عارض الرمح شقيق ج1

كتب بواسطة سعود الزدجالي

تأمّلات في محاضرتي عدنان إبراهيم

الجزء الأول

يقول حجل بن نضلة:

جاء شقيقٌ عارضا رمحَه         ***    إن بني عمّك فيهم رماح

ويقول العبّاسي في معاهد التنصيص: “والمعنى: جاء هذا الرجل واضعا رمحه عرضا مفتخرا بتصريف الرماح مدلا بشجاعته؛ دالا ذلك على إعجاب شديد منه، واعتقاد بأنه لا يقوم إليه أحدٌ من بني أعمامه، كأنّهم كلهم عزّل ليس مع أحد منهم رمح؛ فقيل له: تنكب وخلّ لهم طريقهم؛ لئلا تتزاحم عليك رماحهم، وتتراكم عليك أسنتها، إن بني عمّك فيهم رماح كثيرة؛ والشاهد فيه: تنزيل غير المنكر منزلة المنكر إذا ظهر عليه شيءُ من أمارات الإنكار[i] لقد كان عدنان إبراهيم  “شقيقا” بسبب ارتجاليته وعدم استعداده في المحاضرتين من حيث إن الاستعداد العلمي احترامٌ للجمهور؛ لذا يهدف المقالُ إلى أن يضيء بعض الجوانب المتعلقة بطرحه في الآتي:

  1. “الحضارة الإسلامية ودورها في ترسيخ القيم والتسامح”؛ ويفترض أن ينطلق من ثابت مفهوم “الحضارة الإسلامية”؛ ليدلل على “الترسيخ” للقيم، والتسامح؛ عطفا للخاص على العام عند اعتبار “التسامح” ضمن منظومة القيم “الراسخة” بفعل الحضارة الإسلامية؛ ولكن ما المقصود بمصطلح “ترسيخ”؟ أهو تأصيل “عقلي” نظري؛ أم أنه “ترسيخ” عملي ضمن الممارسات الفردية والمجتمعية في تاريخ الحضارة الإسلامية؟ وهل “واقعنا” الحضاري يدل على “هذا الترسيخ المزعوم”؟ وما القيم أصلا حتى نبحث في ترسيخها؟ وما توقُّعات الحضور المترقِّب وهو يتلقى الكلمات المفتاحية للعنوان (حضارة، ترسيخ، قيم، تسامح)؟
  2. “الإسلام كما يريده الله” ففي الأولى يزعم ترسيخ “التسامح” وفي الثانية يهدمه هدما؛ “كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا” (النحل: 92)؛ لأننا إن اعتبرنا “التسامح” في مبدئه “قبولا” للآخر؛ فذلك يعني وجود “احتمالات الخطأ في اعتقادي” وهي تمكنني من قبول “الآخر” المختلف في فهمه بين تعدد “الفهوم” لـــ “النص الإلهي”، وهذا الافتراض أساس “التسامح” أو “الحوار” الذي رسخته “الحضارة الإسلامية” كما يزعم “العنوان الأول”؛ بيد أن العنوان الثاني “الإسلام كما يريده الله” ينسف الأول، بل ينسف كلَّ قيم التسامح المرسخة المزعومة؛ إذ كيف لي أن أحيد عن “فهم نبوي توصّلت إليه عبر إدراك مراد الله تعالى” إلى فُهوم أخرى لم تدرك مراد الله؟ إن الحضارة الإسلامية التي يزعم العنوان أنها رسّخت القيم والتسامح؛ الجزءُ الأعظم من تاريخها، وحاضرها إنما هو “صراعٌ مذهبي” لا على “السلطة” فحسب؛ وإنما على “الجنة”؛ ولا أدلّ على هذا الزعم من الواقع الممارس، ومؤلفات “الفرق والمقالات”، والتسابق المحموم على “الفرقة الناجية”، وتأطير العقائد والدفاع عنها تمييزا لفرقة مذهبية دون أخرى.

