عُمان: سؤال الحرية والمنفى والاغتراب

كتب بواسطة سعيد الهاشمي

  يبدو أن فكرة المنفى عادت إلى مركز اهتمام العمانيين من جديد. هذه الفكرة التي احتجبت قليلاً وراء أحلام التغيير وتطلعات المشاركة الجادة في تنمية بلادهم طوال العقود الأربعة الماضية.

عادت هذه المرة وبشكل كثيف؛ لا بسبب البحث عن طعام البطون، بل بحثاً عن قوت الوجدان؛ عن الحرية.

الحرية بمفهومها الواسع، المتطلب للكثير من الصبر. الصبر على القول، والصبر على الفعل. تحمّل عواقب ممارستها، وأثمان إعلان الانحياز لها، مهما كانت هذه التكاليف باهظة ومسببة للحيرة والقلق والاضطراب.

المنفيون في تزايد، المنافي تتنوع، في الإمارات وقطر والمغرب، وفي بريطانيا وايرلندا وألمانيا وإسبانيا وروسيا. الظاهرة تتسع، خاصة بين أوساط الشباب الطامحين إلى أفق أوسع لآمالهم. في مقابل كل هذا النزف، يقف المجتمع متفرجاً، مُزجياً الوقت في التندر وتناقل الأقوال والهمس، وفي أحيان ليست بالقليلة لائماً وشامتاً. أمّا السلطة، فكعادتها إمّا غير مكترثة؛ لأنها “أكبر” من كل ذلك! أو لأن نزيف كهذا لا يعنيها ولا يؤثر على مكانتها “المضمونة”. وإنْ عناها الأمر ووضعته في حيّز انتباهها “المؤقت”، تعاملتْ معه من ذات مناظيرها السابقة وبنفس وسائلها المكررة: شخصنة الحالات، إطلاق أعيرة التهديدات في الفضاء العام، مع شيطنة بعض الأمثلة، خاصة تلك التي ترفع صوتها في الخارج بما لم تأمن قوله في الداخل، وتصويرها على أنها عدوة لأمن الوطن وخطر على استقراره.

لم يكن المنفى يوماً ترفاً أو خياراً للإنسان الذي يسعه وطناً يفيض عليه حباً وتقديراً بلا حد أو منّة. لكنه يبقى حيلة الذي ضاقت عليه أفهام من يتحكمون بالأوطان ويحاكمون أفكار ونوايا من يسكن هذه الأوطان.

أما المنفي فهو إنسان لم يعد يُطق اغتيال أحلامه الشخصية أو العامة في الحيز الذي يعتقد أنه يعنيه، إنسان لم يقبل ممارسة دور المتفرج حتى تحين ساعة الانطفاء أو الانفجار. فكم من منفيين يسكنهم وطنهم أكثر من ساكني الأوطان. وكم من مغتربين في داخل أوطانهم أكثر من غرباء المنافي.

المنفيون ليسوا أولئك الذين قدّموا أوراقاً بوعد الحصول على لجوء سياسي في دول العالم المختلفة، أو حصلوا عليه بالفعل، وهم في تزايد، بل مُضافاً إليهم كل من غادر من بنات وأبناء البلاد للبحث عن اعتراف بذاته وقيمة لإمكاناته وقُدراته ومعارفه التي طوّرها بجهده ودعم أهله، وهم أكثر من الفئة الأولى، لكن صمتهم أكثر دوياً. مجموعٌ إلى هؤلاء وأولئك كُلّ من ينطفئ وينسحب كل لحظة من الاهتمام والانشغال بتطور وتقدم الدولة والمجتمع، خانقاً ذاته الحُرّة بذاته المخيبة الرجاء. هذه الفئة بالتحديد هي الأكبر، وهي الأعمق أثراً على بنية المجتمع ومساره نحو المستقبل.

