رقصة الذئاب: السعودية وجاستا! 

كتب بواسطة حمد الغيثي

الكاتب: كرستوفر دافدسون

 

في يوم ٢٨ سبتمبر صوّتت غرفتا الكونجرس الأمريكي بأغلبية كبيرة لإلغاء فيتو الرئيس أوباما على مسودة قانون سيمهد الطريق لتحميل عناصر من الدولة السعودية مسؤولية أحداث ١١ سبتمبر، ويمكّن محاميّ ذوي الضحايا من تحصيل تعويضات مالية من السعودية لمصلحة موكليهم.

وحين العمل به، سيمثّل “قانون تطبيق العدالة على رعاة الإرهاب”، المعروف بجاستا، آخر تجليّات دعوى جماعية رفعها منذ أمد “ذوو ضحايا أحداث ١١ سبتمبر، والناجون منها، المتحدون للعدالة من الإرهاب”

وكان أول ظهور لهذه الدعوى في وسائل الإعلام عام ٢٠١٤ عندما قضت محكمة فيدرالية في نيويورك أن الحكومة السعودية غير مسموح لها بادعاء حصانة سيادية، وعليه فإنها خاضعة للمسؤولية القانونية، ويمكن مقاضاتها على الأضرار الناجمة عن أحداث ١١ سبتمبر إن ثبت تورطها. ومنذ ذلك اليوم، غدا تطور الدعوى وكأنه مؤشر على الموقف الأمريكي العام من السعودية، وعلى تحالف قائم منذ عقود إلاّ أنه بدأ في التداعي.

 

مخطط مُكرر

ولعقود قام هذا التحالف على الدور السعودي كمنتج “مُرجّح” للنفط، وبالتالي لعب دوراً مركزياً في هيمنة القوى الغربية على إمدادات الطاقة العالمية. وكذلك اعتمد التحالف على “تدوير” المملكة لجزء من “بترودولاراتها” كل عام على أصول متنوعة في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، وخصوصاً على واردات مكلفة من الأسلحة الغربية. ومما يتم تجاهله عادة الدور الجوهري لهذا التحالف في انتصار الولايات المتحدة في الحرب الباردة، وخصوصاً في مناطق آسيا الوسطى والشرق الأوسط. وكان نتيجة الدعم المادي والأيديولوجي الذي قدّمته الرياض للحركات الإسلامية المتشددة أن اكتسبت واشنطن سلاحاً محافظاً ورجعياً مهماً لضرب الحركات الوطنية وجبهات التحرير الشعبية والأنظمة الجديدة، كنظام حزب الشعب الديموقراطي في أفغانستان، التي كانت إلى حدّ بعيد علمانية وتقدمية. وقد هدّدت جميع هذه الأنظمة بتأميم الموارد الطبيعية وإنهاء الاحتكار الغربي لها، وبعضها لم يملك من خيار سوى طلب حماية الاتحاد السوفيتي.

لكن التحالف السعودي الأمريكي تعرّض لأول اختبار جاد خلال أحداث ١١ سبتمبر التي أدّت لمقتل أكثر من ٢٨٠٠ قتيل، من ضمنهم ١١ جنيناً (1)، وخصوصاً بعد أن اتضح أن خمسة عشر من الخاطفين التسعة عشر للطائرات كانوا مواطنين سعوديين، وبعد أن اتضح إعطاء رحلة سرية متجهة إلى السعودية إذناً خاصاً بمغادرة الولايات المتحدة يوم ١٣ سبتمبر.

كان من الأهمية بمكان حينها أن تبقى العلاقة الاستراتيجية على حالها؛ فالبترودولارات السعودية ما زالت حيوية لتعافي الاقتصاد الأمريكي، وقد سرت شائعات حينذاك أن الرياض قد اشترت أكثر من ١٠٠ مليار دولار من سندات وزارة الخزانة الأمريكية.

قامت إدارة الرئيس بوش بانتقاء أقل الخيارات سوءاً حينما أدانت القاعدة، ما يعني أنها انقلبت كليّة على نفس المجموعات الجهادية التي شاركت السي آي إيه في تمويلها بأفغانستان في الثمانينات، ثمّ سهّلت قتالها ضد الحكومة الصربية في التسعينات. وبذلك نجحت الإدارة في تحويل انتباه الجمهور الأمريكي بعيداً عن الرعاة السريّين والأثرياء للجماعات الإرهابية.

وعوضاً عن مهاجمة هؤلاء الرعاة، تمّ تركيز المجهود الحربي الأمريكي على إزالة الأنظمة التي لم يثبت عليها إيواء القاعدة وحمايتها، والأنظمة التي كانت عقبة في طريق استغلال الشركات الغربية للموارد الطبيعية، كما هو الحال مع نظامي طالبان وصدام حسين.

