من الدلائل اللغوية على قوة موسى عليه السلام

كتب بواسطة راشد علي البلوشي

نعلم جميعا أن الله تعالى ذا القوة والجبروت قد منَّ على كثير من خلقه بقدرات خارقة، وحبا أنبيائه بملكات وقدرات ميزهم بها عن غيرهم من الخلق. ومثال ذلك ما تقصه الآية الكريمة التالية (الخامسة عشرة من سورة القصص) من أن نبي الله موسى عليه السلام قتل رجلا بوكزة أوضربة واحدة.

قال تعالى: “فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ”.

وبغض النظر عن القوة البدنية التي خص الله بها نبيه موسى، فإن الله كان قد قضى على ذلك الرجل أن يموت في ذلك اليوم، وفي تلك اللحظة بالتحديد. ولكن لأن موت ذلك الرجل كان بوكزة واحدة فقط، فإن في ذلك إشارة ربانية إلى القوة التي أودعها الله تعالى في نبيه موسى عليه السلام ليمكنه من أداء تبعات الرسالة السماوية من مجابهة لفرعون ودعوته إلى الله وتحرير لبني إسرائيل من ظلمه. وربما تكون هذه القوة البدنية إحدى آيات نبوة موسى أوالمعجزات التي أيده الله بها. ويدل على ذلك ما تقصه الآية الكريمة التالية (الثالثة والأربعين بعد المئة من سورة الأعراف)، وهي موضوع هذا المقال.

قال تعالى: “وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ۚ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَٰكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ۚ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا ۚ فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ.

ما نفهمه من هذه الآية الكريمة هو أن النبي موسى عليه السلام أقوى وأكثر تحملا من الجبل. كيف ذلك؟ عندما طلب موسى عليه السلام من الله عز وجل أن يريه ذاته العليا، قال الله تعالى “لَن تَرَانِي” و”لن” تفيد النفي في الزمن المستقبل (Ouhalla 1993)، بمعنى أن موسى لن يستطيع أن يرى الله تعالى كما طلب. (لن ندخل هنا في مسألة ما إذا كان نفي رؤية الله يقتصر على الدنيا أم يشمل كذلك الآخرة، وذلك لتفادي الجدال الجانبي حيث أن هذا ليس هوموضوع المقال). ولكن الله تعالى أراد أن يبين لنبيه أنه ليس مهيأً لموقف مهيب كرؤية الذات الإلاهية، فقال الله له “وَلَٰكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي”، بمعنى أنه لو استطاع الجبل أن يتحمل موقف رؤية الله تعالى (أو رؤية جزء من الذات الإلاهية)، فإن موسى عليه السلام سوف يتحمل هذا الموقف. وبتعبير آخر فإن الله تعالى يقول لموسى عليه السلام إن استطاع الجبل أن يراني يا موسى فإنك (وبلا شك) سوف تراني، وذلك لأن “سوف” تفيد ضرورة تحقق الفعل الذي يليها في المستقبل (Fassi Fehri 1993). هذا وقد كان تجلي الله تعالى للجبل بقدر ثلث الخنصر أو أقل من ذلك، حسبما أوضح النبي محمد عليه الصلاة والسلام. والملمح المهم الذي نريد أن نلفت انتباه القارئ إليه في هذا الجزء من الآية الكريمة هو أن النبي موسى أكثر قوة وتحملا من الجبل، وذلك جلي في التعبير القرآني، حيث أنه لواستطاع الأقل قوة (وهو الجبل) أن يتحمل موقف التجلي الإلاهي، فإنه من المؤكد (بحسب دلالة “سوف”) أن يقوم الأقوى بذلك.

وتقول الفرضية المحتملة الأخرى أن الجبل أقوى من النبي موسى. ولكن لو كانت هذه الفرضية صحيحة لما تأكدت قدرة موسى عليه السلام على تحمل موقف رؤية الله تعالى حتى ولو تمكن الجبل من تحمل الموقف. وذلك لأننا نعلم أنه لو تمكن الشخص الضعيف من القيام بعمل ما، فإن الشخص القوي وبلا شك يستطيع القيام به. ولكن العكس غير صحيح، حيث أنه لو استطاع الشخص القوي أن يقوم بعمل ما، فإن ذلك لا يؤكد قدرة الشخص الضعيف على القيام بذلك العمل، رغم أن ذلك محتمل. من هنا نستنتج أن الله تعالى قد أودع في هذا النبي من القدرة ما يعينه على تبليغ الرسالة السماوية لفرعون وبني إسرائيل، مما مكنه من قتل ذلك الرجل بوكزة واحدة.