وأعتقد أن عنوان المحاضرة الأولى (ربما) من وضع القائمين على التنظيم، بسبب ارتباطه ببعض جوانب المشهد الثقافي المحلي، أما العنوان الثاني “الإسلام كما يريده الله” فإنه يحمل نكهة عدنان إبراهيم الشخصية، والدليل على هذا الزعم أنه انتقده ووصفه بالمتبجح حسب تعبيره؛ وهو أمر حسن في ذاته بيد أننا نستنتج أن العنوان لو كان من وضع الآخرين؛ لما انتقده بهذه الشدة؛ كما أنه لم يبرئ نفسه بأنه ليس من وضعه. وبعيدا عن “تقليعات الخُطب وقناة اليوتيوب” يمكن أن أتمحور في مقالي حول سؤال أحسبه مهما إلى درجة ما، ويفتح للقارئ تأملاته،  وهو:

  • ما المشروع العلمي، أو الفكري الذي قدّمه أو يقدّمه عدنان إبراهيم في محاضرتيه، وفي كل إنتاجه؟

وعبر هذا السؤال يستطيع القارئ، والمتابع أن يضع الإجابات العلمية الصارمة إن تسلح بعُدّة منطقية ومعرفية ومنهجية بعيدا عن العاطفة، ولا أريد أن أشق على القارئ بقدر ما أريد أن أضع “محاضرتيه وطرحَه” بين معقوفتين، أو أضعها موضع السؤال حتى لا نقع فريسة الإغواء والارتجالية التي قد تبدو عند البعض جذّابة من الوهلة الأولى، ويمكن للقارئ أن يقف على الملحوظات الأولية للمحاضر عبر النقاط الآتي:

  • يثني المحاضر على عمان وأهلها، بما فيها من أمن واستقرار؛ وهو أمرٌ معتاد من كثير من زوار السلطنة لا سيما دُعاة العلم والساسة، ووفقا لمبادئ “العقد الاجتماعي” ونظريات الدولة ومفاهيمها؛ نسأل: هل يعد الأمن والاستقرار في دولة ما استحقاقا أم يعد أعطية؟ فإذا كان هذا التفكير يُستهجن من الإنسان البسيط؛ فكيف الشأن بمن يجعل نفسه ضمن دائرة الفلسفة والفكر؛ لا سيما وهو يطرح مفاهيم الحضارة؟ كما أنه ينبغي علينا أن نترفّع قليلا عن آيات المديح، وكأننا نبتز اعترافا من الآخرين بشرعية وجودنا؛ والذات تدرك ذاتها ونواقصها مهما بالغ الآخرون في تقديم المديح لأغراض لا يعلمها إلا الله والمدّاحون.
  • قدّم المحاضر “العذر” بين يدي ما يمكن تسميته بـ”التشرذم الفكري”؛ وهذا ما دفعني إلى اجتراح هذا العنوان لمقالتي؛ إذ أفاد بأن مانعا ما قد منعه من الإعداد للمحاضرة، وهو أمام حشد كبير من الطلبة وغيرهم احتفاء به، دلّ على الإعداد الجيد لاستقباله؛ فهلا وضعت – على أقل تقدير- خُطاطة ذهنية لحوصلة أفكارك بدلا من “الارتجالية” الواضحة التي تميزت بها شخصيتك أثناء الطرح؟ ألم تستطع أن تكتب ورقة بها رؤوس الموضوعات في سلك ناظم وأنت على مقعد الطائرة؟ ألا يعدّ ذلك استهانة بالجمهور والنقاد والمفكرين كما فعل شقيق أمام رماح بني عمّه؟
  • كان المحاضر مرتبكا في داخله، يكرر لازمته (آه) بين كلّ جملتين؛ مما أعطى انطباعا سيئا، وصادر رصانة الكلمة، ووضوح الفكر؛ وكأنه يبتز من المتلقي الاقتناع بفكرته المشوشة؛ وحدودُ الفكر حدودُ اللغة بحسب فتغنشتاين.
  • أكثر من الاستطرادات وذكر عُنوانات الكتب دونما منهج ينتظم المضمون، وكأنه طالب “دراسات عليا” مبتدئ يريد أن يبرهن لأستاذه كثرة الاطلاع والشغف بالقراءة؛ كما أنه انشغل بمقدمات لا علاقة لها بالموضوع كالتفريق بين “الثقافة” و”الحضارة” وتعدد التعريفات[ii]؛ في الوقت الذي ينتظر فيه المتلقي “ترسيخ القيم والتسامح” في الحضارة الإسلامية، وحاضر المجتمعات العربية يغلي بالأفكار الداعشية؛ فلا يدري المتلقي أن يصدق حاضره الملموس، أم قصائد المديح في بلاط الوهم؟

