راقت لي فكرة زيارة حصن جبرين الواقع في بلدتي بهلا بالرغم من أنّ زيارتي له تترا ، فهذا الصرح لا يمل عبق تاريخه ولا تنتهي عجائبه .
الآن في فصل الشتاء الموسم السياحي حيث يتلطف الطقس ببرودة منعشة فيستثير النفس للضرب في الأرض ، وفي مقدمتهم السياح الأجانب الذين يأتون زمرا متحررين من لفح صقيع بلدانهم لينعموا بالدفء هنا .
أوقفت سياتي بجانب الحصن ثم دلفت من الباب الضخم فاستقبلني حراس وزارة التراث والثقافة بترحاب جميل .
وأنا أخطو في الساحة الأمامية كنت أقلب بصري في بناء الحصن مستذكرا ما قرأته عن الإمام بلعرب بن سلطان اليعربي رحمه الله الذي بناه قبل بيعته من صلب ماله – كما تقول الروايات – فكان قصرا له وهذا يدل على الرخاء المالي في ذلك العهد ثم إن الإمام حوله إلى حصن دفاعي لصد هجمات المعتدين ، وأيضا أقام فيه مدرسة لتدريس العلم الشرعي بإشارة من العالم عمر بن سعيد الجربي من علماء المغاربة الذي زار عمان حينها .
ولجت إلى جوف الحصن ، بروح السائح المتذوق للتاريخ رحت أتجول في غرفه التي يصل عددها خمس وخمسين غرفة . عجبت من الأنامل الماهرة التي نقشت وزخفت في سقوف الحصن وفي جدرانه ، فحصن جبرين يمثل روعة التصميم الهندسي بحق حيث أمسى قبلة الحجاج المولعين بفن العمارة القديمة .
بينما كنت على هذا الحال أحسست بشيء ما يطعن رقبتي من الخلف ، حين التفت إذا برجل مهيب المنظر ، مطلق اللحية ، يعتمر عمامة بيضاء ، يلف خصره بحزام من الطلقات النارية المصفوفة بإتقان .
قال لي محتدا :
– من أنت؟
قلت بقلب واجف :
– أنا سائح .
رد مستفهما :
– هل هذا اسمك؟
– لا .. أعني إني زائر .
قال بخشونة :
- أهذا وقت الزيارة؟!
ثم باغتني بأن هوى بعقب بندقيته على خاصرتي بقوة فسقطت أتلوى على الأرض .
ثم قال :
– اعترف أنك من الثائرين على بيعة إمامنا بلعرب بن سلطان اليعربي .
قلت وأنينٌ يخالط كلماتي :
– أنا لا أفهم عما تتكلم ، كيف ذلك؟ والإمام بلعرب يرقد تحت التراب منذ زمن طويل .
اكتسى وجهه بتجاعيد الغضب، فوكزني مرة أخرى :
– أتقتل الإمام وهو حي بيننا؟ .. أيها المتسلل قل لي كيف دخلت الحصن؟
– دخلت من الباب بعد أن أخذت الإذن من حراس وزارة التراث .
قال مستغربا :
– وزارة التراث .. إيه أنت لا وقت لدي للأحاجي .. سر أمامي إلى الإمام بلعرب بن سلطان فقد أمرني أن أحضر كل من يقع في أيدينا من الثوار .
– يا سيدي .. الأمر لا يحتاج لهذه الضجة .. سأقدم لك اعتذاري ثم اتركني أخرج من الحصن بهدوء .
– إذا كان الأمر كما تقول .. فما الغاية من وجودي في منصب قائد الحرس؟ هيا تقدم أمامي أيها المتمرد .
كان الموقف عصيبا علي فأنا لم أستوعب ما يحدث ، ولم أقتنع بحقيقة الزمن الذي أعيشه الآن بتفاصيل الماضي ! فلم يكن لي حينها خيار غير أن أحبس غيظي وأذعن لأوامر قائد الحرس .
حينما كان قائد الحرس يدفع بي في ممرات الحصن وسلالمه ، طرق ذهني سؤال فبادرته قائلا :
– أيها القائد .. هل يمكن أن تشرح لي حقيقة الثائرين على الإمام بلعرب؟
رد بعد برهة صمت :
– سؤالك لا يخلو من مكر .. تسألني عن أمر ذاع خبره وطغى هوله ، إنها الفتنة .. فبعد البيعة الشرعية للإمام بلعرب بن سلطان اليعربي مالك هذا الحصن في حكم الدولة العمانية سولت النفس الطامعة لأخيه سيف في إسقاط بيعته وخلعه من منصبه عنوة ليحل محله ، لهذا كون جيشا يقاتلنا به متحالفا مع بعض القبائل . لقد حدثت بيننا وبينه معارك زهقت فيها أرواح ، والآن يتعرض حصن جبرين لحصار خانق من قوات سيف ، ولله الأمر من قبل ومن بعد .
قلت وأنا أستشعر عظم المصيبة التي أنا فيها ، فالأمر جد لا هزل :
– أتفهم حرصك الشديد في الدفاع عن الحصن، واسأل الله السلامة لنا جميعا .
