حضارة مجان سيمفونية التاريخ (2-2)

تاج الخليج العربي وهوية عُمان

عمانية مجان([1])

أولاً: لا غَرْوَ أن منطقة الخليج العربي قد تعاقبت عليها الكثير من الحضارات والشعوب العربية وغير العربية، في عصور متعددة، وحضارة ماجان العُمانية العربية كانت أهم وأطول تلك الحضارات التاريخية التي استمرت إلى ألف وسبعمائة سنة، حسب الدراسات الأثرية والجيولوجية الحديثة، وتركت كل حضارة بعضاً من الآثار التي ساعدت الباحثين في كشف أسرار حياتهم القديمة، وموقع “ساروق الحديد” يعتبر واحداً من أهم الاكتشافات الأثرية في المنطقة والذي يعود تاريخه الى نفس الفترة التاريخية للإمبراطورية العمانية المجانية (نسبة الى مجان) قبل ثلاثة آلاف سنة خلال العصرين الحديدي والبرونزي .

ثانياً: تعدد المواقع الشهيرة التي سادت شبه جزيرة عُمان في بداية العصر البرونزي (3000 ق.م)، كجزيرة أم النار وجبل حفيت وواحة هيلي في أبوظبي، ووادي سوق بين مدينة صحار في عمان والعين في الإمارات، ووجود أكبر قبور العصر البرونزي وأغناها باللقيات والفخاريات يشير إلى أنه قبر نموذجي يعود لفترة أمّ النار المتأخرة، ولا يمكن أن يكون معزولاً عن سياق حضارة مجان الكبرى .

ثالثاً: الاكتشافات الجديدة في جبل بحيص جنوب مليحة، العائدة لثقافة أمّ النار ووادي سوق، عززت الانطباع بأن ثقافة أمّ النار مثّلت التجانس النسبي القائم بين أرجاء شبه جزيرة عمان.

إن اكتشاف أكبر ورش تعدين وصهر النحاس العائدة للعصر البرونزي في موقع وادي الحلو، بين مدينة كلبا ومليحة وشوكة، والعثور على عدد كبير من السبائك النحاسية والبرونزية، ومنها سبيكة تزن خمسة كيلوغرامات، هو أهم دليل مادي دامغ على ما جاء في الوثائق السومرية والآكادية، التي تحدثت عن نحاس ملوخا ومجان العُمانية .

رابعاً: أكد العلاّمة الجغرافي العربي الشهير “شمس الدين المقدسي البشاري” أن “مزون” هو اسم آخر لميناء صحار، مما ينفي الاعتقاد السائد بأن مزون كانت تعني عموم بلاد عمان وهو ما ألمحت له بعض البحوث العلمية كذلك. بمعنى أن (مزون ومجان) ربما كانتا تعنيان شيئاً واحداً، لأن بعض اللغات القديمة –كالفارسية- كانت تقلب الجيم زيناً وبالعكس، لاسيما إذا ما دققّنا في صيغة “مزون” التي جاءت من اللغة الفارسية أصلاً، وحوَّرت اسم مجان بما يتناسب مع قواعد اللفظ الفارسية.

خامساً: شكّل ظهور القرى الزراعية، خلال الألف الرابع قبل الميلاد، في كل من بلاد الرافدين وعيلام، حافزا هاماً لدى مجتمع مجان، حيث عرفت التجمعات السكانية في مجان تقنيات زراعية متطورة، أدت إلى قيام الواحات الزراعية في الداخل وعلى سفوح الجبال، كما عرف هذا المجتمع الفخار واستخدام المعادن.

سادساً: عرف مجتمع مجان إنتاج النحاس خلال النصف الثاني من الألف الرابع قبل الميلاد، وقد كان يبادله بسلع ضرورية أخرى مع إقليم دلمون المجاور (البحرين حاليا) والأخيرة بدورها نقلت المعدن إلى بلاد الرافدين وبلاد الشام، كما دلت على ذلك النصوص المكتشفة في بلاد الرافدين وبلاد الشام.

وقد دلّت الشواهد والأدلة الأثرية التي كشفت عنها مواقع التعدين، ضمن منطقة جيولوجية ذات تركيزات صخرية حاويه لفلزات النحاس، في وادي الجزي بعُمان أن عملية استخراج وتعدين النحاس ومن ثم تسويقه داخليا وخارجيا، كانت ذات تعقيدات ومخاطر جمة.

