الرؤية القرآنية للعقل المسلم

 

بداية

عليّ هنا أن أقرر بأن العقل المسلم –في عمومه– كان وفياً في التعلق بالقرآن، والرجوع إليه للاستمداد منه بأدلته في مجادلاته الكلامية، وبحججه في مناظراته العقائدية، وبقواعده في استنباطاته الفقهية، وبغض النظر عن رأينا اليوم في هذا العقل؛ من صواب قام به، أو خطأ وقع فيه، سواء من حيث المقدمات بتورطه في وضع الرواية المنسوبة إلى النبي عليه السلام، ومزاحمتها للقرآن والسنة النبوية، أو من حيث النتيجة التي وصل إليها من الاستبداد السياسي والصراع المدمر والتخلف الحضاري، إلا أنه كان عقلاً منتجاً في حينه، استطاع أن ينشر منتجاته الفكرية ومعطياته الثقافية في أنحاء العالم، وأن يؤسس دولاً، ويشيّد مجتمعات تدين للإسلام بالولاء، وأن يترك إرثاً عظيماً من المعرفة تجاوزت المعارف التي سبقتها؛ كماً ونوعاً.

 

ما بين رؤيتين

أقصد بالرؤيتين:

أ. الرؤية التي جاء القرآن؛ ليؤسس بها العقل المسلم ليكون عقلاً كونياً، قادراً على التفاعل مع معطيات الحياة عبر مسيرها المستقبلي، هذه الرؤية التي ترتكز على ثلاثة مبادئ كبرى ينبغي للعقل المسلم أن يلتزم بها ليصبح متمثلاً للإسلام في تفكيره وفي إمداده العملي للبشر؛ هذه المبادئ الكلية هي:

– التوحيد الخالص لله، بحيث يتحرر الإنسان من أي نوع من أنواع العبودية المادية أو الوهمية، سواءً في التوجه أو التفكير أو العبادة أو العمل.

– حُسن الخُلُق، فرسالة الإسلام بالمقام الأول هي إصلاح العلاقة بين الناس على أساس أخلاقي شامل، يرفع عنهم الظلم والمهانة والاستغلال، ويحل بينهم العدل والكرامة وتبادل المصالح بالتي هي أحسن.

– العمل الصالح، سواءً بفعل الخير أو ترك الشر، والدعوة إليه، فيما أسماه القرآن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

فكل الأحكام القرآنية، فضلاً عن سائر الأحكام والتصرفات، يجب أن تكون محكومة بالمبادئ الكلية الثلاثة للإسلام.

 

ب. الرؤية التي تبناها العقل المسلم؛ على طول مساره الفكري والتأريخي، والذي أودت به في مهالك العنف والتقسيم المذهبي والطائفي، وأوقعته في براثن الاستبداد السياسي والاجتماعي، والاستغفال العالمي، كما أدت به إلى التقهقر الحضاري، والتخلف عن اللحاق بالركب الإنساني في قيادة الحياة وريادتها، رغم أنه شهد توهجاً في مجالات حضارية أخرى، وشهوده غير منكور.

 

من ملامح الرؤية القرآنية

أضع هنا بعض ملامح الرؤية القرآنية، مقارناً بها رؤية العقل المسلم كما أنتجه الفعل التاريخي وتشابك الاجتماع البشري:

الرؤية الكلية: قدم القرآن رؤية كلية عن الكون والاجتماع البشري، دامجاً في رؤيته بين المواعظ والإرشادات والأوامر والنواهي والقصص والأحكام، هذه الرؤية لم يلتزم بها عموم العقل المسلم، وإنما عمد –تحت وطأة الصراع السياسي والمذهبي– إلى تجزئتها وتشظيتها، وذلك من خلال التعضية في الاستدلال بآيات القرآن، وتبنى في أصول الفقه وعلوم القرآن نظرية أن القرآن نزل منجماً بالآيات، وليس بالسور، أي أن كل مجموعة آيات، بل حتى آية أو آيتين، تنزل بنفسها، ثم تم تجميعها في سور بعد ذلك، هذه النظرية عملت على تجزئة وتشطير العقل المسلم.

– الوحدة الإنسانية: نظر القرآن إلى الإنسان بأنه نفس واحدة، وألغى كافة الفروق بين البشر، سواء من حيث أعراقهم وقبائلهم، أو من حيث جنسهم؛ ذكوراً وإناثاً، قال الله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً([النساء:1]، بل حتى من حيث أديانهم طالما أنهم لم يعتدوا ولم يظلموا، قال الله: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ، وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ)[المؤمنون:51-52] إلا أن العقل المسلم تبنى في كثير من مقولاته وممارساته التفرقة العنصرية والممايزة الجنسية والتعصب الديني والمذهبي.