نبشت في قعر ذاكرتي التاريخية فوجدت قول أحد الباحثين أن الإمام بلعرب بن سلطان بويع إمام دفاع وفي خلال حكمه وقع اتفاقية صلح مع البرتغاليين العدو الأول للدولة العمانية والتي ما انفك أسلافه يقاتلونهم ويطردونهم من عمان وسواحل الخليج ، هذه الهدنة أثارت حفيظة الغيورين فدفعوا بأخيه سيف أن يخلعه ويحل محله لما عرف من الصرامة وشدة البأس، وهناك من يعزو سبب الثورة إلى أن سيفاً متعطش للسلطة شغوف بالرئاسة.
والذي جال في محفوظاتي حينها أن الثائر سيف بن سلطان اليعربي هو رابع أئمة اليعاربة فقد تولى الإمامة بعد انقلابه على أخيه بلعرب حيث امتد حكمه ثمانية عشر عاما ، اشتهر بلقب قيد الأرض لضبطه أمور الحكم وحسن تصريف ممالك الدولة .
من إنجازاته إعداده قوة بحرية عظيمة وجيش بري جرار حيث قام بملاحقة البرتغاليين في الهند وشرق أفريقيا وطردهم من مواقعهم ، كذلك أقام نهضة عمرانية مشهودة فقد شق الأفلاج ورمم الأبراج ، وأعطى للزراعة اهتماما كبيرا فعم الرزق سائر البلاد، وتوفى عام 1711 م.
بعد صعودنا لعدة سلالم توقف قائد الحرس أمام غرفة الشمس والقمر
وهي مقر اجتماع الإمام مع الوجهاء وكبار الشخصيات .
طرق الباب طرقا خفيفا ثم استأذن في الدخول .
رجل تشع منه أنوار الجلال ، جميل المحيا ساكن الروح ، تجبرك ملامحه على احترامه بعمق ، كان منهمكا في كتابة رسالة ، إنه الإمام بلعرب بن سلطان اليعربي حاكم الدولة العمانية والمنتخب الشرعي في تسيير أمور الرعية .
مثلنا بين يديه ..
تكلم قائد الحرس:
– أيها الإمام .. هذا الرجل قبضت عليه متسللا داخل الحصن .. يخامرني شك أنه أحد عيون أخيك سيف .
وضع الإمام أوراقه جانبا ثم نظر إلي متفكرا وقال :
– لباسك وهيئتك تظهران أنك لست منا وهذا مثار شك ، صمت قليلا ثم أكمل .. قل لي بماذا أغراك أخي سيف لتدخل في حلفه وتقاتلنا ؟ .
شعرت بضخ هائل للدم في أوردتي فقلت بتهدج :
– أيها الإمام .. أنا مجرد زائر .. وبعيد عن ظنونكم ولا أفهم عما تتحدث عنه .
تغيرت سحنة وجهه ونبرة صوته :
– أنت مخالف لتجاوزك قوانيين دخول الحصن . نحن في حالة حرب فلا نثق في هر يطوف حول الحصن فكيف بك ؟ .. أيها الحارس ضعه في السجن ثم أرسل إليه رجال التحقيق لتؤخذ اعترافاته.
أدركت تأزم قضيتي ، وأن قدري تتشابك خيوطه ، وهذا أيقظ في نفسي همة البحث عن مفاتيح الخلاص ، ولا أدري كيف أنقذفت تلك الفكرة في حجرات عقلي فتشبثت بها كالغريق .. فقلت :
– كي لا أشغلكم بقضيتي مما هو أهم ، دعني أثبت لكم حسن نيتي وسلامة طويتي .. أيها الأمام أتقدم إليكم بطلب تعييني حارس لهذا الحصن ولتكن كفارة لخطيئتي .
عندها تعالت غمغمة خافتة لقائد الحرس على إثرها أفرج عّما أحتبس في لسانه من كلمات :
– هذه المكيدة بعينها أيها الإمام .. هو حارس لنا وجاسوس لهم ، فلنحذره .
التزم الإمام الصمت وهو يمسد لحيته يتدبر هذا العرض ويدرس رأي القائد ثم قال بدهاء :
– ليست لدينا حاجة إلى مزيد حرس .. فعندنا الكثير .
سارعت في الرد بعد أن قررت الاستمرار في اللعبة :
– سأكشف لك عن حقيقة هي أني لست مثل أي حارس .. فلدي مهارة فائقة في التصويب بالبندقية .. وهذا يخولني أن أكون قناص الحصن ودرعه الواقي من هجمات ناكثي بيعتك ، وأنا على ثقة أنكم في حاجة إلى مثلي في هذا الوضع الأمني المتوتر المشحون بالخوف .
لمحت استحسان الإمام لهذه الفكرة .. إلا أنه راح يحدق في وجهي ويتفرس في ملامحي .. هذا جعلني أضطرب قليلا والعرق يتصصب مني خوفا من أن يكتشف كذبتي السمجة ، فأنا لم يتكئ عقب بندقية على كتفي يوما في حياتي إلا مرة أو مرتين كان ذلك في طفولتي مع صديقي الذي يختلس بندقية أبيه من نوع ” سكتون ” في منتصف الظهيرة ! .