سابعاً: كشفت دراسة علمية تاريخية محكّمة تناولت هوية مجان “عُمان” التجارية وبدايات تشكل المجتمع العماني القديم، حقيقة وأبدية التكامل بين مجان المصدرة للنحاس في الشمال، ومجان المصدرة للبان في الجنوب، إذ بيّنت أن هناك تكاملاً بين الشطرين، مما دلل على وحدة المجتمع المجاني “نسبة الى مجان” الممتد من أبوظبي شمالاً وحتى المنطقة الوسطى في جنوب مجان، واستمرت تلك الحضارة لمدة ألف وسبعمائة سنة من (3000 – 1300) ق.م .

هذا ما توصلت إليه دراسة أكاديمية جاءت عنوان (تجارة مجان “عُمان” في العصور القديمة من 3000-1300 ق.م)([2]) حصل من خلالها الباحث العُماني “علي راشد المديلوي” على درجة الدكتوراه من جامعة الملك سعود في الرياض عام 2012م، كما حصل الباحث في عام 2014م على جائزة التفوق العلمي للشباب الآثاريين العرب، ونال عن رسالة الدكتوراه هذه جائزة الأمير سلمان بن عبد العزيز آل سعود للدراسات التاريخية في الجزيرة العربية وحضارتها في عام 2015م، وهي أرفع الجوائز للأبحاث العلمية المحكّمة في المملكة العربية السعودية، كما أن الباحث عضواً في جمعية التاريخ والآثار في مجلس التعاون الخليجي .

وخلصت الدراسة العملية الهامة الى أن التبادل التجاري لعب الدور المحوري في حياة المجتمع العُماني؛ حيث كانت التجارة في حضارة مجان عبارة عن تبادل متوازن بينها وبين مراكز الحضارة المجاورة بهدف إيجاد تنوّع للمصادر الغذائية والتجارية.

واستنتجت الدراسة دور الموقع الجغرافي لمجان بين مراكز الحضارة القديمة في منطقة الشرق الأدنى، والذي شكّل ميزة استراتيجية ساهمت في صبغ توجهات المجتمع التجارية، كمركز حضاري للعديد من المواد والسلع التجارية مثل (النحاس واللبان والحجارة والأخشاب والأسماك والتمور والأصداف والخرز والملح وأدوات الزينة ..الخ) والتي كانت تصدّرها مجان الى أقاليم الجوار .

مما سبق يعني أن باحث دكتوراه يدرس في جامعة سعودية عريقة ويقدّم بحثاً تاريخياً قيّم، يحصل من خلاله على أرفعِ جائزة علمية سعودية في البحث العلمي، هي بمثابة موقف علمي متحضر يحفظ للأمم حقوقها التاريخية.

وإذ نقدّرُ اجتهاد ” الهواة ” وغيرهم في هذا المضمار، لكن للتاريخ قدسية أيضا، والأجدر بأي باحث عن الحقيقة أن يطرق أبواب العلم من الأبحاث التاريخية المحكّمة وأن يأخذ بأسباب الموضوعية والحياد، بدلاً من الاعتماد على بعض قصص “السيّارة والرحالة” من غير علماء الجغرافيا والآثار، أو على مراجع المستشرقين – الغثُّ منها تحديداً – التي ما توانت عن طمس الحقيقة التاريخية والحضارية للأمتين العربية والإسلامية منذ فجر التاريخ.

ثامناً : كشفت أدلة التنقيب وفرق علماء الآثار في عُمان خلال القرن العشرين ، ما يلي([3]):

1- قدّر بعض المؤرخين أن حضارة بلاد ما بين الرافدين بدأت حوالى سنة (3500) ق.م ، وحضارة مصر القديمة حوالى سنة (3000) ق.م ، وحضارة آنداس فى الهند حوالى سنة (3500) ق.م ، واستنتجوا من ذلك أن عمان كانت محاطة بهذه الحضارات الثلاث قبل خمسة آلاف سنة تقريبا([4]).

