تاج الخليج العربي وهوية عُمان
التاريخ هو الحضارة في أحد معانيها، أو هو اختصارٌ للحضارة في معانٍ أخرى، مع اعترافنا المسلّم به أن التاريخ قصة حياة الانسان على الأرض، والحضارة إنجاز هذا الانسان، لكن التاريخ لم يدوّن كل ما جرى على الأرض، بل دوّن تاريخ من صنع وعمّر وبنى، فكل “تطور كان يحدث في مسيرة الإنسان الحضارية يوازيه تطور في مجال المعرفة التاريخية”([1]).
بمعنى أن التطوير الحضاري يترك آثاره المادية وغير المادية، “بدءً من الجمع والالتقاط والحفر والترميز حتى بناء المدن والمجتمعات، ومن “البحث عن الغذاء إلى استئناس النبات والحيوان وتحقيق الفائض في الغذاء وظهور الحرف والصناعات، ومعرفة التخصص بين قطاعات الجماعة البشرية، وظهور العبادات، وتنظيم الحكومات ..” ([2]).
إن جانباً من تاريخ هذه المنطقة “المكتوب” تاريخٌ مبتور، كأغلب تاريخ الحضارات الانسانية الأخرى، وما وصلنا منه تعرّض للتشويه، تارةً من مؤرخي الحكام والممالك خلال ألف سنة مضت، وتارةً أخرى من قبل المستشرقين وتلامذتهم العرب الذين تطاولوا على تاريخ وحضارة هذه الأمة وسير ممالكها، وتعمّدوا المغالطات وتصحيف أوراق التاريخ، إما عن جهل أو افتئات أو طمسٍ للحقائق أو إغماطٍ لحق حضارة متمدّنة.
إن تاريخ بعض الدول اليوم لم يدوّن بعد، لأنه تاريخ سياسي على هامش فهرس تاريخ الأمم، أو مجرد ملحق في نهاية كتاب “قصة الحضارة”، فالولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل -مثلا لا حصراً- لم تدخلا بعد معجم تاريخ البلدان أو قصص الحضارة، وقامت كلتا الدولتين على أنقاض شعوب أصيلة صنعت حضارة إنسانية ضاربة بجذورها في عمق التاريخ الإنساني.
والتاريخ –بالنسبة للبعض- محاولة توسل ربما تكون يائسة لفهم مكانته التاريخية الغامضة والانسلاخ عن كينونته الحضارية الأم التي حددّت قيمته المعرفية ووظيفته الثقافية التاريخية في نسق الحضارة الواحدة الجامعة.
فعلى سبيل المثال هل سنعترف كعرب – بصرف النظر عن الانتماء الديني – بتاريخ كيان مصطنع قام على أرض فلسطين العربية وندوّن في تاريخ الأمة أن كل ما على الأرض المقدسة عبري يهودي؟ وهل نرتضي أن نشترك في جريمة “خطف” الحضارة أو “تزييف” التاريخ وقصة الإنسان العربي على أرض فلسطين بزعم “إسرائيل” لهيكل النبي سليمان؟.
فهل كنيسة المهد يهودية، ومسجد الأقصى والقدس إسرائيلية، وهل مئات الآثار في القدس وبيسان ويافا وحيفا والخليل وغيرها إسرائيلية، ففي فلسطين يُكتشف بين فترة وأخرى كنوزاً أثرية وتاريخية وموجودات غنية، فهي منذ قرن ونيف تجري فيها عمليات حفر وتنقيب سواء في الأراضي الفلسطينية أو في الأراضي المحتلة الإسرائيلية، وآخرها عام 2014م حين تم اكتشاف أقدم الآثار الكنعانية في فلسطين في أراضي الـ48 والتي تعود للألف الرابع قبل الميلاد، لكن إسرائيل – برغم ذلك – لم تخرج للعلن تدعّي أنها آثارٌ عبرية تدل على تجذر “الحضارة اليهودية” في فلسطين.