نطق الإمام بصوت حازم :
– سأختبر مقدرتك على دقة التصويب الآن .. هيا بنا جميعا إلى سطح الحصن .
لم تكن رجلاي قادرتان على حملي ولست متأكدا إن كان قلبي سيثبت في مكانه فخفقانه المضطرب يهزه هزا .
في سطح حصن جبرين أخذ الإمام يرسل نظراته الباحثة بعيدا ، بعد أن استقر أمره على شيء ما قال هو يشير بيده :
– انظر إلى جنود أخي سيف المارق إنهم يحيطون بالحصن من كل حدب وصوب .. الآن عليك بذلك الجندي الذي يجلس تحت الشجرة على الجهة اليمنى .. اصرعه برصاصتك الجامحة .
كنت زائغ العنيين بالكاد ألمح الشجرة فضلا عن الرجل .
بعدها سلمني قائد الحرس البندقية ( بو عشر ) وأكد لي أنها محشوة وجاهزة للرماية .
تناولت البندقية رابطا على أعصابي المنهكة ويدي لا تهدأ من الحركة العشوائية ، وبالرغم مما يعتريني كنت أتظاهر بالهدوء والثقة .
احتضنت البندقية ، لوحت بها صوب الفضاء المفتوح نحو الشجرة ، وضعت جانب رأسي على الخشبة ، أغمضت عيني اليمني وتركت الأخرى مفتوحة باتجاه ابرة التصويب ، سحبت مزلاج الذخيرة ثم وضعت السبابة على الزناد بحذر .
كانت الأفكار تغلي في رأسي ، أشعر بضياع رهيب فلم أكن أتكهن بما سيحدث لي بعد الفضيحة إن لم أجندل العدو من الطلقة الأولى .
رحت أمسح قطرات العرق التي بدأت تغمر عيني . أدركت أني قضيت وقتا مبالغا فيه ولم أفعل شيئاً بعد .
حينها استولت علي فكرة شيطانية ألهبت جوارحي وأحدثت طنينا هائلا في رأسي فما استطعت الفكاك منها .
على نحو سريع ومباغت التفت نحو الإمام وقائده مشهرا البندقية عليهم ، وصرخت :
– أقسم بالله العظيم .. إن أبدى أحدكم حركة صغيرة سأرديه قتيلا بلا تردد ! .
جحظت عينا قائد الحرس :
– صدق حدسي فيك أيها الشقي المجنون .
زم الإمام على أعصابه ، وقال بصوت الحكمة :
– سأمنحك فرصة لتتراجع عن فعلك الشائن .. وإلا سلكت روحك درب التهلكة .
صممت أذني عن كلامهما المثبط ، ومضيت في خطة الهروب ، أجبرتهم على الجمود في مكانهما وإفساح الطريق لي .
بدأت أرجع إلى الخلف بخطوات بطيئة ومازالت مصوباً البندقية نحوهما ، متجها إلى الباب الذي دخلنا منه .
رفعت بصري عاليا فوقع أمام عيني مشهد اثنين من حراس الصحن ، يصوبون بنادقهم نحوي على إثرها انبطحت على الأرض فتلاحقت رشقات الرصاص بقربي .. رحت أزحف على الأرض .
اقتربت من الباب فدفعت بجسدي فيه منطلقا أعدو بكل ما أوتيت من قوة .
كنيزك سابح في السماء طويت السلالم والممرات ، كنت في لهفة للوصول إلى الباب الرئيس للحصن لأنجو من هذا الواقع الخانق الذي استعصى علي فهمه .
توقفت خطواتي المهتاجة عندما ظهرت أمامي قطعة رخام بيضاء محفورا عليها عبارة ..
” ضريح الإمام بلعرب بن سلطان بن سيف اليعربي . بويع بالإمامة سنة 1091 هجرية . توفي سنة 1104 هجرية ” **
هذه العبارة لم توهن جري اللاهث بل دفعت بي إلى مزيد من الانعتاق من صخب الماضي .
مررت على حراس الوزارة وأنا أعدو , وهم وقوفٌ يلاحقونني بعيون الدهشة ونداءتهم المتكررة لي بوجوب إرجاع البندقية .
ما إن أخترقت باب الحصن الخارجي إلى الشارع حتى أرعدني صوت بوق لحافلة كبيرة تقل سياحاً أجانب على إثره استفقت من خيالاتي التاريخية التي نسجتها ذاكرتي المعرفية ! .
رحت أمشي إلى سيارتي .. حين فتحت النافذة انطلق الهواء البارد يداعب صفحة وجهي وأنا أنظر من المرآة الأمامية مشهد حصن جبرين وهو يشمخ بسلام في هذا العهد الزاهر .
* * * * * * * *
** تقول كتب التاريخ : إن الإمام بلعرب بن سلطان اليعربي رحمه الله مات في مصلاه بحصن جبرين أثناء حصار أخيه سيف له عام 1692م ثم تولى الأخير مقاليد الإمامة .