أليس سؤال المنفى واقعٌ في صلب الحرية؟ أليس المنفى موقفٌ دالٌ على غياب الحرية واغترابها؟ أليس عماد الحرية هو الأمل والعمل بها؟

لذا، إلى أي مدى نحن منشغلين بانحسار الأمل في نفوس أجيالنا الصاعدة أكثر من انشغالنا بمسائل الأكل والشرب والسكن؟

مناهجنا التعليمية: هل معنيّة بثيمة الحرية؟ معنية بفهمها، وتحليلها، وتبسيطها، وبثّها في يومياتنا الصغيرة. أم أن هذا الميدان هو مذبح الحرية الأول، السجن الذي يتكفل بتكبيل العقول والقلوب الواعدة وإرهابها من خيار الحرية وتشويهها في الذاكرة؟

إعلامنا التقليدي والافتراضي؛ كم هما مهمومان بقضية الحرية ووسائل التعبير عنها والنضال من أجل الحفاظ عليها، والتضامن مع كل فرد ووسيلة انحازت للحرية كقيمة وكممارسة وكخيار؟ أم أن هذا الإعلام بقديمه وحديثه، الموجّه منه والمستقل، كان أول من خذل الحرية؟ ألم يكن هذا الإعلام شاهداً على عملية خنق الحريات الصحفية في المهد؟ ألم يتفرج على غلق صحف؟! ألم يصفق لسجن صحفيين؟!

مؤسسة التشريع في البلاد إلى أي مدى هي مؤمنة بمحورية الحرية، وساعية لتأصيلها في كل شبر من مساحات البناء التشريعي الناظم لحياة الناس والمؤطر لعلاقاتهم الراهنة والقادمة؟ أم أنها لا تعرف عن حقيقة هذه القيمة ولا عن عواقب غيابها أو تشويه حضورها؟ ثم أليست هي من تفاخر بدعم السلطة التنفيذية والتبرير لها لتخويف الناس من أفيون الحرية ومضاعفاته على الشعوب؟

الأمهات، الآباء، المعلمون، القضاة، الصحفيون، المثقفون، نشطاء المجتمع، الفنانون، الرياضيون، وغيرهم، هل تشغلهم مسألة الحرية؟ حريتهم وحريات الآخرين؟ هل تُشكّل عندهم ثابت أساسي يستوجب الانشغال والنضال من أجله حتى ترسخ كقيمة عليا للوطن وكسلوك للمواطن؟

إن الاهتمام بتساؤل كهذا هو أحد المؤشرات الكاشفة لحجم وقرار مسألة المنفى برمزيتها وحقيقتها. المنفى الذي يتوجب علينا التوقف عنده وعدم الاستهزاء بتوسعه فينا وبيننا. هذا المنفى الذي لا يتراجع إلاّ إذا تعزّزت الجبهة الداخلية بالمزيد من الحريات، ولا يعاود الظهور إلى الواجهة إلا إذا اُنتهكت هذه الحريات وحوصرت.

يأتي المنفى اليوم، بمفهومه الواسع، ليكشف لنا هشاشتنا الفردية والجمعية. كُلفة تضييع فرص ممارسة الحرية في أوقات الرخاء. رعبنا من الرأي المخالف، ذعرنا من تبيان ما يختلج في دواخلنا من عقد نفسية واجتماعية وسياسية ودينية وفكرية. حقيقتنا أمام المكبوت الطائفي والمذهبي والعرقي والمناطقي. خوفنا على امتيازاتنا الخاصة وسلامنا وترابط نسيجنا العام. فشلنا في استيعاب أسئلة مشروعة ومبدئية، كانت من الأولى أن تكون الخبز اليومي لحوار وطني داخلي متواصل، تشتد جذوته وتخفت وفق مد الوعي الجمعي وجزر الفهم الفردي، تساهم فيه الأجيال حسب طاقاتها وبالطرق التي تراها مناسبة لمتطلبات عصرها ووعيها. أسئلة من قبيل: من هو الوطني ومن هو غير ذلك؟ من هو نصير الإنسان ومن عدوه؟ ما الوحدة الوطنية؟ ما متطلباتها؟ كيف تمارس؟ ومتى لا يُخشى عليها؟ كيف نختلف دونما تخوين وتشنيع وخصومة؟ ومتى نتفق من غير نفاق ومديح وتضليل؟

وحينما نستوعب أن الأوطان لا تُهزم في الحروب ولا تكسرها الخطوب بقدر هزيمتها في اللحظة التي لا تكترث فيها لنزيف مواردها الإنسانية في المنافي، منافي الخارج ومنافي الداخل. حينما نستوعب ذلك، يمكننا التفكير والمشاركة سوياً في بناء وعمران أوطان عصية على دعوات التقسيم، وصامدة أمام أي نوع من أنواع الغزو والتشويه.

