مـــرآة

كتب بواسطة أمل السعيدي

تنشر الفلقُ النصوص الفائزة في الملتقى الأدبي والفني الثاني والعشرين الذي أقيم في ولاية البريمي من ٢٠ وحتّى ٢٢ نوفمبر ٢٠١٦. وبالأسفل نورد القصة الفائزة بالمركز الثالث مناصفة للقاصّة أمل السعيدي.

خيط ذهبي يتسلل مخترقاً ذلك الفاصل الشفيف بين طرفي الستارة، أرمي يدي التي أضعها عادة تحت رأسي فوق عينيّ بإهمال بالغ، أدفع كل الأفكار من مدى حساسيتي على أمل أن لا أنتبه بأن اليوم قد بدأ الآن، وبأنني لن أتمكن من العودة الى النوم. أشعر بأن وزني زاد مئات الباوندات، وأفكر بما تناولته على العشاء. حاجتي للحمام تزعجني. أن أمط جسدي، أن أمدده أمام هذا اللون المضيء للنهار عبء ثقيل لا أقوى عليه. أتقلب على الفراش وأضع الغطاء على وجهي، هاربة من الواقع حتى أشعر بحرارة أنفاسي تخنقني فأزيله.

((تستيقظ مزارع “الردة” معروقة بقطرات الندى ، وخلفها الجبال البعيدة هناك غير محجوبة، كمسلات متطاولة. أشجار السمر تقفز على رثاثة الجدب، طلح شجرة السمر مستعد لفوج الماشية من الخراف والأغنام التي ستلون هذه المساحة بعد قليل. تتهادى فتاة صغيرة في هذه اللحظة المفرغة من كل شيء، خلف تسع عشرةَ خروفاً. تمشي بمصير قانع دون أن تجهد نفسها في الإنتباه إلى شيء. نظرة خاملة ، وملامح رسمتها وحشة ذات طابع مليء بالغرابة وربما الكآبة. تنظر بعين متحجرة الى جمع الخراف وهو يأكل حصته الصباحية من العشب وثمار السمر))

أشعر برغبة في الإتصال بالعالم، فألجأ الى ذلك الطريق السائل عندما أفتح جهاز الحاسب الآلي، مدعيةً أنني أمد يدي الى شيء ما حقيقي.

((خرجت من وراء ثكنة أشجار السمر “موزة” التي تمشي بخفة سريعة على غير عادتها، تضع “برقعها” الأسود اللامع، ترفع هندامها وتربطه حول خاصرتها، موزة التي تسكن في غرفة بثلاثة حيطان، وتربي أكثر من مئة رأس من الغنم والخراف، لطالما كانت محط أنظار الجميع في هذه القرية، فحتى عندما حصل ولدها على وظيفة مرموقة في الديوان وتمكن من بناء بيت ضخم في نفس الحوش الذي تسكن فيه، رفضت أن تذهب معه، وأصرت على البقاء في فسحتها المفتوحة، مما يثير أهالي القرية حول  قدرتها على العيش بدون تكييف في فصل الصيف بحرارته الملتهبة والصاخبة. حدقت الفتاة بوجوم إلى موزة، وبدا أن محاولتها للاقتراب منها ستجلب لها بعض الأثارة السخيفة التي تتمنى، فكل يوم يمر على “الردة”، هو تكرار منوم)).

أضع قدميّ على الأرض وأذهب الى الحمام حافية، برودة الرخام تنبهني بأن الحياة موجودة بالفعل. كم لبثت نائمة؟ يوم؟ يومين؟ شهر؟ عشر سنين؟ لا أعرف تماماً. لكنني هنا الآن وبرودة الرخام تؤذيني إذ تدفعني للإحساس بقدميّ تمشيان.

(( – فطوم أمك تولد تو محتشرين داخل.

