الإشكال
النص يولد حياً، لأن الحياة قد دفعت به إلى الظهور، فما من نص يصدر إلا ويتغيى تحريك المجتمع نحو مقصد معيّن يريده صاحبه. بيد أن النص بعد تدوينه يصبح خاضعاً لتفاعل الاجتماع البشري، فبعض النصوص لا تعيش إلا برهة يسيرة، يكون تأثيرها محدوداً، بينما بعضها يكون تأثيره عميقاً، وممتداً عبر الزمان والمكان، فبعض أشعار المتنبي مثلاً كأنما تولد في كل زمن.
وقد حازت النصوص الدينية من ذلك شأواً واسعاً، فأصبحت خالدة لدى أصحابها، وإذا نظرنا إليها فسنجدها ذات طابعين:
– نصوص مطلقة؛ تحمل قيماً أخلاقية إنسانية، فهي تملك حياتها الذاتية من خلال الحاجة الأبدية لهذه القيم.
– نصوص اجتماعية؛ محدودة بزمانها ومكانها، تؤدي غرضها الآني، ثم تفسح الطريق لظهور نصوص أخرى.
تعاقب الأديان تقوم على آلية الطابع الثاني، ولكن تحصل معضلة لدى الأتباع عندما يعلن النص الديني بأنه آخر نص تنزيلي، وأن باب الوحي قد أغلق، ثم يظل هؤلاء الأتباع يفكرون في البعد الاجتماعي للنصوص ويحكمونها على النصوص المطلقة، هنا يحصل الإشكال، إذ يجد المؤمنون أنفسهم أمام أمرين؛ إما الإقرار بأن الدين قد انتهى دوره، أو فتح مجالات نصية أخرى تسند النص التنزيلي الأول.
هذا الأمر ليس حكراً على دين دون آخر، وإنما هو قانون سرى على جميع الأديان.
القرآن وبناء الحياة
نزل القرآن على النبي محمد، فأعاد بناء الحياة من جديد، وفق المنظومة الأخلاقية الإنسانية، ومبدأ توحيد الله، وأن الله وحده من له حق التشريع للإنسان باعتباره مخلوقاً له.
بيّن القرآن أن هناك آيات هن أم الكتاب ينبغي للمؤمنين أن يرجعوا إليها، وأخر متشابهات، وبغض النظر عن معنى التشابه لدى المفسرين، فقد استغلها البعض لنصرة أفكاره، وما هذا الاستغلال إلا لكونها تلامس الاجتماع البشري. هذا التشابه الذي ظهر منذ زمن النبي، بفعل حراك المجتمع وما يكتنفه من تغيّرات، كان يُعالَج بنزول آيات أخرى، فالنص حينها حي متدفق، يعضد بعضه بعضاً، وكان النبي قادراً على سد الفجوة التي يحدثها الزمن من جراء تطور الاجتماع البشري، ولذلك لم يحدث إشكال خطير يستدعي تغيّراً في منطق النص، فالقرآن طبيعته واحدة، ولم تكن هناك حاجة لتقسيمه حسب فترات نزوله، وهو ما حدث بعد ذلك عندما قُسّم إلى مكي ومدني، وأعطي لكل قسم سمات معينة، وذلك باستقراء الواقع الاجتماعي في مكة والمدينة، ولا إشكال في ذلك، بل هو إضافة لفهم القرآن، إلا أن الإشكال عندما هذا التقسيم دخل ضمن آليات الاجتهاد الفقهية المعهودة، لتقرر على إثرها أحكام أصبحت ملزمة بشكل مطلق.
انفجار المجتمع المسلم
تمكن النبي محمد من خلال القرآن أن يبني المجتمع وفق مفهوم الأمة بنجاح، وذلك لأن الآيات ذات الطابع الاجتماعي كان النبي يطبقها عبر قانون الحكمة تحت مظلة الآيات المحكمات، كان القرآن يتنزل، فهو يحافظ على حياة وديناميكية النص، فلم تظهر مشكلة ابتعاد الاجتماع عن النص.