وبالقياس على ما سبق، فإن كل ما يكتشف على أرض شبه الجزيرة العربية وبحرها، يعود بالحق التاريخي للحضارات القديمة التي أورثت الأحفاد تراث الأجداد وأمجادهم، فكل ما يُكتشف على امتداد جغرافية حضارة “مَجَان” أو “ماجان” Majan هو حقٌ لكل أهل الجزيرة العربية لأنه جزء من تاريخ وحضارة هذه الأمة، فهذا لا ينبغي أن يكون محل نقاش، لكن قبل أن يكون حقاً “للتفاخر” به أو “للاستعراض والتماهي”، يتعين الاعتراف – أولاً – بفضل هذا الحق؛ لأهله وبالشرعية والسيادة التاريخية العمانية على التراث العظيم لحضارة مجان، وهو ما أثبتته الأبحاث العلمية وعمليات المسح الأثري التي امتدت بجذور الحضارة العُمانية إلى أكثر من ثلاثة آلاف عام قبل الميلاد، وربما أكثر .
في هذا المقال الذي ندعي علميته، نحاول أن نضع بعض النقاط على الحروف بشكل منهجي، ونرسم الصورة الواضحة لحضارة مجان العظيمة والحق التاريخي لعُمان، وربما نبين بالأدلة العلمية والاكتشافات الأثرية محاولات إزاحة التراث والتاريخ العُماني لحسابات جانبية، وقد نطالع سوياً بعض المكتشفات الحديثة التي تقدم إجابات شافية على ما ورد في بعض المحاور الدعائية والاعلامية.
مجان مبتدأ التاريخ وخبر الحضارة
عُرفت حضارة “مجان” (عُمان) منذ أقدم العصور “بريادتها البحرية وصلاتها التاريخية الكبيرة مع الحضارات القديمة”، فقد كانت مسرحاً للتبادل الثقافي والنشاط الاقتصادي والتجاري، خاصة تفاعلها الجيوسياسي مع الحضارات السومرية والبابلية والفرعونية، وحضارات وأمم متنوعة في حقب وعصور متعددة خلال أكثر من ثلاثة آلاف عام قبل الميلاد .
وسجّل التاريخ كلمته في شهادات ووثائق الجغرافيا وفي مختبرات الرحّالات العرب والعجم على السواء، فقد كان العمانيون -في الطليعة دوماً- يرتادون البحر ويحترفون الملاحة، فسطّرت مغامراتهم وأسفارهم نموذجاً يحتذى به في الجرأة والإقدام، سبيلاً للتواصل مع الأمم والحضارات .
تتكون كلمة “مجان” من الكلمة السومرية Ma” ” بمعنى ميناء أو أرض السفن، وذلك بسبب شهرة أهلها في صناعة وركوب السفن، وهناك نصّ يرجع الى أحد ملوك أوروبا اسمه “دونجي “حوالي عام (2450 ق.م) يتحدث عن صناعة السفن في “مجان” باعتبارها حضارة ذات امتداد جغرافي كبير مما يؤكد حتمية السمة الساحلية في جانب من هذه الحضارة العريقة، كما وصفت النصوص المسمارية “مجان” بجبل “النحاس، والإشارة إلى مجان على أنها جبل النحاس تأسيساً على شهرة أهل مجان آنذاك (وعُمان اليوم) باستخراج وصناعة النحاس كواحدة ضمن الثروات القومية للبلاد([3]).
كانت مجان “عُمان” تمتلك، خلال القرن الثالث قبل الميلاد، “ثاني أكبر أسطول بحري بعد قرطبة وطيرة، وكان أسطولها العربي هو الوسيلة الوحيدة لنقل حضارة مينا وبابل وسوسة إلى الهند”، ولذلك شكلت البحرية العمانية منذ القدم العمود الفقري للحياة الاقتصادية في حضارة مجان التاريخية التي كانت متخصصة في صيد الأسماك والنقل والتجارة الداخلية والخارجية والصناعة([4]).