– الرؤية الأخلاقية: بُني القرآن على هيكل أخلاقي محكم، لا يصبح الإنسان مسلماً به إلا إذا ولج هذا الهيكل، والقيم الأخلاقية هي الضمير الذي ينبغي للإنسان أن يتحرك به، فلم يوجه القرآن إلى استعمال الرقابة الخارجية؛ بما في ذلك القانونية؛ بالقدر الذي وجه إلى تربية الضمير، والرؤية الأخلاقية في القرآن لا تكتنف الإنسان وحده، وإنما تشمل كل الوجود، فالله يقول في الرحمة: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ)[الأعراف:156]، ويقول في الإحسان: (َأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ)[القصص:77]، ويقول في الأمر بالعدل والإحسان: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ)، ويقول في النهي عن الظلم: (وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ)[آل عمران:108]، وهكذا يقدم القرآن منظومة أخلاقية كونية، يوجب العمل بها في كل شئون الحياة كما يوجب التعامل بها مع الجميع، ولو كان خصماً في الدين، حيث يقول الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)[المائدة:8]، كثيرٌ من عناصر هذه الرؤية تم انتهاكها في تأريخ المسلمين حتى وقتهم الحاضر، سواءً كانت جوانب سياسية أو اجتماعية أو أخلاقية، وتأسست في العقل المسلم منظومة أخلاقية أخرى أسرها الجمود على ظواهر النصوص وأذكاها الصراع الملتهب الذي عصف بالأمة الإسلامية؛ داخلياً وخارجياً.

– الوحدة الإيمانية: القرآن هو الكتاب الديني الأشمل الذي اعتبر الدين واحداً، وأن الرسل على مختلف أزمنتهم بعثوا مذَكِرين بهذا الدين الواحد، وأن المطلوب من البشر تحقيق الإيمان بالله والتزام الخُلُق الحسن والعمل الصالح، بيد أن العقل المسلم وقع فيما وقعت فيه العقول المتدينة السابقة من تقسيم الناس إلى أحزاب، قال الله: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ، وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ، فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ)[المؤمنون:51-52].

– الرؤية المتماسكة: المقصود بها أن القرآن أتى برؤية قادرة على أن تمد جميع شرائح الاجتماع البشري التي تؤمن به، عبر تعاقب الأزمنة وتباين الأمكنة، دون أن يصيبها خلل، أو تنقضي صلاحيتها، فحتى الآن لم توجد دراسات استطاعت أن تقدم نقداً فلسفياً معتبراً بتنافر مفردات هذه الرؤية، وكل ما قدم من نقد كان منصباً على البنية اللغوية ومدى قدرتها على التعبير عن التصورات الكونية والمتغيرات الاجتماعية، وعلى البنية القانونية ومدى صلاحيتها في هذا الزمن، وهذا سجال يمكن تفهمه من المعترضين، لكن لا يمكن التسليم به.

الرؤية المتماسكة التي أسس لها القرآن؛ لم يتمكن العقل المسلم أن يتمثلها، وظل متشبثاً بطرح ظاهري للقرآن، غيّب هذه الرؤية، وأوقفه عن التقدم الفكري والمعرفي والحضاري والديمقراطي، وأدخله في صراعات دائمة؛ أشغلته بالتكفير والإقصاء، مما انعكس ذلك على الأمة المسلمة بتشرذمها وذهاب ريحها، وأصبح كذلك هذا الطرح مستنداً للمعترضين في الطعن على التماسك القرآني في بناء العقل الإنساني.

المقصدية: المقصدية هنا ليست علم المقاصد المطروح في دائرة الفقه الإسلامي، والذي لم يستطع أن ينعتق من إلزامات الفقه وأصوله وعلم الكلام وجداله والسياسة وصراعها، وإنما المقصود بها أن القرآن لا يحفل بالظاهر اللغوي والأشكال المصطلحية إلا بالمقدار الذي يخدم القيمة العليا للدين والحياة، فالدين ذاته في القرآن ليس الأسماء كاليهودية والنصرانية والصابئة والإسلام، ولا الأحكام المتغيرة بتغيّر الزمن، وإنما هو القيمة العليا التي تتمثل في الإيمان بالله وحُسن الخُلُق والعمل الصالح، بل يصبح الإسلام على طول التأريخ الرسالي هو التزام هذه القضايا الثلاث وتفعيلها على أرض الواقع، وأن تكون كل الاجتهادات الفقهية والاستنباطات القرآنية والأعمال القانونية والعلمية والاقتصادية ونحوها من قضايا الحياة منبثقة عنها ومحكومة بها. والقصد من الإيمان بالآخرة هو دفع الناس إلى عمل الخير وزجرهم عن فعل الشر. بينما العقل المسلم غابت عنه هذه المقصدية إلى حد كبير، فالمسلم السالم بنظره عند الله هو المتبع للفرقة الناجية، وتم تحديد هذه الفرقة وفق المواصفات المذهبية التي صنعتها حراب الصراع وسيوفه، وتحولت النار الأخروية إلى محرقة للمسلمين في الدنيا، والجنة سُدت أبوابها أمام الناس إلا عبر سفك الدماء والتقليد وركوب المشاق والخيالات والأوهام.

