مستقبل الاشتراكية أو اليُوتوُبيَا والتنوير

 

مقدمة:

تواجه الاشتراكية منذ فترة طويلة ومنذ تكوّن أدبياتها المختلفة، ومع بروز مؤسسيها وأفكارهم المتنوعة، وتحديدا ً بعد الثورة الفرنسية ومبادئها الثلاثة التي نادت بها: الحرية، المساواة والأخوة، منافسة شرسة، وحادة من الرأسمالية التي تختلف جذريا ً عن الاشتراكية، حيث لم تقتصر هذه المنافسة على المجال الاقتصادي البحت، القائم على العلاقات العمودية بين العامل وأصحاب العمل، بل تعدت ذلك لتصل إلى الجانب السياسي المتعلق بإدارة الشأن العام في الكثير من الدول.

تسعى هذه الورقة للبحث والتساؤل حول مستقبل الاشتراكية في ظل هذا التوسع الكبير للرأسمالية، وفي ظل التأرجح الحاد للكثير من المشاريع والسياسات العامة لبعض الدول، وازدياد التفاوت المالي والاقتصادي بين الأفراد في الدولة الواحدة من جهة، وبين الدول في المعمورة من الجهة الأخرى.غير أن هذا التساؤل قد يبدو مهجورا ً، ولم يعد يحظى بالاهتمام والجاذبية وتحديدا ً بعد سقوط جدار برلين، لاسيما بعد الانتصار الظافر والشرس والمستمر بالطرق السلمية وغير السلمية للأنانية في جميع جوانب الحياة وتفاصيلها، وخفوت الاهتمام بالخير العام، والتضامن مع البسطاء والفقراء والغرباء، حتى نجد أن المبادرات الخيّرة بالرغم من قلتها تُحدث زخَما ً إعلاميا ً غير مسبوق في كل أنحاء المعمورة، ويتم تناقل أحداثها في كل وسائل التواصل الاجتماعي. في المقابل، وبالرغم من ذلك وربما بسببه أيضا ً، نجد أن الاشتراكية تعاود الظهور بشكل ٍ مستمر في قائمة الأعمال الفلسفية والسوسيولوجية والتوجهات الشعبية على حد ٍ سواء، مع تغيُّر طرق الإنتاج وتجددها، والتصاق الحياة اليومية البشرية بالتقنية بشكل ٍ متزايد، والتوصل للكثير من الصناعات المختلفة، وان كان هذا الظهور محاطا ً بالعوائق والتحديات، حيث يعتبرها الكثير من المحللين بأنها دعوات طوباوية لا يمكن تحقيقها، أو لا يمكنها الاستمرار، إلا أن هذه العودة تصبح محل تساؤل ومدار نقاش موضوعي، حول إمكانية تجديدها ليس على المستوى الاقتصادي الصرف فقط، بل لتشمل أيضا ً الحُرية الفردية، والجوانب السياسية المختلفة بشكل ٍ عام كالديمقراطية وغيرها.

الاشتراكية وإمكانية التجديد:

في الكثير من الأدبيات الماركسية والاشتراكية بالرغم من اختلافهما النظري، يتم الربط بشكل ٍ مستمر بين صعود الاشتراكية وفشل الرأسمالية، أو بمعنى أصح بمرحلة من مراحل التطور الرأسمالي، حيث ان هذا الربط ليس جديدا ً، فهو يعود لبدايات الأدبيات الاشتراكية، ذلك أن الاشتراكية بالمعنى المتداول حاليا ً تعتبر “مُنتجا ً فكريا ً للتصنيع الرأسمالي”([1])، بالرغم من ورود الفكرة بصيغ ٍ أخرى في سياقات ثقافية واجتماعية مختلفة، إلا أن المطالبات بالأفكار التي تنادي بها لم تظهر قبل ذلك بشكل منهجي، مُنظّم، كما لم تظهر تيارات وشخصيات تؤسس لهذه المبادئ إلا أثناء – قبل وبعد – الثورة الفرنسية، فالتصنيع وما رافقه من آثار على العامل كالاستغلال الكبير من قِبل صاحب العمل، وبروز الطبقية وتزايدها بشكل ٍ حاد، بالإضافة لعوامل كثيرة مختلفة، جعلت هذه الأفكار تحظى بشعبية كبيرة، وتدخل في منافسة واقعية، وعملية مع الفكرة المغُايرة لها، وليست نظرية فقط، الأمر الذي أدى لصعود أسماء مختلفة في تلك الفترة، كما هو الحال مع روربرت أوين في إنجلترا(1717م- 1858م) وفي فرنسا سان سيمون(1760م-1825م) وفورييه(1772م-1837م)، التي تذهب، بالإضافة للعديد من المفكرين والناشطين، إلى رغبة تغيير النظام الاجتماعي القائم آنذاك إلى الاشتراك في الأهداف المجتمعية، وهذه الأهداف لا تتحقق في “ظِل توسع الأسواق الرأسمالية التي تحرم نسبة كبيرة من الشعب من تقاسم منافع المبادئ التي نادت بها الثورة الفرنسية”([2])، وهو ما يعني بأن عوائد العمل لا يتم تقاسمها بشكل ٍ عادل بين العامل وصاحب العمل، ذلك أن الأول يبيع قوة عمله، وجهده، ووقته، في حين أن المردود غير كاف ٍ لحياة جيدة، بل يعتبر في الكثير من الأحيان بأنه طريق وردي للعبودية، يساعد في ترسيخ الطبقية وانتشارها، كما انه يعني بأن هذا النظام الاجتماعي يفتقد للعدالة التي قامت لأجلها الثورة الفرنسية، الأمر الذي يستوجب تعديل هذه الأنظمة وجعلها قائمة على توزيع الموارد وعدم احتكارها لفئة قليلة من البشر على حساب الفئات الأخرى التي تقبع في الطبقات الاجتماعية الدُنيا، ذلك أن هذا الاحتكار يؤثر بشكل ٍ مباشر على تركيبة المجتمع، ومستوى معيشة الأفراد، ومدى مشاركتهم في تحديد مصيرهم، بل – وهذا هو الأهم – في تحديد مصير الأغنياء أيضا ً بطريقة ٍ غير مباشرة، فالغضب والحنق والسخط الذي قامت بسببه الثورة الفرنسية مثل الكثير من الثورات اللاحقة والسابقة لها، لم يقتصر على طبقة الفقراء والبسطاء، بل تعدى ذلك إلى الانتقام من الطبقة الغنية آنذاك، وهو ما يقودنا لضرورة الحديث عن التضامن بين الأفراد في المجتمعات المختلفة، بعيدا ً عن الاختلافات المجتمعية المختلفة.

بالإضافة لذلك نجد أن للاشتراكية جانبها الآخر، فهي “ترمي إلى أهداف أعلى من ملء البطون”([3])، ذلك ان لها جانبها السياسي والثقافي المختلف، وتحديدا ً فيما يتعلق بالحرية الاجتماعية، حيث نجد أن أصول هذه الفكرة كانت لدى ماركس الشاب وهي جاءت “بهدف القضاء على التناقض الراسخ في الليبرالية الرأسمالية الجديدة”([4])، فالحرية هنا ليست الجانب الفردي والمتركز على المصلحة الخاصة أو المتعة الشخصية، بل تتداخل وتتشابك مع حرية بقية أفراد المجتمع، الأمر الذي يؤدي لإعادة التفكير في الحُرية والأخوة بناءً على المساواة بين الأفراد من جهة، كما أنها تؤدي إلى القضاء على الفجوة بين الأغنياء والفقراء، مما يجعل الأفراد ينظرون إلى بعضهم بوصفهم شركاء يتفاعلون فيما بينهم لتحقيق الحرية الاجتماعية المتُبادلة من الجهة الأخرى.لذلك نجد الحركات الاجتماعية Social Movement بأنها قد اتخذت هذا المسار بهدف توسيع الحُرية الاجتماعية بما تشمله من حقوق ٍ مختلفة لأفراد المجتمع، كما هو الحال في أنصار حماية البيئة، وضد العولمة، ومع حقوق المثليين، ومنع الحرب.