يشير الدكتور محمد سليمان أيوب –الباحث المتخصص في التاريخ القديم- أن الأكاديين والسومريين قد سلموا بسيادة العمانيين، وقنعوا باستقبال السفن العمانية القادمة بتجارة الهند وتوابل جنوب الجزيرة العربية، وأكدّ أن “عُمان القديمة” كانت حلقة الوصل بين حضارتي وادي النيل وبلاد ما بين النهرين من ناحية وحضارة وادي السند من ناحية أخرى([5]).
أما أصل تسمية عُمان بهذا الاسم فقد تباينت الآراء التاريخية حول ذلك ويمكن تلخيص تلك الآراء على النحو التالي([6]) :
1- نسبة الى قبيلة عُمان القحطانية.
2- نسبة الى الاستقرار والإقامة، يقول ابن الإعرابي: “العمن” أي المقيمون في مكان، يقال رجل عامن وعمون، أي مقيم، و”أعمن الرجل” أي دام على المقام، ومنه اشتقت كلمة عُمان.
3- نسبة الى عُمان بن إبراهيم الخليل عليه السلام، أو نسبة عُمان بن سبأ بن يغثان بن إبراهيم خليل الرحمن لأنه هو الذي بنى مدينة عُمان.
4- نسبة إلى عُمان بن لـوط النبي عليه السلام.
5- أطلقت قبيلة الأزد اسم عُمان (عُمانا) لأن منازلهم كانت على واد لهم بمأرب يقال له عُمان فشبهوها به، وتورد مصادر تاريخية أخرى أن بليني هو أول من ذكر عمانا بهذا الاسم، إذ يقول “اعتمادا على يوبا فإن الساحل بعد ذلك الجزء لم يستكشف بعد بسبب الصخور وقد غفل يوبا عن ذكر باتراسافافي وبلدة عمانا Omana التي قال عنها الكتاب السابقون أنها ميناء مهم لكرمانيا… وهي كما يقول تجارنا أنها أهم موانيء الخليج العربي”.
6- أطلق عليها السومريون ودول بلاد ما بين النهرين اسم (مجان)، نسبة إلى صناعة السفن التي تشتهر بها عُمان، حيث ورد في النقوش المسمارية بأن مجان تعني هيكل السفينة، كما سماها الفرس باسم (مزون) وورد اسم عُمان في المصادر العربية على أنها إقليم مستقل.
7- يقول ابن خلدون في تعريفه لعُمان، هي في جملة الأقاليم العربية التي ظهرت كدول مستقلة في جزيرة العرب وهي اليمن والحجاز وحضرموت والشحر وعُمان، ووصف نظام حكمها، فقال بأنها (إقليم سلطاني منفرد)، وهذا يؤكد أن عُمان حملت حضارة بعينها قبل الميلاد، وبقيت كذلك لقرون طويلة بعده .
يدّل تنوع تلك الأسماء الكثيرة التي أُطلقت على عُمان، ومنها مجان، أن هذا الاقليم لم يكن يوماً جزءً من حضارة إقليمية في شبه الجزيرة العربية أو بلاد السند والرافدين، بل كان يمثل على الدوام حضارة تاريخية منفصلة وذات سيادة واستقلال؛ يدور حولها أو يتبع فلكها مدنٌ وقرى كثيرة من شبه الجزيرة العربية وخارجها.
ونظرةٌ بسيطة على الخريطة الجغرافية القديمة لشبه الجزيرة العربية خلال مطلع العصور الحديثة، توضّح بجلاء حدود السلطنة العُمانية، كإمبراطورية “اليعاربة” العُمانية أو “عُمان الكبرى” التي استمرت لمدة قرن وربع (1624م-1741م) وكانت مساحتها تضم الدول الآتية اليوم (عُمان، الإمارات، حدود قطر، بعض دول شرق أفريقيا وأطراف مختلفة من اليمن وإيران وباكستان) ([7]).
