بسمة العيد.. لا تسلبوها

قبل عامين عند وجودي في إحدى مدن شمال أوروبا لفتت نظري ظاهرة إقامة صلاة عيد الفطر المبارك ثلاثة أيام متتاليات ، و استوقفني السؤال: كيف يكون عيد المسلمين في ثلاثة أيام متفرقات بدلاً من يوم واحد؟ أليس العيد يوماً واحداً في الشرع؟ هذه الظاهرة ليست آنية ، فالمشهد بات يتكرر في السنوات القليلة الماضية. تقفز لذاكرتي لحظات جميلة عندما كنا أطفالاً و إلى عهد ليس بالبعيد ، نستأنس بيوم العيد الذي يطل علينا بالسرور ، فنفرح ونتطيّب ونتزيّن ونلبس الجديد ونتبادل التهاني ونزور الأقارب والأرحام نتشارك الفرح والسرور ، ونأكل من الاطعمة والحلويات الخاصة بالعيد السعيد ، إلا أن هذه الظاهرة الغريبة باتت تهدد فرحة العيد بتتكررها خلال السنوات القليلة الماضية!! ظاهرة تدعو للعجب و الإستغراب و الدهشة حقا ، أن تزور أحد أرحامك و أقاربك في يوم العيد لتبادل التهاني فيجيبك قائلا: (اسمح لي انا ما معّيد اليوم) أو (العيد معي غداّ) أو (كان عيدنا بالأمس) !!!

و الأغرب من هذه الظاهرة – إن صح تسميتها بالظاهرة – أن عدداً ليس بالقليل من شبابنا بعد إعلان بيان العيد رسمياً ، يقولون: (باكر ما عيد أصلا) ، وتبدأ سلسلة الإتصالات الهاتفية مع الدول المجاورة علّ أن تجيز لهم مرجعية دينية العمل ببيان العيد الرسمي في عمان فمن يقول لك: (إذا تطمئن لهم عيّد معهم) ومن يقول لك: (عليك الصوم أو قطع مسافة السفر للإفطار) ، و يبدأ شبابنا بقطع مسافات طويلة بسياراتهم لاجتياز حد الترخّص فجرا ، و الإفطار هناك و من ثم العودة مسرعين لصلاة العيد ، معرضين حياتهم وحياة الآخرين للخطر في هذه الشوارع التي تأن من حرارة دماء السرعة الزائدة ، والحوادث المرورية التي سلبت بسمة الأسر بفقد أزهارها.

أليس أمراً  يدعو للعجب أن يكون عيد المسلمين يوماً واحداً يختلفون فيه ليصبح يومان مختلفان أو ثلاثة ؟!  كيف من الممكن أن يكون لنا يومان متتاليان لنفس المناسبة التي خُصِّص لها يومٌ واحد لطقوسها؟ نحن لا نتكلم هنا عن شعوب مختلفة في بلدان و بقع جغرافية متفرقة ، و إنما عن أسرة واحدة تحت سقف بيت واحد ، تجد فرداً مسروراً بالعيد وآخر مكفهرّاً في وجه الآخرين رافعا شعار: (لا عيدَ لي اليوم).

هذه الظاهرة تسترعي الإنتباه لعدد من التساؤلات: مالذي يدعو الناس ليجعلوا يوم عيد واحد في يومين أو ثلاثة ؟ مالذي يدعو الناس ليتفرقوا بدل أن يجمعهم العيد ويقرّب بينهم؟ كيف يكون التاريخ عندي اليوم غرة شهر شوّال و أخي في نفس بيتي و بلدتي التاريخ لديه متمما لشهر رمضان؟!! لماذا لا أعمل ببيان العيد في بلدي و أتجه لدول أخرى استمد منها بيان العيد؟ ما أسباب اختلاف التقويم الهجري إذا كانت حركة الأجرام و القمر دقيقة جدا ؟ لماذا لا نستفيد من براعة علماء الفلك في دحض هذا الاختلاف في تحديد يوم العيد؟

في الحقيقة السبب وراء هذا الإختلاف في تحديد يوم العيد يعود إلى المشرّعين ، فهناك من رجال الدين من واكب تطوّر المعرفة و العلوم ؛ فأفتى بجواز العمل بالحسابات الفلكية الدقيقة مستنبطاً في فتواه ما يجيز ذلك ، و هناك من احجم دور العقل واكتفى بظاهر النصوص وحجية السند ؛ فألزم بفتواه العمل بالرؤية البصرية المجرّدة (العين البشرية) رافضاً الإستعانة بأي أدوات مساعدة كالعدسات المكبرة أو الكاميرات الحديثة التي في حساسيتها تفوق العين البشرية تجاه الإشعاع الشمسي والضوء ، وهناك من اتّخذ منهجا وسطا بين هذا وذاك ؛ فقضى في فتواه حلا للعمل بالأجهزة المساعدة جنباً إلى جنب مع العين البشرية و الاستئناس بالحسابات الفلكية ، والحديث يطول في تفاصيل الفتاوى وليست هي محل الحديث.