2- نجحت بعثة هارفارد البريطانية الأثرية عام 1973م أن تحدد موقع سبع عشرة مستوطنة في عُمان يعود تاريخها إلى الألف الثالث قبل الميلاد، وذلك بناء على قطع الفخار المتصلة بها والمباني والبقايا الحجرية والنحاسية والأدلة التي أعطت فكرة عامة عن أحوال الحياة في العصر البرونزي في عُمان (مجان).

3- كشفت عمليات التنقيب عن مقابر قديمة عثر من خلالها على جرار من الفخار بجبل حفيت بالقرب من البريمي، وفى مقابر أخرى غرب عبرى، واتضح أن هذه الجرار تشبه فى شكلها وفى أسلوب صناعتها جرار حضارة “جمدت نصر” التى نمت على شواطئ الفرات ودجلة خلال الألف الثالثة قبل الميلاد.

4- انحصار تجمعات السكان في مجان ما بين الداخل الذي عرف بواحاته ومدنه التي تتمتع بفرص الحياة وفي مقدمتها وفرة المياه وما بين الساحل، حيث تركزت القرى والمدن على شريط ساحلي طويل امتد من ساحل أبوظبي في شمال مجان حتى ساحل المنطقة الوسطى في جنوب مجان.

5- عنصر التكامل بين تلك المجموعات التي سكنت في القرى والمدن والواحات في شمال وجنوب مجان، سار وفق منظومة اقتصادية تكاملية قامت على الوفاء بمتطلبات كل مجموعة من الحاجات الأساسية، حيث المقومات الأساسية التي اعتمدت لتوفير متطلبات اقتصاد القرى وواحات الماء والتربة الصالحة للزراعة، وبيئة طبوغرافية تسد حاجة المجتمع لصناعة الآلات والأدوات الحجرية والمعدنية التي تم استخدمها في الحياة اليومية، تماماً كالأدوات التي تم اكتشافها في موقع “ساروق الحديد”.

6- كان يتطلب التركز السكاني تنظيم سياسي دقيق وعلاقات اجتماعية متماسكة، وهو ما عرفت به هذه التجمعات في المدن والواحات الكبرى، كما هو حال المجتمعات في واحة هيلي وواحة بات والميسر وتل أبرق.  كما كانت قرى الساحل ذا تأثير كبير على نمط الحياة التي عرفها مجتمع مجان، كما بينت الآثار الحديثة ذلك  في قرى أم النار والبدية ورأس الحمراء ورأس الحد ورأس الجنيز.

7- سجلت بعض مواقع مجان الساحلية – خلال الألفين الخامس والرابع قبل الميلاد- تواصلا حضاريا وتجارياً مع مراكز بلاد الرافدين ووادي السند من خلال الكشف عن مواد ذات صبغة تجارية في شمال مجان في مواقع دلما والقاسمية والزهرة.

8- رغم سيادة عُمان في شؤون الملاحة والمواصلات البحرية منذ القِدم، فإن علاقـاتها بباقي أجزاء الجزيرة العربية تعززت خلال فترات مبكرة للتاريخ العُماني من خلال طرق بـرية أيضاً، وهذا ما كشفته المخلفات الأثرية، إذ تؤكد الرموز والنصوص المسمارية على أهمية مجان في تصدير النحاس إلى العراق، وهـو الأمر الذي توفـرت دراسات أثرية حقلية في عُمان لتأكيده خلال العقود الماضية.

9- أن الشهـرة التاريخية الواسعة التي حظيت بها البحرية العُمانية خلال القرون السابقة، لم تأتِ من فراغ، وإنما تستندُ إلى خبرة ملاحية طويلة تستمد مقوماتها من تاريخ عُمان الضارب بجذوره في عمق التاريخ، وهذا ما تؤكده النصوص السومرية والأكادية التي كشفت عنها فرق الآثار منتصف السبعينات من القرن الماضي.

10- تؤكد الإشارات المسمارية ونتائج أعمال التنقيب الأثرية في المراكز الحضرية القديمة التي كشفت عن تاريخ عُمان القديم خلال عمليات التنقيب عن الآثار، التي أرجعت أقدم الآثار على الساحل العُماني الشرقي والغربي إلى الألف الخامس ق.م، أن هناك أدلة دامغة على تشكّل مجتمعات صغيرة في عصور مبكرة من التاريخ على أرض عُمان تعود إلى الألف السادس قبل الميلاد “كشف النقاب عنها مـوقع القـرم في محافظة مسقط، حيث عُثر على مقابر وبقايا أطعمة وأمتعة شخصية”.