لنفترض أن العنوان المطروح: “الحضارة الإسلامية ودورها في ترسيخ القيم والتسامح” هو الوجه الأول للعلامة اللسانية (الدال)؛ فإن المضامين الفكرية التي يطرحها المحاضر هي مدلول العبارة (العنوان)؛ فهل وفّق عدنان إبراهيم في تقديم الوجه الثاني للعلامة اللسانية أم مارس نوعا من التفكيك والفصل بين الدال والمدلول؟  بمعنى: هل التزم المحاضر بتقديم مضامين فكرية تنضوي تحت عنوانه الذي وضعه للمتلقي؟ أو إلى أي مدى خالف المحاضر توقعات المتلقي؟

وبما أن “الحضارة الإسلامية” ترسّخ القيم والتسامح كما يدّعي العنوان؛ فإنها لا تعجز عن تقديم مفهوم “الحضارة” بما أنها الفاعلُ في سياق النظم الاجتماعية والسياسية؛ فلماذا يلجأ عدنان إبراهيم إلى شيء “خارجاني” في الفلسفة الغربية لتحديد الحضارة في الوقت الذي يزعم فيه أن الحضارة الغربية لم تهتم بالغايات اهتمامَها بالوسائل؟ فإذا كان الفاعلُ المرسّخ (بكسر السين) للقيم غائبا ويحوم حوله الإبهام؛ فكيف اهتدى إلى (مفعوله=  ترسيخ القيم والتسامح)؟

لقد ظلّ المحاضر إلى ما بعد الدقيقة (37) وهو يحاول التفريق بين “الثقافة” و”الحضارة” والخروج بمضمون نهائي، وكأنه في قاعة لطلبة السنة الأولى يعدّهم للاختبار حتى أدركهم الملل، ولما بلغ الدقيقة (39) تقريبا طرح تساؤلا فحواه: “ما القيم”؟ ثم أجاب مباشرة بأنها: “معايير أو/ و مقاييس بموجبها نصدر أحكاما، أو القيم أحكام تطلق على موضوعات، أو معايير أو مقاييس تعبر عن موقفنا إزاء ما نشاهد، هذه هي القيم” وزعم أن موضوع القيم موضوع حديث ومعاصر؛ وهو زعمٌ لعمري عجيب؛ فــــــ:

  • ما الذي نتوقعه إزاء العنوان المطروح؟

          هل نتوقع أن يحدثنا المحاضر عن قيمة “الصدق” مثلا؛ ثم نزعم بأنها قيمة إسلامية؛ بمعنى: هل الصدقُ قيمة إسلامية خاصة أم أنها قيمة إنسانية كونية؟ فإن كان خاصة بنا؛ فكيف إذن تُكتسب “الأخلاق” القيمة الكونية؟ بعبارة أخرى: إذا كنت تزعم أن قيمة ما ولتكن الصدق؛ هي قيمة إسلامية، وتريد البرهنة على أن الدين رسّخ هذه القيمة؛ فإما أن تبرهن على مضمون القيمة لإثبات الخصوصية وتمييز المفهوم؛ وإما أن تبرهن على الأسس الفلسفية والعقلية أو الدينية في ترسيخ قيمة “الصدق” من حيث مبدأ الإلزام الأخلاقي؛ فإن كنت تزعم على التفرُّد؛ فإن الآخر لا يكترث بما تريد البرهنة عليه؛ لأن الأخلاق تتسم بالكونية وما كان خاصا بك هو خاصٌ لا يتعداك؛ وأرجو من القارئ الكريم أن يفرّق بين الأمرين. وحتى أقرّب القضية؛ فلنعدّ إلى “الرحمة” أو “الرفق”  (مثلا) بوصفها قيمة إنسانية من حيث التأسيسُ مبدئيا؛  فما الشيء الذي دفعني في التحول من “العقل النظري” بخصوص الرحمة إلى “العقل العملي” لممارستها في واقعي؟ ما العنصر الذي يُلزمني ممارسة هذه القيمة؟