ولو اعتقدنا بصحة ما توصلنا إليه (بدلالة “سوف”، من ضرورة تحقق الفعل الذي يليها، بحسب التعبير القرآني، وهو كلام عالم ما كان وما يكون وما سيكون) من أن موسى عليه السلام أقوى من الجبل، فإن ما يلي من الآية الكريمة يدعم هذا الطرح. حيث يقول الله عز وجل “فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا”. ويبين هذا الجزء من الآية الكريمة أن التعرض لموقف التجلي الإلاهي قد أثر في الجبل فغير طبيعته من “صخر” إلى “رمل”، حيث أن “جعله دكا” تعني أن الجبل أصبح “مستويا بالأرض” كما جاء في تفسير الطبري1. وعلى الرغم من أن موسى عليه السلام لم يتعرض لموقف التجلي الإلاهي (بمعنى أنه لم ير الله تعالى، أو حتى بعضا من نوره جلت قدرته)، إلا أنه تعرض لردة فعل الجبل لذلك الموقف، وبما أن الجبل أقل قوة وتحملا من النبي موسى، فإن ردة فعله لذلك الموقف المهيب أقوى (وذلك لأنه غالبا ما تكون ردة فعل الكائنات الأضعف أقوى، بمعنى أن الكائنات الأضعف أكثر تأثرا، من ردة فعل الكائنات الأقوى والتي يكون تأثرها محدودا)، وعلى الرغم من ذلك فإنه عليه السلام لم يتأثر بنفس الطريقة التي تأثر بها الجبل، والذي غير موقف “التجلي الإلاهي” طبيعته فحوله من “صخر” إلى “رمل” وفتته وساواه بالأرض، ولكن ردة فعل الجبل القوية لهذا الموقف المهيب “صعقت” موسى، أي “أفقدته الوعي” فقط، ولكنها لم تغير طبيعته كأن تسلبه الحياة مثلا أو حتى العقل، فأفاق بكامل قدراته العقلية، حيث يقول الله تعالى على لسانه “سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ”. ذلك أن النبي موسى عليه السلام هو من أولي العزم من الرسل، الذين أناط الله بهم من الرسالات والمهام ما لا يتحمله غيرهم.

قد يكون الطرح الذي يتبناه هذا المقال جديدا، أوحتى خارجا عن المألوف، ولكنه بالتأكيد ليس فيه غلو أو تعصب أو خروج عن الملة، حيث أنه مبني على فهم جديد لآية من كتاب الله، وهو الكتاب الذي لم ولا ولن تسعه الأذهان وعيا ولا العقول فهما ولا القلوب إدراكا لأنه نزل ليكون صالحا لكل زمان ومكان. ولذلك فإن تفسير أي آية فيه ربما يتغير بتغير الزمان. ولذلك فإن هنالك مفسرين لكتاب الله في كل عصر من العصور، وهؤلاء المفسرين قد يتفقون مع من سبقهم في أمور وقد يختلفون معهم في أمور أخرى، وما دامت الاختلافات مبنية على دلائل وقرائن من كتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام وفهم جديد لأنماط وتراكيب من لغة القرآن واكتشافات علمية حديثة (وخواطر إيمانية وكرامات يمنُّ الله تعالى بها على بعض خلقه) ولا يتعارض مع ما جاء في الكتاب والسنة، فإن ذلك هوالاختلاف المحمود. لا سيما وإن كان ذلك الاختلاف يشير إلى ويؤكد على أن آيات هذا الكتاب فيها من المعاني والمقاصد والأفكار ما يدل على أن هذا الكتاب هو كلام الله تعالى الذي وسع كل شيء علما.

 

د. راشد البلوشي هوأستاذ اللغويات المساعد بقسم اللغة الإنجليزية وآدابها في جامعة السلطان قابوس

 

 

المراجع

Fassi Fehri، Abdelkader. 1993. Issues in the structure of Arabic clauses and words. Dordrecht: Kluwer.

Holy Qur’ān. http://quran.com/

Ouhalla، Jamal. 1993. Negation، focus and tense: The Arabic maa and laa. Revisita di Linguistica، 5(2):275–300.

http://library.islamweb.net/newlibrary/display_book.php?idfrom=2105&idto=2105&bk_no=50&ID=2115.1

الثامن والسبعون ثقافة وفكر

عن الكاتب

راشد علي البلوشي