توفي النبي بعدما أعلن القرآن ختم الوحي، وأن مرحلة النبوات قد انتهت، لكن طبيعة الاجتماع البشري تظل سائرة في طريقها نحو التغير، فهي محكومة بقانون إلهي عام، فأخذ المجتمع المسلم يتطور، لكنه شهد قفزتين واسعتين:
– الأولى: عدم انقياد جموع كثيرة للقيادة بعد النبي فأرادوا أن يشقوا طريقهم بأنفسهم، فرجعوا عن فلسفة الإسلام الكبرى وهي الوحدة تحت إطار الأمة، وقد عُرف ذلك بالردة.
– الثانية: الغزوات والمعارك الخارجية، التي شهدت اتساعاً زمن الخليفة عمر بن الخطاب، وقد عُرفت بالفتوحات الإسلامية.
أدى كل ذلك إلى تحول المجتمع من مفهوم الأمة إلى مفهوم الدولة، ولم يتمكن المسلمون من حل المشكلات التي خلَّفها هذا التحول بالطرق السلمية، فتحول الوضع بينهم إلى صراع مرير، عرف بالفتنة الكبرى.
الفراغ النصي
هذا التغيّر بنوعيه؛ الطبيعي من جراء الزمن، والقسري الضاغط بسبب الردة والفتوح، أوجد فراغاً كبيراً في المجتمع مبتعداً عن النص القرآني، وهو النص المؤسِّس للأمة، وقد بدأ بكونه فراغاً سياسياً، فمعظم التحولات التي حصلت تتعلق بسياسة المجتمع الآخذ في الاتساع، وقيادة الجيوش، وإدارة المناطق المسيطر عليها، والحصول على الغنائم والثروات، واقتطاع الأراضي، وما خلفه من جاه ومنصب مُغرٍ.
والدين بحكم أنه لازمني، يتضمن إمداد الاجتماع كل حين بما يعالج الفراغ الحاصل، إما بمزيد من النصوص، أو بالإحالة إلى قواعده العامة، والتي أسماها القرآن “الآيات المحكمات”، ولما أن الوحي قد ختم، ولا يجيز بأن توجد نصوص دينية أخرى من بعده، فإنه ضرورة ينبغي استعمال تقنية “الآيات المحكمات”، بالرجوع إلى القواعد الكلية والمبادئ العليا للدين، والتي يأتي في ذروتها الإيمان بالله والخُلُق الحسن والعمل الصالح. وهذا الذي كان يمكن أن يحصل، لو أن الأوضاع تحركت بصورة طبيعية، إلا أن التغيّر القسري والصراع السياسي أدى إلى تبني آلية أخرى، وذلك بسبب النزاع الذي حصل بين المسلمين في استحضار النص القرآني، فكل فريق يستدل من القرآن بما يؤيد موقفه ويضعف موقف خصمه. ولذلك وجد توجه في خضم هذا الصراع بألا يعتمد على القرآن وحده، فهو “حمّال أوجه”.
السنة النبوية
تحت حمأة الصراع بين الفِرَق لم يتجه المسلمون إلى مرجعية الآيات المحكمات والمبادئ العليا للدين وقيمه التوحيدية والأخلاقية لسد الفراغ الناشئ من حركة الزمن والتطورات الحادثة، وإنما لجأوا إلى توليد النص، والذي عرف قديماً بجمع الحديث أو السنة النبوية، وعرف حديثاً بالتنصيص السياسي، وذلك انطلاقاً من كون الدافع الأول للجمع هو الصراع السياسي، وهو ليس جمعاً بالمعنى الظاهر، وإنما هو غالباً صنع الروايات ونسبتها إلى النبي، ثم استحضارها للاستدلال بها في الانتصار للموقف ودحض موقف الخصم.
استمر الصراع بين المسلمين طويلاً، قرابة أربعة قرون، قامت فيه دول وانهارت أخرى، وظهرت مذاهب عقدية وفقهية، فتلاشى معظمها، وبقي بعضها، فأوجدت لها نصوصاً بجنب النص المؤسس وهو القرآن، وقد مارست كل الفرق هذا الجمع الروائي، ما بين مكثر ومقل. وقد نشأت علوم منبثقة عن ذلك، منها علم الحديث وعلم الجرح والتعديل وعلم الرجال، وعلم أصول الفقه.