إن عنصر “الإلزام” هو بؤرة القضية في الفلسفة الأخلاقية؛ ومع انعدام نظرية أخلاقية متكاملة في التراث الإسلامي؛ فإننا لا نعدم نظرات تأسيسية؛ لا سيما بعد التحولات في “تهذيب الأخلاق” لمسكويه[iii]، وما طرحه إخوان الصفا وغيرهم؛ ولكنّها نظراتٌ تفتقر إلى الانتظام والدراسة؛ ولكي تتضح الصورة في مسألة “الرحمة” يقول الغزالي (ت505هـ): “الرحمة لا تخلو عن رقة مؤلمة تعتري الرحيم فتحركه إلى قضاء حاجة المرحوم، والربّ تعالى منزه عنها؛ فلعلك تظن أن ذلك نقصان في معنى الرحمة، فاعلم أن ذلك كمال، وليس بنقصان، أما أنه ليس بنقصان: فمن حيث إن كمال الرحمة بكمال ثمرتها، ومهما قضيت حاجة المحتاج بكمالها لم يكن للمرحوم حظٌ في تألُّم الراحم وتفجُّعه، وإنما تألُّم الراحم لضعف نفسه ونقصانها، ولا يزيد ضعفها في غرض المحتاج شيئا بعد أن قضيت كمال حاجته. وأما أنه كمال في معنى الرحمة: فهو أن الرحيم من رقة وتألُّم يكاد يقصد بفعله دفع الرقة عن نفسه؛ فيكون قد نظر لنفسه، وسعى في غرض نفسه، وذلك ينقص عن كمال معنى الرحمة؛ بل كمال الرحمة أن يكون نظر إلى مرحوم لأجل المرحوم، لا لأجل الاستراحة من ألم الرقة”[iv]

ويتطابق ما يطرحه الغزالي في بعض جوانبه مع ما طرحه تشارلز تايلر من حيث إن الأخلاق “محايثة للوجود الإنساني” فالحالة الذهنية أو الصوتُ الداخلي أو صوتُ الضمير، أو ما عبّر عنه بــ”مبدأ الأصالة” منها تنبع الأخلاق، وهي عنده نوع من ترتيب الخيرات العليا والقيم؛ ودور العقل فيه دور نقدي وليس دورا تأسيسيا[v]، وقد أشار كانط إلى ما أشار إليه الغزالي آنفا؛ في كتابه “تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق” بيد أنه يخالفه في أن الفعل (الرحمة) أو (الإحسان) وقد صدر من دوافع النفس تلك؛ فإنه ينقصه المضمون الأخلاقي؛ ولكنّ الإنسان إذا “لفعته سحبُ الهموم الذاتية التي تقضي على كل مشاركة وجدانية في أقدار الآخرين، وأنه لا يزال قادرا على تقديم الخير لغيره من المعذبين، وأنه قد شُغل بشقائه الشخصي فلم يعد شقاء الآخرين يحرّك فيه جارحة، وأنه على هذه الحال التي لا يؤثر عليه فيها ميل يستطيع أن ينزع نفسه من هذا الجمود المميت وأن يؤدي الفعل عن شعور بالواجب فحسب، مجردا عن كل ميل؛ عندئذ فقط تكون لهذا الفعل قيمته الأخلاقية الأصيلة”[vi]