 

ورقة محروقة

إنه ليس محض صدفة أنّ التفسير الذي تم تقديمه قبل ١٥ سنة لأحداث ١١ سبتمبر قد بدأ أخيراً في التداعي.

يتضح بجلاء أن ثورة النفط الصخري الأمريكية عام ٢٠١٤، حينما تجاوزت شركات أمريكية لفترة وجيزة السعودية وروسيا لتغدو أكبر منتج للنفط في العالم، قد أفقدت بجلاء الرياض دورها التقليدي بأن تكون “مُنتجاً مُرجّحاً” للنفط.

ولتبسيط الأمر، فالتكنولوجيا والكفاءات الجديدة -التي ابتُكر أغلبها في الولايات المتحدة- قد مكّنت المئات من آبار النفط الأمريكية الصغيرة أن تبدأ العمل خلال أسبوع فقط من ارتفاع أسعار برميل النفط دولارات قليلة. وقد أدّى تخوّف الرياض من فقدان حصتها في سوق النفط، وبالتالي مفاقمة عجز ميزانيتها، إلى رفضها لتخفيض الإنتاج، لذلك فإنها استمرت بكل بساطة في ضخ النفط.

وعنى ذلك أنه رغم تشكيل السعودية للوبيات ضغط مكلّفة وكبيرة عبر شركات العلاقات العامة إضافة إلى البغاء الفكري الذي يمارسه بعض الأكاديمين الغربيين، فإنّ النخبة السياسية الأمريكية قد أدركت أن بلدها، التي أصبحت مجدداً غنية بالطاقة، قد تحررّت إلى حد بعيد من الحاجة لتقديم غطاء دبلوماسي مطلق للسعودية.

ستواظب بعض الدوائر الانتخابية، دون شك، على الاسترزاق من صفقات مربحة مع أمراء سعوديين، إلاّ أنه من المحتمل أنّ أغلبها قد أدرك سلفاً أنّ السعودية، وإن صارت أقل استقراراً وأكثر توتراً، فإنها لن تكون ضارة لمصالح الولايات المتحدة، خصوصاً أن الرياض لا خيار لديها سوى مواصلة دفع تكاليف الحماية الأمريكية.

ومع توجّه قاطرة رجال الأعمال الأمريكان إلى إيران؛ سعياً للكسب السريع إثر “الصفقة النووية” التي أبرمت السنة الماضية، ومع استعداد طهران لمنح الشركات الغربية امتيازات نفطية كبرى لم تحدث منذ زمن الشاه، فإنّ الخصومة بين السعودية وإيران ستتأججُ موقدة “حرباً خليجية باردة” تطمح فيها كل من هاتين القوتين في أن تصبح قوة إقليمية مهيمنة.

وسيكون هذا صحيحاً بشكل خاص إن ساعد الصراع بالوكالة في عقد صفقات أسلحة ضخمة رغم أسعار النفط المنخفضة، وأتاح للغرب المتاجرة بحرية مع كلا الطرفين.

 

السلسلة الذهبية

علينا الانتظار لرؤية كيف سيغذي قانون جاستا التغيرات الجديدة في الشرق الأوسط، باعتبار أنّ الدعوى الجماعية قد تأخذ سنوات حتى تحقق مبتغاها.

وحتى حينه فإن كل قطعة إضافية من الأدلة التي يجمعها محامو ١١ سبتمبر، والتي تُذاع في وسائل الإعلام، سوف تلطخ سمعة السعودية أكثر لدى الجمهور الأمريكي، وقد تصل إلى الحضيض الذي وصلت إليه سمعة ليبيا القذافي أو إيران أحمدي نجاد. وحتى قبل أن يتبدى مصير الدعوى الجماعية، فمن المحتمل ظهور إجماع في الولايات المتحدة على تورط عناصر مهمة من الدولة السعودية في أحداث ١١ سبتمبر.

وكان للإفصاح مؤخراً عن ٨٥٪ من الـ ٢٩ صفحة -المعروفة خطأ أنها ٢٨ صفحة-، والتي حجبت بداية من تقرير لجنة التحقيق في أحداث ١١ سبتمبر التي شكلها الكونجرس، أن قدّم أدلة إضافية على دور سعودي، لكن هذه الأدلة غير مباشرة وغير مؤكدة. إلاّ أن مجموعة كبيرة من الوثائق المتوفرة الآن -بعضها مما أزيل عنه السريّة إضافة إلى مواد مسربة، وسجلات تحقيق، ومذكرات استدعاء للمحكمة- تشير جميعها إلى وجود واضح وجوهري لممولين سعوديين لهجوم ١١ سبتمبر، وتواجد خلية سعودية في الولايات المتحدة وفرت مساعدة لوجستية للمختطفين.