لقد شكل الأمر حركة عقلية جبارة، دفعت بالمسلمين رغم الصراع إلى نشر ثقافتهم باسم الإسلام؛ ترغيباً وترهيباً، اقتناعاً ومصلحة، وأن يدين لهم العالم ردحاً من الزمن، وأن تستعصي الثقافة الإسلامية على الانصهار في الحضارة المعاصرة. كما عصم القرآن من التحريف والتبديل، فلولا توليد نص ديني جديد إلى جوار القرآن، فقد لا يؤمن لأجل الانتصار وتحقيق المكاسب أن يلجأ إلى إيجاد نصوص تنسب للقرآن، وهي فكرة لم تكن بعيدة، فقد حفظت الروايات نماذج من هذه المحاولات، كلها لم تنجح، حيث أثبتت كل التنقيبات وجمع مخطوطات القرآن حتى الآن، أنه لم يطاله التحريف، مما جعل المؤمنين يستحضرون قول الله: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ).
التأويل
أدرك المسلمون أن أمر الرواية أصبح تنصيصاً سياسياً، الجميع يستعمله، وأنه كما يواجهون به تغيرات الحياة وصروفها؛ فهو أيضاً وسيلة من وسائل الاحتراب بينهم، وقد احتاجوا بسبب امتداد الصراع الشرس وملاحقة المتغيرات الاجتماعية والسياسية إلى حوالي أربعة قرون لكي تختم الرواية، وخلال هذه الفترة تطورت وسائل أخرى؛ منها التأويل، لسد الحاجة من النص، ولتوجيه النص القرآني ذاته بما يخدم التطورات المذهبية والاجتماعية والسياسية.
“التأويل” بمعنى تحميل النص دلالات جديدة؛ ظاهرة لغوية راسخة في العمل المعرفي، وهي ما تبقي النص حياً، ولولا التأويل لقتل الزمنُ النصَ، ولمّا أن النص الديني يعد خالداً لدى المؤمنين؛ فكان أكثر النصوص عرضة إلى التأويل من غيره، لأجل أن يتواكب مع متغيرات الحياة.
التأويل أمد المسلمين بأمور؛ منها:
– برر جميع الأفراق أعمالهم وتصرفاتهم وآراءهم بالاستدلال من القرآن.
– جعل جميع المؤمنين بالقرآن يعتبرونه مرجعهم الأعلى الذي لا يجوز تجاوزه.
– ساند الرواية في عملها بإبعاد الناس عن تحريف القرآن.
وهناك قضيتان مهمتان قام بهما العقل التأويلي؛ هما:
– تمكنه من حل مشكلة التناقض بين النصوص، وكذلك بين الأعمال الفكرية المتراكمة عبر الزمان، فالزمان ثم المكان أعظم مصدرين للتناقض الفكري والنصي، بيد أن الأعمال التأويلية التي قام بها العقل المسلم مذهلة، حتى بات كثير منها يحتاج إلى آلة عقلية واعية ونافذة لتكتشف التناقض الداخلي لتلك النصوص والآراء. وهذا منح الفِرَق قوة التماسك الذاتي، ومنحها أيضاً الحفاظ على هُويتها التأريخية، لكن في المقام نفسه أخّر تطور المنظومات البشرية الواقعة تحت مظلة هذه الفرق عن مواكبة التقدم البشري المتجدد، مما جعل المسلمين عموماً في أدنى السلم من الهيكل الحضاري الراهن.
– أدخل الأمة الإسلامية في صراع مرير، حيث بامتلاك كل فرقة ناصية التأويل عملت على احتكار الحقيقة الدينية لصالحها، وعملت جهدها على إظهار تهافت أدلة الفِرَق الأخرى، في دوران لا ينتهي من الأخذ والرد، مما أدى إلى استغلال السياسي لهذه الحالة المزمنة في الأمة، ليدخل بها في صراعاته المحلية والدولية، وليصبح المسلمون مادة جاهزة لِسَوْقِهم إلى محارق السياسة، وليكونوا مستلبي القدرة ومصادري الحرية تحت مطارق الاستبداد السياسي والاجتماعي.
النسخ
النسخ ضرب من ضروب التأويل وأداة من أدواته، فالتأويل أوسع بأدواته العديدة، وما يميّز بينهما هو أن التأويل يعالج في المقام الأول تناقض النصوص مع بعضها البعض، وبالأحرى.. يعالج التناقض العقلي ذاته. بينما النسخ يعالج غالباً تناقض النص مع حركة الاجتماع البشري، فمثلاً التطورات السياسية والعسكرية المتسارعة التي حصلت بين المسلمين عقب وفاة النبي؛ جعلتهم يبتعدون مسافة عن النص القرآني، مما اضطرهم إلى استعمال أداة النسخ، لتعطيل حكم في القرآن كان ماضياً زمن النبي، وإقرار حكم آخر بدليل مجتزأ من القرآن ذاته.