إن الحديث عن القيم المتناثرة في القرآن الكريم؛ لا يمتّ إلى العنوان بصلة ولا يقدم جديدا؛ لأننا يجب أن نفرق بين “الأخلاق بالقوة” أو مرحلة تأسيس الأخلاق نظريا، و“الأخلاق بالفعل” وهي مرحلة تطبيق الأخلاق في حياتنا؛ بدافع “عنصر الإلزام الأخلاقي”؛ فهل استطاع عدنان إبراهيم تقديم الرؤية الأخلاقية القرآنية متكاملة وفق منظومة محددة، وعلاقة ذلك بالإنسان؟ وهل برهن فعلا في محاضرته على التسامح تاريخا وحاضرا في الحضارة الإسلامية؟  لقد حاول أن يمر على القيم القرآنية مرور الواعظ الخطيب بأسلوب مهلهل، ولم يوفق في تقديم الرؤية التأسيسية الفلسفية العميقة للأخلاق، ولا يمكن لمفكر أن يقدم رؤية فكرية أو نقدية عميقة وهو لم يستعد لمحاضرة يريد إلقاءها، ومع ذلك يمكن أن نشير إلى أهم النقاط في طرحه:

  • يبدو أن المحاضر ينطلق مما سمّاه بـ“القيم الكلية” ولعلّ على رأسها “التوحيد”؛ فالتوحيد يُطلق – حسب زعمه – “الفاعليةَ الأخلاقية” لعمارة الكون متمثلة في “الاستخلاف”؛ وقد يواجهه سؤال فحواه: ألا توجد حضارة خارج قيمة “التوحيد”؟؛ لذلك ووفقا لهذه النظرة؛ فإن بعض الأفكار التي يروّج لها المحاضر تنطلق من أحادية الحضارة الإسلامية أو ما يمكن تسميته بـ“المركزية الإسلامية” التي طرحها سيد قطب والمودودي، وهي أفكار تنسف التسامح الديني وتقوض أركانه، ولا أدري كيف يجتمعان؟
  • طرح مصطلح “التناقض القيمي” أو مسألة التنازع والصراع بين القيم؛ ليدخل في مصطلح “الارتفاق” أو “التناغم القيمي”، وهو في ذلك لا يزيد من النظر في النصوص القرآنية، وينسى الطبيعة الإنسانية التي جبلت على “الصراع” بين “الخير العام” و”الخير الخاص” والقرآن دلل على هذا الصراع الذاتي للإنسان، ولولا ذلك الصراع النفسي لما استقام التكليف والابتلاء؛ مما يشي إلى أن الرجل نظرته مبتورة لا تنمّ عن تعمّق فلسفي وقراءة متأنية؛ والسبب أنه يفتقر إلى نظام في تحليل الخطاب الديني يجعل السياق أهم منطلقاتها؛ وهو لا يرى أن المسلم في حالة صراع مع الظاهرة الكونية أو الوجود، ولكنه في حالة التناغم أو الارتفاق، وتجاوز بأن “الإنسان” مسلما كان أو غير مسلم هو في ساحة الأخلاق في صراع مع نفسه؛ ومع المجتمع والمنفعة العامة.
  • وفي معرض حديثه عن “الارتفاق” و”التناغم” إذا به يطرح قضية تعدّ من الأعاجيب، ومن اللفتات التعسفية؛ أن يدّعي أن القرآن الكريم يؤسس لــ“العلوم التجريبية”، وهو في ذلك يقع في مزاعم الإعجاز العلمي، ويسير في المضمار ذاته؛ وكأن المسلم لا يزال بعد (1400) سنة بحاجة إلى برهان الإيمان بالقرآن وقدسيته، على افتراض الشك فيه، على أنه لا بد من الإشارة إلى أمرين:
  1. أن العلم مبني على البرهان التجريبي، والإيمان تسليم، وبينهما بونٌ معلوم؛ فالإيمان يسلم أن “الميت” ضُرب ببعض البقرة فأحياه الله في بني إسرائيل، ولكنّ “العلم” يفصله عن حقوله ويجعله المنطق الوضعاني من المسائل الزائفة؛ فلا يمكن التحقق من صدقها؛ لأن العلم منهج تجريبي يعزل العاطفة الدينية عن سياقاته وبراهينه.
  2. أن العقائد الدينية في القرآن الكريم، مما ظنّه المحاضر تأسيسا لمناهج العلم التجريبي؛ هي ما سمّي بــ”اللاهوت الطبيعي” للاستدلال على وجود الله، والبعث، والمحاضر (عفا الله عنه) لم يتابع الدراسات العلمية في هذا المسار على ما يبدو، منذ مقدمة إمانويل كانط في الميتافيزيقا وحتى يومنا.
  • معظم الطرح وسياقاته عند المحاضر تتناقض مع عنصر مهم في فلسفة الأخلاق، ألا وهو “كونية القيم” وإنسانيتها، وإن سلمنا تجوزا بوجود “فلسفة الدين” فإنها فلسفة تُستضاف ضمن دائرة أوسع -كما يزعم فتحي المسكيني – وهي “فلسفة الأخلاق”، وهذا لا يتناقض مع المنظور الإسلامي أو مذاهبه العقلية كمذهب المعتزلة بشتى أطيافهم، ولكنه يتناقض مع الأحادية والمركزية وعقائد الولاء والبراء، وهما منبع كلّ بلاء.
  • يزعم -مثل غيره- أن “العقل لا ينطلق من نفسه ولكن بعد الإيمان…” وهو طرح عجيب يؤدي إلى الدور، فهو يدّعي أن القرآن يؤسس المنهج التجريبي، وهو استقرائي يبنى براهينه اعتمادا على العقل، وهو أي العقل ينتظر “الإذن” من الشرع أو الإيمان حتى يعمل؛ فأيهما بحاجة إلى الآخر ليتأسس “العقل إلى الإيمان، أم هو إلى العقل؟”؛ فالكتاب العزيز دعا إلى الإيمان عبر العقل؛ والعقل هنا “استعداد لقبول الشرع” فإذا كان جامدا قبل وروده لا يشتغل؛ فإن “الشرع” سيتوقف عند أبوابه؛ وإن كان فاعلا قبل ورود الشرع سقط ما تدعيه؛ لذا فلا من التسليم بأولية العقل؛ ولذلك طُرح “اللاهوت الطبيعي” في إثبات العقائد، وكيف يُغفل المحاضر رأي المعتزلة في التحسين والتقبيح العقليين؟