 

إنني لا أدعو هنا إلى المفاضلة بين الرؤية الشرعية والحسابات الفلكية ، فالرؤية شرع من الله ، والحسابات الفلكية تعطينا فهما لخلق الله في ملكوته وحركة هذه الأجرام بدقة متناهية ، وإنما أدعو إلى النظر في تعدد التفاسير الظاهرية والأحادية الوجهة لمعنى الرؤية. إن الفهم المبني على حقائق علمية ثابتة عن دوران القمر وانعكاس ضوء الشمس عنه يساعدنا لتوسيع رؤيتنا للواقع ، فالأجهزة و المناظير لا تخلق هلالاً جديداً ، وإنما تساعدنا للتغلب على الظروف الجوية كالغبار و بخار الماء من خلال التكبير(Zoom). و كما تعلمون فإن الضوء الصادر من الشمس ما هو إلا اشعاع شمسي يحتوي على موجات  كهرومغناطيسية (الطيف المرئي و الأشعة تحت الحمراء والأشعة فوق البنفسجية) ، والعين البشرية المجردة تلقط جزءا ضئيلا من هذا الإشعاع الشمسي ، وقد تطورت العدسات البصرية في عصرنا فأصبحت ذات حساسية عالية تلتقط الإشعاع المنعكس عن سطح القمر بأكمله و تعزز حاسة البشر في النظر وتتيح لنا رؤية أوسع في ملكوت الله.

 

إن العلم لا يناقض الدين و إنما يسهل علينا تطبيق مقاصد الشرع الشمولية و فهمها ، و لكن بتجاهل العلم فإننا نلحق الضرر بالدين أولا كمنهج حياة و ثانيا كحضارة لا تشجّع العلوم و تطويرها، و من ثم الحاق الضرر بأهل هذا الدين فيما بينهم – محل حديثي في هذا المقال– في وقت يحمي فيه العلم الناس و يمهّد للاحتكام لدعائم الحكم الواحد و إرسائه ، داحضا نظرة البشر القاصرة.

 

العجيب أن كلّ المشرعين من أصحاب الفتاوى المتباينة و المتفاوتة يتفقون على دقّة علم الفلك و حساباته ، بل و بعضهم ذي خلفية فلكية و يعلم دقة الحسابات وأوقات اقتران الهلال حق المعرفة ، إلا أنهم لا يتفقون على منهجية واحدة في الاستفادة من علم الفلك ، و بتعدد المناهج في الاستطلاع تعددت الأعياد و النتيجة لنا عيد و عيدان و ثلاثة أعياد.

 

إذا كان المشّرع يقصد من فتواه أن يطبق حكم الله الواقعي ؛ والمعروف و الثابت أن في حكم الله العيد يوم واحد ، فإن المشرعين خرجوا لنا بأكثر من يوم عيد في المحصلة! ، هذه النتيجة التي وصل إليها أصحاب الفتوى في اختلاف تحديد يوم العيد تعود إلى خلل في مقدماتهم و اجتهاداتهم ، فليس من المعقول أن يصل أحدهم لنتيجة و نظيره في التشريع لنتيجة أخرى و يكون في حكم الله الواقعي يوم عيد واحد وفي حكمهم يومان متفرقان أو اكثر. و بالرغم من يقينهم القاطع بدقة علم الفلك فكثير منهم لا يعمل به لنصل إلى خلاف في تحديد الهلال الذي يعدّ إيذانا لبداية الشهر الهجري فيصبحوا كحال من يوقن بجرم معروف فاعله فلا يدينه ويحاسبه.

لقد مهدّت الدولة اليوم الكثير من الأدوات والسبل وأنفقت الأموال الطائلة لأجل متابعة ورصد الأهلّة طوال العام حتى أشاد القاصي بالتجربة العمانية في الاستهلال ، وينبغي أن يحظى هذا الجهد بقدره الاعتباري لدى أصحاب الرؤية المختلفة، ومهما كان الاختلاف في الأمر فمن يظن أن لديه إشكالا في ذلك عليه أن يؤسس جسرا للنقاش مع رؤوس المؤسسة الدينية ويقرع باب القائمين عليها ليتم التحاور للوصول لكلمة سواء ، لا أن يأمر الناس بالانحياد انصياعا لرؤيته الخاصة التي تجنح للصحة أو الخطأ ، وهذا يمكن أن يحدث في إطاره الوطني بين المذاهب في عمان ، و أن نخرج بلجنة مشتركة في الاستهلال تحمل كل الأطياف في عضويتها و أن يشارك كافة أبناء الطوائف في لجان الرصد ، وهو الأمر الرافع للحرج والجامع للجميع، و أما تأكيد تفريق الناس و تعددية الأعياد ما هي إلا تزكية للفصال المجتمعي وفي ذلك خطورة بالغة على الفرد وبنية المجتمع والدولة.

تنعكس هذه المعضلة الفقهية بين رجال الدين على الواقع الاجتماعي فتكاد تسلب بسمة العيد و فرحته من وجوه الأسر في وقت هي أحوج ما تكون إليه لتعيش مشاعر السرور و التواصل مع أرحامها و أقاربها و الترابط فيما بينها. ألا يكفينا اختلاف الأديان و اختلاف المذاهب و ما جرّته من ويلات طائفية على الشعوب حتى نجرّ هذه الاختلافات داخل المذهب الواحد و البيت الواحد فيقطّب الأخ في وجه أخيه و يعّيره بصوم في يوم عيد أو بفطر في يوم صوم؟!! و القصص كثيرة في إخوة فرّق يوم العيد بينهم و انقلب التواصل قطيعة من وراء تطبيق فتوى. هل نحقق رضى الله و نعبده في هذا الإختلاف وهو عيد واحد يجمع كل المسلمين؟

ارحمونا يا معشر الفقهاء ووحّدوا صفوف فتواكم قبل دعوة العوام لوحدة الصف في صلاة يوم العيد ولمّ شمل أرحامهم ،  كفانا تمزقة للصفوف ، وليكن عيدنا قيمة من قيم المواطنة بدل أن يكون جمرة حارقة من نار المذهبية استرشادا بالنهج السامي لقائد البلاد المفدى.

الخامس والثمانون ثقافة وفكر

عن الكاتب

علي بن جعفر اللواتي