موقع ساروق الحديد .. شاهد على التاريخ
كانت الجزيرة العربية مطلع الألفية الجديدة على موعد مع إعادة تدوين تاريخ حضارة “مجان” أو “ماجان” العُمانية، بعد اكتشاف موقع تراثي حضاري يحتوي على الكثير من القطع الذهبية والكثير من الأدوات الحديدية والخزف الحجري والأواني البرونزيّة، وحبات الخرز الثمينة، فضلاً عن مجوهرات ذهبية وغيرها من الآثار المتنوعة، في موقع صحراوي جنوب إمارة دبي بدولة الإمارات العربية المتحدة الشقيقة، على الطرف الشمالي لصحراء الربع الخالي الكبرى، وهو تسجيل تراثي مشرّف للخليج العربي عامةً، ولدولة الإمارات العربية المتحدة خاصة، لاكتشاف أهم مصنع للصناعات المعدنية في شبة الجزيرة العربية يعود تاريخه لما قبل ثلاثة آلاف سنة، وتحديداً لإمبراطورية مجان العُمانية .
وحسب التعريف الرسمي، فإن “ساروق الحديد” –وهي تسمية جغرافية حديثة- يسمى أيضاً “درب المعادن”، فالساروق أو “الصاروج” –رغم اختلاف المعنى اللغوي والعرفي- هو في لهجة أهل الجزيرة العربية يعني الأرض المنخفضة بين هضبتين كثيبين، فسميت “ساروق الحديد” نظراً لكثرة وجود خبث الحديد بين الرمل والهضبتين.
وخلال العديد من اللقاءات والمحاضرات التعريفية بالموقع التراثي “ساروق الحديد”، تصدّى العديد من هواة التاريخ والآثار للحديث عن عراقة وحضارة إمارة دبي، التي كانت تُعرف تاريخياً باسم الوصل، حيث أشار أحد الباحثين إلى أن آثار التنقيب في موقع ساروق الحديد تثبت وجود نشاط بشري يعود لأكثر من خمسة آلاف سنة خلال العصر الحديدي في شبه الجزيرة العربية، وهو من أهم وأكبر المواقع المكتشفة في شبه الجزيرة العمانية حتى الآن. كما يعد إضافة ذات قيمة علمية عالية للتراث الإنساني إلى جانب المكتشفات السابقة في العديد من المواقع العمانية والإماراتية.
يذكر الدكتور/ حمد بن صراي أستاذ التاريخ في جامعة الإمارات العربية المتحدة في كتابه “عُمان من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن السابع الميلادي” العديد من “الدلائل الآثارية الدالة على وجود تشابه حضاري بين وجهي الحضارة العمانية وبين المواقع الآثارية في عموم شبه جزيرة عمان”، وهو ما يترجم الامتداد الحضاري لمجان على بقعة جغرافية تتجاوز الحدود العمانية المعاصرة، كما تشير الموسوعة العمانية إلى ذات الامتداد الحضاري على جغرافية شبه الجزيرة العمانية وفقاً للاكتشافات الأثرية في العديد من المواقع في دولة الإمارات العربية المتحدة وسلطنة عمان، وأن هذه الحضارة هي حضارة واحدة ذات وجهين ” يقع الأول منهما إلى الغرب من سلسلة جبال الحجر في عُمان الحالية، ويمتد إلى المنطقة الساحلية على الخليج العربي، أما الثاني فيقع في المنطقة الداخلية من عُمان”([8]).
وإذ ننطلقُ من فكرة أن الحقائق مقدّسة والآراء مجانية للجميع، فإن حقائق التاريخ العُماني مقّدسة أيضاً، لأنها في ألواح محفوظة، ومخطوطات مكتوبة، ومدونةٌ في أمهات الكتب والتاريخ والأثر، فمنها مبتدأُ التاريخ والخبر ومنها أخذ العالم جُلّ العبر.