“يتبع….”

________________________________

[i] عبدالرحيم بن عبدالرحمن العباسي، معاهد التنصيص شرح شواهد التلخيص، جـ1/ ص. 27

[ii] حول تحولات معنى “الثقافة” وعلاقتها بالحضارة، وتحديد المعنى العلمي لها؛ يمكن للقارئ أن يعود إلى الفصلين: الأول (الصيرورة الاجتماعية لكلمة “ثقافة” ولفكرتها)، والثاني (ابتداع المفهوم العلمي للثقافة) ضمن كتاب دنيس كوش، مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية، تر: منير السعيداني، بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2007، ص. 15- 52.

[iii] حول كتاب أبي علي أحمد بن محمد بن يعقوب المعروف بمسكويه (ت421هـ) وأهميته؛ يُنظر في الدراسة التي أعدها عماد الهلالي في صدر التحقيق للكتاب، ضمن منشورا الجمل، 2011، ص. 58- 69؛ كما يمكن الرجوع لمعرفة التيارات المختلفة حول فلسفة الأخلاق عند المسلمين إلى: كتاب المدارس الأخلاقية في الفكر الإسلامي: دراسة منهجية في المصادر والاتجاهات، لمجموعة من المؤلفين، تر: عبدالحسن بهبهاني بور، بيروت: مركز الحضارة لتنمية الإسلامي،  2012،

[iv] الغزالي، المقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى، تح. محمد عثمان الخشت، القاهرة: مكتبة القرآن، 1985، ص. 61

[v] ينظر مذهبه بالتفصيل في: الزواوي بغورة، مسألة الخير في فلسفة الأخلاق المعاصرة، الرباط: مؤمنون بلا حدود، مجلة ألباب، العدد (1) شتاء 2014، ص. 51- 71

[vi] أمانويل كانت، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، تر: عبدالغفار مكاوي، بغداد: منشورات الجمل، 2014، ص. 47

الثاني والثمانون ثقافة وفكر

عن الكاتب

سعود الزدجالي