ليس كالمنفى باستطاعته أن يمتحن كل هذه التناقضات، تناقضات الفرد وصراع الجماعات. ليس كالمنفى قادر على اختبار قضية الوطن وتشابكها مع الإنسان كوجود وكقيمة بذاته. من نحن وما الأوطان؟ من نحن بلا أوطان لا تُثمّن إنسانيتنا ولا تقدر أحلامنا؟ وما الإنسان بلا وطن ولا حلم خاص به، يأمن التصريح به، يفاخر بعدم كبت آماله وتطلعاته، يشاركهُ آخرين، يختلف به عنهم، أو يتوافق به معهم، لينتج فهماً شاسعاً يستوعب ذاك الكُّل المتضاد والمتنافس، الذي يُطلق عليه وطن الجميع، والذي هو أيضاً متضامن ومشترك في قاعدة واحدة تصون الحريات الشخصية ولا تساوم عليها، في ذات الوقت الذي يُعظّم فيه من شأن الحريات العامة لتكون رأس مال مثمر تصل خيراته للأجيال القادمة.

المنفى الذي يتجاوز المسافات والأعمار والتجارب، تجارب النجاح وتجارب الفشل. المنفى الذي يعانيه من انتُزع انتزاعاً عن رحم الوطن، والذي يكابده ويصطلي به وهو في داخله. المنفى الذي سبّبه الخوف من كلمة أو رأي أو حلم أو مشروع، والمنفى الذي نتج عن التفريط بقيمة الحرية أو فهمها فهماً سلطوياً ضيقاً لم يخرجها عن الغرائز والأفهام التاريخانية الماضية. الكل في ميدان خسارة الحرية متساوون.

من العبث اليوم الاستمرار في ادعاء أننا كمجتمع وكدولة نعيش حياة وردية ممتلئة بـ “الإنجازات”. هذه النغمة لم تعُد صالحة ولا مُقنعة لأجيال تَشكّل وعيها بالقلق على صحة سلطان البلاد، أجيال اعتادت على غيابه وتواريه عن الأنظار، تعاملت مع شيخوخة الجهاز الإداري والمالي، انعجن إدراكها بالخوف من التعبير عن رأيها في شؤونها العامة، عاصرت حماية الفساد وتسمينه في كل مفصل من مفاصل المجتمع. شاهدت مصائر المميزين والمبدعين والمختلفين عن السائد الذي ترعاه السلطة بطبقاتها السياسية والاجتماعية والدينية، شاهدت فنون الإقصاء والحصار والتهميش والهدر في الطاقات، شهدت أشكال التمييز والمحاباة والاحتفاء بنماذج من الانتهازيين والوصوليين عرفوا مفاتيح أبواب أي سلطة؛ الولاء والطاعة والسكوت. أجيال أبصرت المآل الذي آلت إليه المطالب الشعبية بإحقاق عدالة الاجتماعية ناجزة، أجيال غدت شاهد عيان على واقع الإنصاف الإنساني الذي تعيشه كل لحظة؛ بدءً بفرص التعليم والعمل والطبابة ومروراً بالجبايات التي تدفعها على محروقات سياراتها وعلى الشوارع والطرق التي تمشي عليها وعلى تسعيرات اتصالاتها وطعامها وشرابها، وانتهاءً بتهميش مجالسها وجمعياتها ونقاباتها. عاينت تراجع قيمة النقد في السياسي والثقافي والاقتصادي وتضخم الشكلاني والاستهلاكي في هذه المجالات. عايشت كل ذلك، تغصّصت أكثر من ذلك. رأت كيف يتم توزيع ثرواتها الوطنية وبأي معيار. عاصرت كيف تقدمت عليها شعوب أقلّ منها عدداً وعُدّة في الموارد وفي البشر. رأت رأي العين كيف ضاعت بلدان واختفت من الخارطة، كأنها لم تكن، وفي زمن قياسي، رغم وفرة كل شيء لديها، إلا أن تلك البلدان كانت لها أنظمة تستعدي الحرية، تستهزئ بقيمتها، تلاحق من يذكرهم بأهميتها، وتستهدف من يؤمنون بها، فحولت البلاد إلى سجن كبير، منفىً داخلياً لا يرحم، يفترس الأجيال، ويقهر الأعمار، ويهدر الطاقات.

كان درس المنفى قد أدى مهمته منذ زمن دون أن يُصغي إليه أحد.

حتى عندما أتت اللحظة، لما يكلف الانهيار نفسه كثير جهد، فالبناء غدى مجوّف من الداخل، نخره الاستبداد، وهجره الناس، نزف خيار البشر وخيار الفرص.. فكيف التساؤل حينها: ما الخلل؟!

الثالث والثمانون سياسة

عن الكاتب

سعيد الهاشمي