ولقد رُبطت هذه المعلومات للمرة الأولى في كتابي الجديد (حروب الظل: الصراع السري على الشرق الأوسط)، فالدليل الجديد يرسم صورة واضحة لشبكة سعودية، مكونة من أمراء ورجال أعمال، معروفة بـ”السلسلة الذهبية”. لعبت هذه السلسلة دوراً في تمويل الجهاد الأفغاني في الثمانينات، وأعيد إحياؤها في منتصف التسعينات إثر فتوى أسامة بن لادن الابتزازية التي شككت في الشرعية الإسلامية للملك السعودي. تضمنت الشبكة، المعروفة للاستخبارات الغربية، ثلاثة أمراء، كان أحدهم على الرحلة السرية الخارجة من الولايات المتحدة يوم ١٣ سبتمبر ٢٠٠١، وقد وردتْ أسماء هؤلاء الأمراء على لسان أحد سجناء القاعدة إثر تعرضه لإيهام مكثّف بالغرق. مات الأمراء الثلاثة بتتابع في يوليو ٢٠١٢، بفارق أسبوع بين كل منهم، وتمّ تعليل وفاة أحدهم “بنوبة قلبية” (في عمر ٤٣ سنة)، والثاني بحادث طريق يفتقر لأية وثائق مقنعة، والثالث ”مات عطشاً” خلال رحلة مشي في الصحراء دون وجود شهود عيان.

ومن منظور الرياض، فإن رفض دفع أية تعويضات إلى عائلات ضحايا ١١ سبتمبر، سيكون بحجة أن هؤلاء الأفراد لا يمثلون الدولة، وعليه فإنه لا يمكن مقاضاتها. لكن الإشكالية هي أن أغلب الأمراء السعوديين يتلقون مرتبات مجزية من الدولة، إضافة إلى أنه لمن المحتمل جداً أنّ خلية ١١ سبتمبر قد مُوّلت بأموال جمعيات خيرية تدعمها الدولة كما هو حال الكثير من عمليات تنظيم القاعدة. ولذلك فإن هذه الحجة قد لا تُجدي نفعاً في المحاكم الأمريكية.

 

سحب الاستثمارات بسرعة

إن الهاجس الآني الكبير للسعودية، هو أن مجرد وجود الدعوى قد يبدأ في توليد تداعيات خطيرة على شرعية النظام السعودي واستقراره.

ففي معركتها باليمن، ما تزال الرياض عالقة في حرب مع التحالف الصالحي الحوثي، المدعوم كلامياً من إيران، وهي غير قادرة على إحراز تقدم مهم باتجاه العاصمة صنعاء. وبينما لا يحتمل أن تزيد أمريكا من دعمها اللوجستي والاستخباراتي، فإن فرص الرياض تتضاءل في التزوّد بالذخيرة والمعدات من مورديها الغربيّين.

وعلى الصعيد الاقتصادي، فقد أتى جاستا في أحلك الأوقات، فأسعار النفط منخفضة، والرياض تبقي على رواتب القطاع العام ودعم السلع للمحافظة على عقدها الاجتماعي مع مواطنيها. ورغم محاولة المملكة اللجوء إلى سوق السندات الدولية؛ للمساعدة في ردم عجز ميزانيّتها الكبير، فإنّ تلطخ سمعتها يجعل شهية المستثمرين ضعيفة في الإقبال على سنداتها.

وبعد الحديث مؤخراً مع العديد من المختصين الاقتصاديين في هذا الموضوع، فإن انطباعي هو أن قلة من المستثمرين ستجازف بأموالها في سندات أو اكتتابات عامة مرتبطة بنظام قد تعتبره المحاكم الأمريكية داعماً للإرهاب.

في مثل هذا السيناريو، فإنه من المفهوم تحوط الرياض من تجميد أصولها في الولايات المتحدة، عبر تسريع سحب استثماراتها من سندات وزارة الخزانة الأمريكية.

لقد أميط اللثام عن حجم هذه السندات باكراً في عام ٢٠١٦. لقد هبط بشدة حجم السندات التي تمتلكها السعودية من ١٢٣ مليار دولار لتصل إلى ٩٦ مليار فقط في غضون ٦ أشهر. وكجزء من حلقة مفرغة، فإنّ أية سحوبات إضافية سوف تسرّع من فك عرى العلاقات الأمريكية السعودية.

 

 

 

  • ظهر هذا المقال بتاريخ ٣٠ سبتمبر ٢٠١٦ بعنوان The 9/11 bill, Saudi Arabia, and the secret history of that day على موقع Middle East Eye :

http://www.middleeasteye.net/columns/jasta-saudi-arabia-and-secret-history-911-1105402001

(1) استخدم الكاتب مصطلحاً محملاً بالدلالات وهو unborn babies.

الثامن والسبعون سياسة

عن الكاتب

حمد الغيثي

كاتب عماني