– البناء المستقبلي: جاء القرآن ثورة على المعتقدات القديمة التي كبلت الحياة عن جريانها بمجراها الطبيعي نحو مستقبل أفضل، وهذا تأسيس مهم وقوي يراد للعقل المسلم، ورغم التحديات التي وقع فيها هذا العقل منذ نزول الوحي حتى حوالي القرن الرابع الهجري، إلا أنه كان متجهاً نحو المستقبل بإرادة نافذة، ثم دخل في سباته، ولما جاء العصر الحضاري الحديث بكل تقنياته ومبتكراته ومناهجه ومعارفه، فبدلاً من أن يستفيد العقل المسلم من ذلك في رؤيته المستقبلية وفق هذا التأسيس القرآني، انعكس لديه الأمر، وأصيب بتحجر سلفي.

– الاتساع والاكتناز: يتصف القرآن بخاصيتين قلما يتمتع بهما نص ديني آخر، هما: الاكتناز والاتساع، أي أن النص القرآني يكتنز في ألفاظه معاني كثيرة ويتسع لتوجيه حركة الحياة وتقلباتها المستمرة، والتوجيه المقصود هنا طبعاً هو التوجيه بالهداية إلى الله والأخلاق والعمل الصالح، وهذا التأسيس أثر كثيراً على العقل المسلم، فمارسه في جداله واستنباطاته وتحريراته الفكرية والفقهية والمعرفية، فأنتج معرفة دينية قل نظيرها، بيد أنه نحى أثناء توهجه منحى الخصومة والصراع، ثم غفى غفوة طويلة، وعندما دخل هذا العصر وجد العالم قد بعد عنه مسافات لا تستقصى.

– الحرية: القرآن لم يضع سقفاً لحدود التعقل، طالما لم يخرم منظومة التوحيد الإلهي ولم يعتد على نظام الأخلاق الإنساني، وهذا تأسيس يتواءم مع طبيعة العقل عموماً التي تعتبر الحرية جبلته، فكان حرياً بالعقل المسلم أن ينشد الحرية إلى أبعد مداها، لكنه بدلاً عن ذلك سقط في حمأة الاستبداد، بل أصبح في كثير من مقولاته فيلسوف الاستبداد وسادن هياكله. إن المنطقة التي يرسمها القرآن للعقل بوازعه الإيماني والأخلاقي هي أن يتجه للحياة متخلصاً من الآصار والأغلال، (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ)[الأعراف:33].

– الإباحة: مما يتعلق بالحرية ومتفرع عنها؛ عدم إشغال الذمة بأي منع ما لم يقم عليه الدليل القطعي أو بمستوى القطعي، وقد تلخص ذلك بعبارة أصولية هي (أصل الأشياء الإباحة)، إلا أن المنظومات الفقهية والروائية صادرتها بإلزامات طوقتها، وقيدت حركتها الوجودية في التفكير والفعل، فالله يقول: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ)[الأعراف:32]، ونهى عن الأسئلة المؤدية إلى أحكام تلزم الإنسان بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ)[المائدة:101]. ودائرة الإباحة مصانة الحمى فلا يجوز التعدي عليها، إلا إن مسّت بالنقض أو النقص توحيد الله، أو انتهكت الأخلاق الإنسانية، وهذا أمر تنظمه القوانين، لا أذواق الناس.

هذا بعض من التأسيس القرآني للعقل، الذي أمكن في هذه العجالة أن أذكره، وإلا فهو تأسيس يمتد أبعد من ذلك كثيراً باتساع العطاء القرآني. والعقل بحسب تأسيس القرآن له خاضع لمنظومة واحدة مترابطة مكتملة متكاملة، لا يستقيم الأخذ ببعضها وهجران بعضها الآخر.

الثالث والثمانون ثقافة وفكر

عن الكاتب

خميس بن راشد العدوي

كاتب ومفكر اسلامي