    – طيب خالتي  بدخل  الغنم  في الدرس وبلحقهم))

لست مثل بقية البشر، إذ لا أتفادى النظر الى وجهي في المرآة التي حرصت على تنظيفها آخر مرة وقفتُ فيها أمامها، يعجبني أن أشاهد نفسي هناك. غير ملونة، واضحة وأصيلة مثل فأس تتجه مباشرة إلى عنق لا تتحرك على المقصلة. كم أبدو منسجمة مع نفسي؟ إلى أي حد يليق بي هذا الكسل الذي ينسكب من وجهي؟ لا أفرشُ أسناني لأنني لا أحتمل الضغط على المعجون، لا أستحم لأن مزاجي الآن لا يحب الماء. أرتب شعري كيفما اتفق وأخرج إلى عباءتي الموضوعة على مقعد الصالة التي تبدو كما لو أنها خرجت من محنة صعبة، المكتبة متهالكة، لا أخشى فيها على شيء كما أفعل مع كتبي والأكواب التي أحب جمعها. أرتدي العباءة وأنظر الى جواربي التي لا أشعر برغبة في الجلوس لارتدائها ، لكنني أفعل خشية أن اضطر لشراء حذاء جديد وأن يكون لدي مهمة طارئة لا تحتمل أيامي التواطؤ معها.

((اعتادت فاطمة على العناية بأخوتها الصغار كلما حان موعد ولادة أمها، فهي تحتاج إلى إجراء عملية لإتمام الولادة في إحدى مستشفيات العاصمة. واليوم بينما كانت تساعد أحمد على ارتداء قميصه اندفع هذا الأخير إلى الخارج ليلعب مع أبناء عمومته، ولم تسمع فاطمة غير ذلك النداء القفر الذي يحفر في المكان هيبة وجلالاً مروعاً، كان أحمد قد ترك باب بيت عمه سالم مفتوحاً، فدخلت خراف موزة إلى الحوش وأكلت الزرع فما كان منه إلا ان يغضب ويبلغ الجد بالقصة، كانت فاطمة تراقب كلمات جدها دون أن تسمع، شاردة في عضلات وجهه التي تقول كل شيء، بدا لها كما لو أن الوجنتين مشدودتان إلى مكان خفي في القلب، هناك حيث يخفق الجسد صارخاً بالحياة، وفي غمرة انتباهتها الشعرية، كان والدها أمامها مباشرة، يتحدث الى الجد. لا تعرف فاطمة ما الذي دفع الجد لفتح ملفات غير ذات صلة بمزرعة العم سالم. فها هو يقول لأبيها بأن يغادر البيت إلى الأبد. كانت مزرعة الأب التي اشتراها بمبلغ زهيد أيام استلام السلطان قابوس للحكم نظير عمله في الخيالة السلطانية باسم أبو فاطمة، مما كان قد تسبب في إهانة الجد مرات كثيرة، فهو من يعتبر نفسه القائم على كل شيء فيها أيام غياب الأب فترة عمله في صلالة. خرج الأب مكسوراً، ونظر الى المساحة الخالية خلف بيته باهتمام شغوف، وقرر أن يجلس على الأرض هناك دون أن يقول كلمة واحدة. لقد قضت عليه الحسرة، ومنذ ذلك الحين وهو يتأهب للخروج إلى مكان ما، لكنه لا يخرج))

حالما أصل إلى السيارة، أشعر بأنني لم أرَ الدنيا منذ زمن بعيد. شمس النهار الشتوي تصفي الأشجار من اخضرارها الغامق، الشوارع تبدو نيئة وطرية، الطريق إلى عملي غير مزدحم. فراغات هائلة أمامي، أشغلها بفكرة عاجلة عن ما يمكنني تقديمه لمديري كي لا يخبرني بأنني لا أعمل جيداً. أفضل أن يطردني بدلاً من أن يقول شيئاً كهذا. لا أحتمل الفكرة الجريئة التي ستلمع في رأسه قبل أن ينام عن الفتاة التي يمكن ملاحظتها بسهولة لفرط شذوذها عن الملاحظة.”يبدو أنها لا تؤدي عملاً ذا جدوى، لم لا أقول لها شيئاً عن هذا؟ كيف سأبدأ؟ كيف أخلص نفسي من مشقة الإحراج؟ كيف أطلب منها المغادرة دون أن يتحطم زجاج عينيها أمامي؟” أقف الآن عند إشارة المرور، ها هو اللون الأخضر، أتحرك باتجاه اليسار ويستغرق الأمر مني ٣ دقائق قبل أن أصل إلى مقر عملي.