ولا يؤمن التاريخ بوجهات النظر والآراء المستطردة، فتاريخ هذه الأمة لم يُكتب بعد، لاختلافنا على تمييز الحقائق عن الآراء، والنمطية الانتقائية للأحداث التاريخية والقفز على مفاصل الحضارة الإنسانية. لقد حفرَ أجداد الأمس بأناملهم على صخور التاريخ رموزهم الحضارية حتى تُخلّد للأحفاد، واستودعوا بطون الأرض أسباب الحضارة المادية والبناء والعمران، والإنسانية اليوم أكثر أمناً واطمئناناً بسلامة التاريخ وسلامة أهله خاصة في ظل ثراء أدوات التوثيق المعرفي وتكنولوجيا الأرشفة التاريخية، والإبداع في دراسة “الأنثروبولوجيا” -علم الانسان-.
إن حضارة “مجان” هي أكبر وأوسع جغرافيا من المعالم والحدود محل الطرح الحالي بما في ذلك الساحل المتصالح، فالحضارة تبنى على مساحات شاسعة من البر والبحر أو أحدهما، وقد تكون على قارة أو شبه قارة، ولا سبيل للادعاء بأن اكتشاف منطقة لا تتجاوز حدودها بضع مئات من الأمتار هو بداية توثيق مكان حضارة عريقة كحضارة مجان، ويكأن “مجان” –الحضارة والامبراطورية- بلدة صغيرة على ساحل شبه الجزيرة العربية أو مدفناً للآثار أو منجماً للذهب.
لذلك فنحن نوافق على أن حقائق التاريخ اليوم، بعد الاكتشافات الجغرافية والتراثية المتوالية في منطقة الخليج العربي، خاصة في سلطنة عُمان والإمارات والبحرين، قامت بتعرية الدراسات المنحازة وغير العلمية التي نشرت قصصاً وهمية بتبعية حضارات عربية أصيلة، كحضارة ماجان وملوخا ودلمون- مثلا لا حصراً- لحضارة بلاد الفرس والرافدين والآشوريين والآكديين.
ربما، لم تتعرض منطقة في العالم لظلم وتحريف وعنصرية واختطاف متعمّد -كما أشار إلى ذلك أكثر من باحث- في زمن الثورة العلمية والاكتشافات الأثرية، منذ مطلع القرن التاسع عشر مثلما تعرضت له المنطقة العربية، لا سيما منطقة الخليج العربي، بفضل الاستعمار الغربي الذي نجح من خلال بحوث الاستشراق في مجال الجغرافيا والتاريخ من جهة، والغزو الجيوسياسي الفارسي للمنطقة من جهة أخرى، في إعادة ترتيب مواقع الحضارات القديمة و”فك وتركيب” خرائط جيوسياسية جديدة تخدم مصالح الأطراف المتصارعة على المنطقة، كإيران ووادي السند والهند حتى نال اليهود جانباً من صناعة تاريخ حضاري “مزيّف” في المنطقة، وشارك بعضٌ من العرب – عن جهل أو تجهيل- بهذا الظلم، حين تبنّوا دعاوي الحق التاريخي لغير العرب بالتراث العربي في شبه الجزيرة العربية، فتناقل بعضهم الأساطير الأوروبية كحقائق، ونشر آخرون الخرافات “الهندوفارسية” كأدلة دامغة على حتمية التاريخ المتواتر عبر قرون.
لقد انشغل الباحثون منذ القرن التاسع عشر، في تحديد مواقع الأقاليم الثلاثة (مجان وملوخا ودلمون) بعد تحليل وقراءة الألواح السومرية والأكادية المكتشفة، والمسلات الآشورية في بلاد الرافدين، باعتبار أن ما اكتشف آنذاك هو الحقيقة المطلقة، وأن هذه الأقاليم تتبع للعالم السومري الآكادي، كما أشارت الكثير من الدراسات الآثارية التي أُلحقت الأقاليم بأسماء ملوك بلاد الرافدين مثل (سرجون الآكادي حكم منذ عام 2334 – 2279 ق.م، والملك توكولتي نينورتا الأول، ملك آشور حكم بين عامي 1242 – 1206 ق.م ).