لم يكن لهذه الأفكار أن تتبلور، وتتشكل ضمن تيارات مختلفة في ظل انعدام الخيال والمعرفة في نفس الوقت، ذلك أن الوعي بالطبقية وبالاستغلال وضرورة الصراع الدائم لخلق واقع ٍ جديد يستوجب المعرفة التي تضع العقل والمخيلة بوصفهما موجهين رئيسيين لها، ومرتكزا أساسيا للمستقبل مهما كانت الشكوك المحيطة بتحقيقه، فعدم الاقتناع بالأيديولوجيا الراهنة، أو بالواقع المفروض من قبِل مختلف السلطات هو الذي يؤدي للحُلم بواقع جديد، مغاير للمعُاش، الأمر الذي يجعل اليوتوبيا حاضرة في تكوين الاشتراكية، بل ومكونة رئيسية لها.

اليُوتوُبيَا والتنوير:

بالرغم من أن اليوتوبيا بما هي “المثال الدائم، ذلك الذي نجد أنفسنا متجهين صوبه لكننا لا ندركه أبدا ً إدراكا ً تاماً”([5])، سابقة على التنوير كمفهوم فلسفي، وكحقبة تاريخية، ذلك اننا نجدها في الكثير من الأعمال الفلسفية والشعرية والروائية وغيرها، كما هو الحال في “الجمهورية” لأفلاطون، حيث إنها تُعبّر عن رغبة عارمة في تغيير الواقع، والتشبث بحُلم جديد لم يخُلق بعد، وهو ما نجده لدى المؤسسين الأوائل للاشتراكية، وهي تختلف كُليا ً عن الأيديولوجيا من حيث إن الأخيرة – بالرغم من تعدد تعريفاتها –  تسعى للحفاظ على واقع ٍ معُيّن عن طريق الكثير من الأدوات الرمزية والمادية على حد ٍ سواء.

إلا أنها تلتقي مع التنوير من حيث عدم الرضا عن الواقع المعُاصر، ففي حالة التنوير نجد أن الموقف البشري يعتمد على العقل في قيادة التغيير، بما يشمله من علم، وتخطيط، وحسابات، وقوانين وغيرها، وهو الجانب الذي تبناه سان سيمون في عمله “رسائل مقيم في جنيف إلى معُاصريه المكتوب عام 1803م”([6])، حيث نجد فيه بأن السلطة ينبغي أن تكون لدى العلماء والمفكرين، كما أنها من الضروري أن ترتكز على المعرفة بشكل ٍ كبير، وتحديدا ً المعرفة المُستمدة من قوانين نيوتن، فهو ينطلق من ضرورة الاتحاد بين الإنسان العاقل والإنسان الصانع الذي يؤكد جدوى عقله، عن طريق العمل والتصنيع وتغيير الطبيعية المحيطة به، وهو ما تجسد بشكل ٍ واضح آنذاك في المشاريع الصناعية الناشئة كالسكك الحديدية ووسائل النقل والاتصالات وغيرها. يكمن الهدف لكل تلك الصناعات في “خير الناس”([7])، وهي لا تهدف لطلب القوة بحد ذاتها، بل لتقديم المنافع والخيرات للبسطاء والفقراء، بحيث إن المجتمع يتبادل الخيرات فيما بينهم، وهذا يؤدي لعدم حدوث الثورات وما يصاحبها من عُنف ودمار ودماء، ذلك أنه يرى بأن “الثورة تحدث بسبب سوء الحُكم”([8])، غير أن هذه اليوتوبيا لا تتحقق – بحسب سان سيمون – بالأفكار والصناعة والمال فقط، بل تستوجب قبل ذلك، أصحاب المخُيلة، الذين يبنون النظام الاجتماعي بإمكانياتهم التخيلية، والإبداعية المستمرة، بالإضافة طبعا ً لجهد الصناعيين والمصرفيين وغيرهم، فلكي يستجيب المجتمع لهذه المحفزات المختلفة على التغيير من الضروري مخاطبة المخيلة الاجتماعية عن طريق الفنانين والشعراء و غيرهم من المبدعين.