((في هذه الأثناء كانت فاطمة تختبئ في الدولاب وتبكي بصوت رفيع. تظن أنها المسؤولة عن تفاقم سوء العلاقة بين أبيها وجدها. وتفكر بأمها التي ستخرج من ولادة صعبة الى هذا البيت الذي يكاد يفقد سيده. تقرر ترتيب البيت، حتى إذا ما عادت الأم وجدت ما يسليها في ابنتها الكبرى التي نضجت للتو وأصبحت في أتم الاستعداد لإدارة بيت والمحافظة عليه، حتى وإن لم تتمكن من الحفاظ على من فيه، خصوصاً وأن هذا يؤرقها على الدوام))

أدخل المكتب، أشغل المكيف، أفتح بريدي الإلكتروني، لا جديد، أفتح صفحات الجرائد المحلية على الإنترنت، معظم أخبار هذا اليوم عن أزمة انخفاض سعر النفط. مقال الصحيفة الافتتاحي لصحيفة الحكومة “تداعيات انخفاض سعر النفط وضرورة الحوار المجتمعي”. أصاب بالذعر، لأنني سأشترك في شيء جماعي إن استدعى الأمر، أنني سأهجس بما هو خارج عني. باستسلام بليد أبدأ بتحرير خبر عن الأزمة كأنني غير معنية بالأمر ولم أكن قط. أخبار عاجلة عن حافلة متجهة من مسقط تصطدم بشاحنة كبيرة في الرياض في طريقها الى مكة. أسرع بشكل ميكانيكي بكتابة خبر عاجل عن الحدث. أعداد القراء يتزايد كل لحظة. رسائل عديدة تصل إلى حسابات المجلة عن الضحايا. لا أفكر الآن بشيء عدا أن المدير سيؤجل فكرته الجريئة قليلاً. أرفع قدميّ على الكرسي، اضطر لخلع حذائي وأبدو ممتنة لأنني ارتديت جورابي كي لا أبدو حمقاء إذا دخل الزملاء ونظروا إلى قدميّ الطويلتان بأظافري القذرة والتي تتكسر بمفردها دون حاجة مني للتدخل.

((وعندما عادت الأم بعد ثلاثة أسابيع كانت فاطمة تراقب الأم من خلال فتحة مفتاح الباب المقابل للباب الرئيسي لصالة البيت، تريد مراقبة ذهول أمها، وتخشى أن تعبر أمها عن ذهولها باستحياء فيما لو كانت هي هناك. لكن أمها قالت أنها تشك فيما لو أن فاطمة هي من فعلت ذلك، لابد وأنها سارة، الأخت الصغرى. لقد كان هذا صعباً على فاطمة، أخذت تركض بعيداً إلى خلف المستودع وتبكي بشدة جارحة. وعندما سقط منها الكوب في المرة التالية كانت قد تحطمت تماماً))

بعد8  ساعات من العمل الشاق، وبأخبار لا أعرف من المعني بها، ولا من يقرأها، بل إنني أفكر أن العالم كبير لمجرد أن أؤمن بأن إنساناً ما قد يهتم بهذه الأخبار، لأن هذا يعني بان لديه دوافع أخرى لم يحدث أن اكتشفتها وبأن فضوله الشخصي يؤثر أن يختار شيئاً لا أعرفه. تبتهج في رأسي فكرة أن الفضاء قد يكون متسعاً على غير ما أعتقد. أعود إلى البيت.

أدخل إلى الحمام، حيث المرآة مليئة بالغبار الكثيف حتى أنني لا أتبين وجهي الواضح. وأسأل نفسي متى آخر مرة نظفتها؟ متى آخر مرة وقفتُ أمامها؟!

((قضت فاطمة فترة الدراسة بجد واجتهاد، أن تحصيلها للمركز الأول لا يعد إلا محاولة يائسة لإعادة الكوب نظيفاً إلى مكانه في درج الأكواب في المطبخ. لكنها وفيما يتعلق بالحديث مع أمها، كن لا يتبادلن إلا إشارات بليدة بين الفينة والأخرى، بانسجام كبير مع “الردة” التي لم تشهد أي حدث خارق أكبر من هذا الذي حدث في ذلك الصباح. لقد ظلت أشجار الليمون تثمر ليموناً اخضر يانعاً، وظل في مكان من هذه القرية حجرة دولاب ضيقة ربت فتاة سيئة الصيت فيما يتعلق بحيويتها. وظنت فاطمة أن في الصخب حلاً ما، فقررت أن تدرس الإعلام)).

أدب التاسع والسبعون

عن الكاتب

أمل السعيدي