كما أرجعت كتابات تاريخية حديثة (ملوخا ومجان) كمكانين رئيسيين في أساطير سومر إلى جانب دلمون، ففيما أشار باحثون آخرين الى احتمالية أن يكون مكان “مجان” جنوبي الخليج العربي، فإن “ملوخا” تشير الى الساحل الشرقي للخليج من إيران([9]).
وقد أثارت إشكالية تحديد هوية موقع “مجان”، جدلاً طويلا بين الباحثين والعلماء خاصة العرب، الذين اعتمدوا على روايات المستشرقين وتجاهلوا محاولة الكشف عن الحقيقة من خلال الجهود العربية الذاتية، إلا بعد منتصف القرن الماضي.
فقد أشار “هوجو فنكلر” إلى أن مجان تقع في القسم الشرقي من شبه جزيرة العرب، وذكر “فليبي” أنها على مقربة من الساحل عند مصب وادي شهبة، وهي البقعة التي نشأت فيها مملكة مجان القديمة.
فيما ذهب غيره إلى أنها هي عينها “جرها” على ساحل الأحساء في المملكة العربية السعودية الشقيقة، فيما أشار فريق رابع إلى أنها تقع على مقربة من ساحل الخليج العربي في موضع “مجيمنة” جنوب “يبرين”، فيما ذهب الكثير إلى أنها منطقة “عمان”، أي الطرف الجنوبي الشرقي من شبه الجزيرة العربية.
أمام تلك المتضادات، جاءت الاكتشافات الأثرية الحديثة في القرن العشرين لتثبت أن مجان تمثل أرض عُمان بعد اكتشاف مناجم النحاس وورش التعدين في جبالها الصخرية الغنية بالنحاس، وكذلك بعض النوعيات المحددة من الأخشاب ومقالع الحجر الصابوني، كما أن “دلمون” هي جزيرة البحرين من خلال الأدلة المادية والنقش المسماري المكتشف في البحرين، ولم يعد هناك شك أن (مجان أو دلمون) يمكن أن تقعا خارج منطقة الخليج([10]).
وحاول بعض المؤرخين تحديد موقع مجان من خلال خط طول (55) شرقًا، وخط عرض (24) شمالا، وبحوالي (450) ميلاً إلى الشمال الغربي من مسقط، فتوصلوا الى ذات النتيجة التي أكدت عليها الحفريات والمكتشفات، وهي أن مجان تمثل إقليم عُمان اليوم وما جاوره.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) انظر، قاسم عبده قاسم، التاريخ … مفهوم الحضارة ، مركز عين للدراسات والبحوث الانسانية، 7/9/2015م :
http://www.dar-ein.com/articles/1192
([3]) محمد بيومى مهران ، دراسات في تاريخ العرب القديم، دار المعرفة الجامعية، ط2، 1980 .
([4]) راجع، عبدالله بن علي العليان، التاريخ البحري العماني، مجلة نزوى، العدد(29)، يناير 2003، مسقط، ص 12.
([6]) انظر، سالم بن حمود بن شامس السيابي، تاريخ عمان، الجزء الاول، وزارة التراث والثقافة، مسقط، 2001م، ص ص 37-40 .
([8]) لمزيد منا لتفاصيل: عبدالله محمد الطائي، تاريخ عُمان السياسي، مكتبة الربيعان للنشر والتوزيع، الكويت، 2008م
([9]) الموسوعة العمانية، ص2558
([10]) انظر: تيسير خلف، دلمون وملوخا ومجان في إيران ووادي السند بدلا من الخليج العربي، مجلة الجديد ، العدد (10126)، 13/12/2015، ص 14
-W.F. Leemans, Foreign Trade In The Old Babylonian Period, Leiden, 1960 P.12