ومحاولة تطبيق القانون لمحاسبة كل من يقوم بعمل يصنف تحت خانات الإبادة الجماعية أو إيجاد قانون متفق عليه دولياً يدين تلك الجرائم التي ترتكب ضد الإنسانية أو يحد منها، إلا أن المجتمع الدولي يقف شاهد عيان فقط على ما يحدث في سوريا والعراق، بل ويحاول تبرير تلك الأحداث المشينة في حق الإنسان تحت غطاء الديمقراطية والدفاع عن الشعوب وحفظ المصالح، ناهيك عن تنظيم الدولة الذي يمارس سياسته الوحشية بدعوى تطبيق الدين. ومما يحسب للمجتمع الدولي هو أنه نجح في تسعينيات القرن الماضي في محاكمة مرتكبي الإبادة الجماعية في رواندا والبوسنة، فهل ينجح في محاكمة مرتكبي الإبادات الجماعية في منطقة الشرق الأوسط؟ ومتى؟ والسؤال الأخير الذي يؤرق الذهن بحسرة هو متى سيتوقف هولوكوست الشرق الأوسط؟

الثامن والسبعون سياسة

عن الكاتب

خليفة سليمان

كاتب وأديب عماني