نفائس العقيان

كتب بواسطة إبراهيم بن سعيد

الفضول والعثور[1]

 

عثرتُ في خِضم عمل غير بعيد عن مناخات الشعر، وبالأحرى تفاجأتُ، بنسخة الكترونيةٍ من مخطوطِ ديوان الشيخ جاعد بن خميس بن يحيى الخروصي، ولم يَدُر بظنِّي أن تُراثًا مثل تراث الشيخ لا زالَ مُهملًا من التحقيق والنشر والطباعة حتى قرأتُ تلك المخطوطة وبحثت بعدها، ليتضح لي أن أعمال الشيخ على شُهرته مهملة، وهو علَمٌ من أعلام عمان لا يُشق له غبار، لكن تُراثه بأكملهِ ما زال حبيس المخطوطاتِ وخزائنها لم يَخرج منها للطبعِ منذ اختراع المطبعة غير كتاب واحد، هو كتاب الطهارات[2]، فلا غَرَابة أن جهلنا، ونحن أبناء هذه الثقافة، أنَّهُ كان شاعرًا عظيمًا وأن لهُ شعرًا رفيع المقام، يشهدُ على تمكنه الشعريِّ واللغوي وعلى ملكته الشعرية المطبوعة الجزلة وصوره البديعة، والأهمُّ من ذلك كله، أنه دليل على صفائهِ وصدقهِ الروحيِّ الناصع.

يكفي للتدليل على شهرةِ الشيخ أنه قد يكون الوحيد بين العلماء، في حدِّ ما نعلم، الذي اجتمعَ الشعراءُ على مدحهِ، من خارج سلك الأمراء والأئمة والسلاطين والملوك العمانيين، حتى بلغت أشعارهم ديوانًا جمعه الشيخ خميس ابنه وأسماه قلائد المرجان، والشيخ خميس هو نفسه جامع هذا الديوان الشعري الذي بين أيدينا، وللشاعر المعروف حميد بن رزيق ديوان جمعَ فيه قصائدهُ في الشيخ جاعد وأبنائه وأسماه “سبائك اللجين وقرة العين” وما يزالُ مخطوطًا هو الآخر.

وقعتُ في غرامِ انتشاءات الشيخ الإلهية وكؤوس خمر المحبة التي تنسكبُ من شعره، في تلك الصدفة من عثوري على مخطوطِ ديوانه، وهي المخطوطة الثانية التي اعتمدناها هنا بخط الناسخ محمد الخميسي، وكان صوتٌ ما داخلي يهمِسُ لي أنني سأعملُ على تحقيقِ الديوان، وأنا أكررُ استغرابي وأستعظم عدم نشره، بينما نُشرت دواوينُ من هُم دونه أكثر من مرةٍ وأعيدت طباعتها بأكثرِ من تحقيق، فيما يقبعُ عملٌ جميلٌ بالغُ الروعة والغايةِ والحب، كهذا العمل، دفين المخطوطات، لا يطلعُ عليهِ إلا الباحثون ولا يصلُ إلى أكناف القراء، والشاعرُ هو من هو في المقام والذكر، فليس الشيخ رجلًا مجهولًا ولا مغمورًا، بل قد تجاوز صيته عالم الفقهاء والأدباء وأهلهما إلى العالم الشعبي، على نُدرة حدوث ذلك، حتى زخرَ الأدب الشعبي بالقصص الكثيرة حول خوارقِ الشيخ وكراماته، وكذلك أبناؤهُ من بعده، خاصة الشيخ خميس، وعززتها المكانةُ والشهرةُ التي حظيَ بها الشيخ ناصر بن جاعد، وهي مكانةٌ اكتشفنا هنا أنها كانت تصدر من مقام الأب في الأصل، وهو والده ومعلمه.

إن ما سُمي في الأدب العماني بشعر السلوك، والذي تتكرر أصداؤه في نظم الشيخ ناصر بن جاعد الذي هاجر إلى زنجبار معية السلطان سعيد بن سلطان، وفي أشعار الشيخ سعيد بن خلفان الخليلي الذي أقام دولة الإمام عزان بن قيس وتوفي في نكبة الدولة وحظها العاثر هو وابنه الأكبر محمد، وفي تجليات أشعار أبي مسلم البهلاني الكثيرة، إنما كانت ينابيعه تتدفق من عينِ هذا الشعرِ وهذا الديوانِ، ليس بالأقدمية وحدها، بل بالتأثر المباشرِ تلميذًا عن شيخهِ وقراءةً في تراثِ الشيخ الشعري.