لم يكتف فورييه، الذي يُعتبر من المؤسسين الأوائل للاشتراكية، بما ذهب إليه معُاصره سان سيمون من رغبة في التغيير وتأسيس مجتمع مغاير للواقع، يقوم على تصورات تتأرجح في الهامش بين المستحيل والممكن، لم يكتف بأن يقدم الخطوط العريضة، والعناوين الفضفاضة، بل عَمَد إلى وضع التفاصيل، أو تفاصيل التفاصيل لذلك، محُاطة بالعواطف أو التجاذبات البشرية المختلفة، فليست الصناعة والإنتاج والمسائل المالية هي القادرة على صنع مجتمع بشري خال ٍ من الفقر، والعنف، والكراهية، ذلك أن هذه العواطف ومع الصعود الحضاري قد تم كبتها، وازدراؤها، بل ووصمها بأنها السبب الرئيسي للدمار والانحطاط والنكوص، وهو ما يتنافى مع الخط التنويري ويشترك في نفس الوقت مع روسو الذي يذهب إلى “الاعتقاد بأن العواطف فضائل وأن الحضارة هي التي حولت العواطف إلى رذائل”([9])، لذلك كان لابد من إعادة الاعتبار لهذه العواطف ووضعها في مكانها الصحيح، فهي من الممكن أن تُسهم في تغيير العالم وتحقيق المدُن المثالية التي استعصت على التحقق.

خاتمة: هل انتهت اليوتوبيا ؟

في ختام هذه الورقة نتساءل حول مستقبل الأفكار الكونية التي سادت لفترات زمنية طويلة سابقة كالمساواة، الحرية، والإخاء، أم إننا أمام مستقبل خال ٍ من الأحلام والتطلعات، مُلتصقا ً لدرجة تبدو نهائية بالواقع الروتيني وبالمصالح الشخصية والخاصة؟

لاشك أن هذا السؤال يحيلنا إلى نضوب قدرة الإنسان على الحلم وتخيل غد ٍ أفضل من الواقع، والكفاح لأجل تحقيق هذه الأحلام على الأرض، أو كما يقول مانهايم “فإن التخلي عن اليوتوبيا يعني أن الإنسان سيفقد إرادته في تشكيل التاريخ، ومن ثم قدرته على فهمه…”([10])، مما يعني بأننا أمام تكرار للأحداث، واختفاء شبه تام للصراع الذي يقود للتغيير والحركة، واستكانة مطلقة للأيديولوجيات المختلفة التي تحكم العالم، والتي بطبيعتها لا ترغب في التغيير بل تسعى للحفاظ عليه، وترسيخ استمراريته، وهذا يقودنا إلى أن هذه القوى التي تتحكم بهذه الأيديولوجيا، مستخدمة لذلك كل الوسائل الممكنة: الرمزية والمادية، لن تسمح للتضامن البشري بأن يتسع ويستمر، بل ستصبح الاشتراكية بوصفها اليوتوبيا المُستضعفة في موقع الضعف، وأمام سلسلة لانهائية من التحديات والمصاعب المختلفة.

_______________

[1]) Axel Honneth , The Idea of Socialism , Translated by Joseph Ganahl , Polity press, 2017,page:6.

[2]) Ibid, P.9.

[3]) جوزيف شومبيتر، الرأسمالية والاشتراكية والديمقراطية، تر:حيدر حاج إسماعيل، المنظمة العربية للترجمة، ط1، 2011م، ص349.

[4])Ibid , P:77

[5]) بول ريكور: محُاضرات في الايدولوجيا واليوتوبيا، تر: فلاح رحيم، دار الكتاب الجديد المتحدة، ط1، 2002م، ص19.

[6]) بول ريكور ، مرجع سابق، ص382.

[7]) بول ريكور، مرجع سابق، ص387.

[8]) بول ريكور، مرجع سابق، ص388.

[9]) بول ريكور، مرجع سابق، ص404.

[10]) راسل جاكوبي، نهاية اليوتوبيا: السياسة والثقافة في زمن اللامبالاة، تر: فاروق عبد القادر ، عالم المعرفة العدد 269، ص148.

مقالات ملفات الفلق

عن الكاتب

علي بن سليمان الرواحي

كاتب وباحث عماني