وقد استطال الأمر في الأخذ بالنسخ، لسريان قانون التغير الاجتماعي وحتميته، فتعدى عمل النسخ مجال القرآن، ليأتي النسخ بالسنة؛ حيث نسخت بعضها البعض، كما نسخت أحكام القرآن. ثم النسخ بالعقل؛ فعندما يتعذر وجود النص الذي يحل الإشكال الذي يحدثه التبدل في الحياة فإن العقل لا يكف عن إيجاد المخارج، وهنا يظهر بوضوح كيف أن التأويل العقلي لا يكتفي بتأويل النص، وإنما قد ينشئ أحكاماً جديدة تعطل أحكام النص ذاته. ثم النسخ بالواقع، وهو بيت القصيد التي تدور على محوره قضية النص الديني، وهنا يصبح الواقع الذي هو سبب للمشكلة حلاً لها.
حلت نظرية النسخ مشكلات عديدة واجهها العقل المسلم في اصطدامه بالواقع، من ذلك التصالح النفسي مع الدين، ونفي التناقض عن نصوصه، بأنها وإن بدت متناقضة فهي ليست كذلك، وإنما بعضها يعمل في زمان ومكان مختلفين عن الزمان والمكان اللذين تعمل فيهما النصوص الأخرى.
من أهم ما قدمه النسخ هو الانتقال بالنص القرآني من كونه كتاب هداية للعقل الإنساني في التوحيد والأخلاق والعمل الصالح، إلى “كتاب قانون” تفصيلي في كل قضايا الحياة، فهو أعطى مبرراً لاعتماد الرواية ضمن مستوى النص القرآني، فالحديث كما أنه يمكن أن ينسخ حكم القرآن فهو أيضاً يخصص عام القرآن، ويقيد مطلقه، وهكذا بآلية النسخ تم بناء هيكل قانوني متكامل. ولكن ما إن انتهى مشروع جمع السنة النبوية حتى ظهرت المشكلة من جديد، فالعقل يعمل مع الزمن في الحراك الاجتماعي، فهو مجبر إما أن ينتج نصاً جديداً يواكب التغير، أو يتجاوزه، أو يجمّد الواقع بما يستطيع إليه سبيلاً، وهذا الأخير هو ما آل إليه حال المسلمين، فمنذ القرن الخامس الهجري تقريباً توقف جمع السنة النبوية التي واكبت التغيّر، كما أن المسلمين لم يرضوا أن يتجاوزوا دينهم، فكان الخيار الأخير هو المتاح لهم اضطراراً، لكنه خيار صعب، لأن حركة التطور البشري لن تقف عند حدود اختيار المسلمين، بل ستواصل مسيرها، ليجد المسلمون أنفسهم مع تحديات اجتماعية جديدة باستمرار.
الجمود
كما رأينا؛ لقد شهد العقل المسلم أربع محطات توهج فيها وانتعش، ثم خبى وكبى، إلا فيما ندر من ومضات مضيئة بقيت معزولة عن استئناف التأسيس لتوهج حضاري جديد، وهذه المحطات هي:
– نزول الوحي القرآني.
– وضع الروايات وجمعها.
– التأويل في الجدل الكلامي.
– النسخ في استنباط الأحكام.
لقد استمر سبات العقل المسلم دهراً طويلاً، لم يكن له من دور إلا ممارسة الحياة وفق ما خلفته تلك المحطات، وكأن الزمن توقف، حتى حل نهاية القرن التاسع عشر الميلادي، فظهر محمد عبده بمحاولته الإصلاحية التي لم تدم أكثر من حياته، فتحول الإصلاح إلى استرجاع أعمال تلك المحطات بلغة حديثة، تحاول رجع الزمن الراهن إلى قرون المسلمين الأولى قسراً، وهو ما أدخل المنطقة في فوضى ليست بخلاقة.
ويبقى الأمل في الأجيال القادمة للخروج من المأزق الحضاري، وذلك بإيجاد آليات جديدة لم يتجاوزها الزمن، قادرة على تفعيل الحياة نحو غدٍ أفضل.