تجذَّرت فكرة التحقيق أكثرَ مع دراستي لمخطوط الديوان، وما كنتُ أظنها مجردَ خاطرِ مزحةٍ عابرةٍ تحولت إلى واجبٍ وأمانةٍ صارت على عاتقي، كي أنهضَ بتحقيقِ ديوان الشيخ ونشره، ولا شكَّ لديَّ أن بينَ المشتغلين بالثقافةِ العمانيةِ وتُراثها من هُم أجدرُ وأكثرُ صَنعةً ومهارةً ومعرفةً وخبرةً مني، ففي عام ١٩٩٦م أقام المنتدى الأدبي ندوة قراءات في فكر أبي نبهان شارك فيها نخبة من الأكاديميين والمتحدثين وصدرت البحوث منشورة في كتابٍ تحت عنوان: قراءات في فكر أبي نبهان واتفقت معظم البحوث على ضرورة تحقيق آثار الشيخ جاعد من كتب ومخطوطات ونشرها، وفي عام ٢٠٠٧ صدرت الطبعة الثانية من ذلك الكتاب، وها نحن في عام ٢٠١٦ بعد عشرين عامًا من تلك الندوة، ويجري الإعداد هذا العام لندوة أخرى عن الشيخ بمناسبة الذكرى المئوية الثانية لوفاته[3]، وما زال شِعرُهُ حبيسَ المخطوطات، ناهيكَ عن كتبهِ الفقهيةِ المطولةِ ورسائلهِ، عدا كتاب الطهارات، إذًا فقد تأخرَ الوقتُ كثيرًا ولا بدَّ من العمل، وهكذا تحولَ الخاطرُ المازحُ إلى جدٍّ وحقيقة، مدفوعًا بالأساس من كَمِّ المفاجآتِ الشعريةِ الجميلةِ والأعماقِ الزاخرةِ بالجواهرِ النفيسةِ التي تتلألأُ أنوارُها في هذا الديوان، من الروحِ التي تتدفقُ فيه، ومن الرُّؤى المفتوحةِ الآفاقِ التي تُحيي الانسانَ وتضيءُ الوجدانَ، وها نكتبُ هذه المقدمةَ لهذا العملِ بعد أن أنجزناهُ شاهدينَ على ما فيهِ من الجواهرِ الإنسانيةِ الفاخرةِ التي تظلُّ تضيء وتنير، مَا يجعلُ المرءَ يسري ويجري مع تدفقاتِ هذه الروحِ الجليلةِ المتجليةِ في هذا الشعرِ وينابيعهِ القدسية الطاهرة.

 

البيت العجيب

بيت شعر واحد جعلني أعزمُ أمري على تحقيقِ الديوان والتنقيبِ عن نسخٍ مخطوطةٍ أخرى، لتلافي الأخطاء والسقط والسفر إليها أينما كانت، ومقارنةِ النسخ المختلفة للخروج بالديوان كاملًا، فما سرُّ هذا البيت الشعري؟

سرُّه انه يُكثِّفُ ما كنتُ وصلتُ إليهِ من بحثٍ شخصيٍّ وتأمل، حتى أطمأنَّ قلبي إليهِ كمَن عثرَ على ضالَّتِه، ولم تكن تلكَ الضالَّةُ شيئًا آخرَ غير إسقاطِ الحجبِ، وهدمِ الأصنامِ التاريخيةِ الزائفةِ، والوصولِ إلى اللهِ الخالص، وهذا ما يُقدمهُ شعرُ الشيخ، ذلك أنَّه يقبضُ على اللحظةِ التي نتجاوزُ فيها مذاهبنا الضيَّقةَ وانتماءاتنا الاجتماعيةَ إلى فضاءِ الكونِ الرحبِ وإلى سرِّ الحياةِ فنرى من هناك أنّ أشكال الحياة المختلفةَ ما هي إلا صورٌ واضحةٌ مليئةٌ بالرسلِ والرسائلِ، وأنَّ الأديانَ لا تستطيعُ أن تحتكرَ الحقيقةَ الواحدةَ وأن تعادِي سواها، لأنها جميعًا مجردُ رموزٍ ورسائلَ وطرقٍ إليهِ، هوَ الرفيعُ الذي تبدأُ منهُ كلُّ الطرقِ وإليهِ تنتهي، الأولُ والآخر، وأنا أقرأ شعرَ الشيخ وجدتُ ذلك التَّفَتحَ والأفقَ الكاملَ موجودًا هنا ومحفوظًا، منذ مئتي عام، وما قد نعتبرُهُ اليومَ وليدَ ثقافتنا المعاصرةِ في تعزيزِ الانفتاحِ والترحيبِ بالاختلاف، كان الشيخُ قد وصلَ إليه منذ قرنين من الزمان:

أُنظُرْ إلى الموجودِ تَعْلَمْ أنَّه فِعلٌ وَمَفعُولٌ وَرَبٌ فَاعلُ/ قَدَرٌ وَمَقدُورٌ وَرَبٌ قَادِرٌ خَلْقٌ وَحَقٌ فِي القَضِيَّةِ عَادِلُ/ وَالكَائِنَاتُ جَمِيعُهَا فِي كَونٍها كُلٌ إلَيهِ مَرَاتِجٌ وَدَلَائِلُ/ وَجَمِيعُ مَا تَحتَ الوُجودِ بِأَسْرِهِ مِن جُودِهِ المَوجُودِ فَهوَ رَسَائِلُ/ حَتَّى الشَرَايعُ والحَقَائِقُ كُلَّهَا نُورُ الطَّرِيقَةِ لِلمُرِيدِ مَشَاعِلُ/ لَا تَدْهَشَنَّ مِنَ البَرِيْقِ وَلَا تَكُنْ فِي حِيْرَةٍ وَعَمَىً كَأَنَّكَ بَاقِلُ/ فَالصَّالِحَاتُ لَوَازِمٌ وَنَوَافِلُ كُلٌّ إلَيهِ مَنَاهِجٌ وَوَسَائِلُ/ وَجَمِيْعُ أنْوَاعِ الدِّيَانَةِ كُلُّهَا لِلرَّايِدِينَ مَكَارِعٌ وَمَنَاهِلُ/ فَانْهَلْ وَعَلَّ وَلَا تَمَلَّ نَمِيْرَهَا يَا نَاهِلَاٍ نِعْمَ الَّذِي هُوَ وَاغِلُ.

ينهض الشيخُ بنورٍ مستبصرٍ فيصيبُ بلغةِ زمانهِ النورَ الحقيقي، الذي يَروي العالمَ ولا يُرديه، والمعرفةَ التي تُحيي العالمَ ولا تُميته. حين قرأتُ البيتَ وجدتُ خلاصة الطريقِ الذي كنتُ أبحث عنه وأفتش، فليست الأديانُ على اختلافها، ناهيكَ بالمذاهب، إلا دليلًا متفقًا على أمرٍ واحدٍ، هو هو، ذلكَ الذي يَصدرُ منهُ الوجودُ ويَردُ، فاذا أخذنا ذلك الاتفاقَ وتركنا مزالقَ الشّقاقِ وأوديةَ الرغبةِ الصماء العمياءِ في امتلاكِ واحتكارِ الحقيقة، وهي لا تتفق مع الطبيعةِ، فهناكَ سنجدُ أننا على اختلافِنَا متفقينَ على أمرٍ عظيم، لكننا من جَهلنا ركّزنا على اختلافاتنا وتركنا الاتفاق.

حين وجدتُ في شعرِ الشيخِ الرئيس ما يُشبهني كان ذلكَ أشبهَ بحينِ فرحٍ وعرسٍ وابتهاجٍ ومسرةٍ كبيرةٍ، وأن يَجد كلُّ قارئٍ في هذه الأشعارِ ما يُشبههُ، ويجدَ فيها رُوحهُ، فهو الغايةُ والأملُ، لأنها مكتوبةٌ ككلِّ كتابةٍ إلى المستقبلِ وليسَ إلى الماضي، لذلكَ فهي لِزماننا، وهذا ما يجعلُني أقدّمها للقارئ.

_______________________________________

[1] تنشر الفلق بالاتفاق مع المحقق جزءاً من مقدمة التحقيق لديوان نفائس العقيان الصادر هذا العام ٢٠١٧م عن مركز ذاكرة عمان.

[2] كتاب الطهارات للشيخ جاعد بن خميس الخروصي، تحقيق حسن بن علي بن سيف الشعيبي، وزارة التراث والثقافة ١٤٣٣هـ/ ٢٠١٢م مسقط

[3] أقيمت بجامعة السلطان قابوس ندوة آفاق حضارية من حياة الشيخ أبي نبهان جاعد بن خميس الخروصي في الفترة ٢٦- ٢٨ سبتمبر ٢٠١٦م

أدب العدد الحادي والثمانون

عن الكاتب

إبراهيم بن سعيد