وإذ نعذرُ بعض “هواة التاريخ” الذين يدفعهم الحماس حيناً إلى تجاهل النصوص التاريخية والشواهد العلمية، فنحن مع ذلك ملتزمون بأمانة علمية ومنهجية وموضوعية بالتأكيد على أن التاريخ لا يمكن إزاحته قيد أنملة أو إعادة كتابته وفق ما يقتضيه المزاج السياسي، لذلك فإن إيراد أي ادعاءات تاريخية دون سند متفق على أمانته العلمية واعتباراته الموضوعية سيبقى سلوك غير مهني ولا يمكن أن يؤسس حقيقة معرفية.

إن تاريخ وحضارة مجان العُمانية القديمة؛ شكلا جزءً لا يتجزأ من النشاط التاريخي والحضاري لمنطقة الخليج العربي، ويبدو جلياً من القرائن والأدلة السابقة، وكل ما ستكشف عنه الأرض العُمانية الحبلى بالكنوز والآثار والنفائس وما يسعى لسبر غوره علماء الآثار و الأنثروبولوجيا في شمال وجنوب شرق شبه الجزيرة العربية، أن جميعها تبرهن علمياً في شرعية الحق التاريخي والتراثي لعُمان في حضارة “مجان” ، وما كان بذلنا لهذا الجهد البحثي المتواضع وسبرنا مناجم التاريخ، إلا إيماناً  بدورنا العلمي والوطني، أمانةٌ عظمى -كأحفادٍ بارّون بحضارة مجان العُمانية- بالدفاع والذوّد عن أمجاد الأمة وتراثها العظيمين .

ولأن التاريخ محاولةٌ هامة من جانب الإنسان لمعرفة ذاته وعلاقته بما حوله، واكتشاف نظامه الاجتماعي والتاريخي والسلوكي، والأهم منظومة قيمه ومبادئه الأخلاقية، باعتبار أن التاريخ دروس الماضي وعبر المستقبل، فإن ذلك يدفعنا –من باب النصيحة العلمية- أن ندعو كل باحث عن الحقيقة؛ خاصة في التاريخ والحضارة، أن يسلك مناهج البحث العلمي في استقصاء الحقيقة التاريخية ويستند في تحليله على قواعد علمية في الكتابة وإشاعة الأفكار ويسترشد بوثائق تاريخية لا خلاف حولها، فالتاريخ “أمانة” والناقل أو الراوي مستأمن على ذلك، وهو صاحب رسالة تتناقلها الأجيال ثقةً بـ”رسول” التاريخ؛ فكما الأديان “عقيدةٌ وتراث” ، فالتاريخ أيضاً قصة العقيدة والدين والحضارة.

 

 ([1]) انظر بهذا الخصوص :

– تيسير خلف، دلمون وملوخا ومجان في إيران ووادي السند بدلا من الخليج العربي، مجلة الجديد ، العدد (10126)، 13/12/2015.

– أ . هيستنج ، عمان فى الألف الثالث قبل التاريخ الميلادى، وزارة التراث والثقافة، مسقط، 1983م

– عامر بن على بن عمير، حضارة عُمان القديمة، وزارة التراث والثقافة، مسقط، د.ت .

– عبدالله محمد الطائي، تاريخ عُمان السياسي، مكتبة الربيعان للنشر والتوزيع، الكويت، 2008م

([2]) راجع، على راشد المديولي، تجارة عمان مجان ( 300 – 1300 ق.م)، رسالة دكتوراة، كلية الآداب (الدراسات العليا) جامعة الملك سعود، 1434هـ .

([3]) انظر:  – أ . هيستنج ، عمان فى الألف الثالث قبل التاريخ الميلادى، مرجع سابق.

– عامر بن على بن عمير، حضارة عُمان القديمة، مرجع سابق .

– سعيد بن مسعود المعشني، الآثار التاريخية في ظفار، مطابع ظفار الوطنية، صلالة،  1997م.

([4]) عامر بن على بن عمير، حضارة عُمان القديمة، مرجع سابق، ص 11 .

الرابع والثمانون سياسة

عن الكاتب

خالد بن سعيد الكندي

كاتب عماني