الديات والأروش في الخطاب التشريعي

تعدّ الأحكام التشريعية في الجانب القضائي الضوابطَ المنظمة للعلاقات والتعاملات الإنسانية فيما بين الناس، فمن خلالها تنضبط مصالح الناس وتستقيم أحوالهم وتسير الحياة هادئة مستقرة، ولا عجب في أن نجد في خطابنا التشريعي مثل ذلك؛ فإن الله تعالى هو الأعلم بما تستقيم عليه أحوال عباده وتصلح به حياتهم.

وموضوع الديات والأروش من أهم الموضوعات التي ظلت فاعلة منذ انطلاق هذا الدين ببعثة سيد الأولين والآخرين محمد بن عبدالله عليه تمام الصلاة والتسليم، وذلك قبل أربعة عشر قرناً ونيف؛ فقد شرع الله الدية والأرش لمن وقع عليه الضرر قصدًا كان أو خطأً، ونظم ذلك بشكل دقيق.

كما اهتمت القوانين الوضعية بهذا الموضوع أيّما اهتمام، لما يتوقف عليه من المصالح ودرء المفاسد عن الناس.

يُعرّف مصطلح الدية في اللغة بأنه “مصدر وَدي يَدي، تطلق على المال المؤدى للمجني عليه أو وليه، وأصلها ودية فحذفت الواو وأثبتت الهاء بدلاً عنها، كالعدة من الوعد، والزنا من الوزن، تقول وديت القتيل أدية دية وودياً إذا أعطيته ديته” (1).

وفي لسان العرب “الدية هي حق القتيل وقد وديته وديًا الدية واحدة الديات والهاء عوض من الواو تقول وديت القتيل أدية دية إذا أعطيت ديته واتديت أي أخذت ديته” (2).

أما اصطلاحًا فقد عرفها معجم المصطلحات الفقهية بأنه “من ودي القاتل القتيل، إذا أعطى وليه ديته، المال الذي يعطى لوليّ المقتول بدل نفسه”(3).

أما الأروش فهي في اللغة “أرش: الأرش دية الجراحات وأرشتُ بين القوم تأريشًا أفسدتُ، وتأريش الحرب والنار تأريثهما”(4).

وللأرش في اصطلاح الفقهاء عدة معانٍ في أبواب أخرى، مثل باب الفقه والمعاملات وهو خارج موضوع هذه الورقة.

 

 

دليل مشروعية الديات والأروش

فصّل المشرّع في أدلة الديات والأروش بشكل واضح، لما يتوقف على ذلك من آثار اجتماعية ومالية متعلقة بذمم الأطراف، سواء كان ذلك في حالات القصد والعمد، أو في حالات الخطأ ودون القصد، أو ما كان في شبه القصد. وذلك على النحو المبين فيما بعد:

أولًا: الديات

يورد الفقهاء وأهل الأصول دليل الديات؛ مثل قوله تعالى ” وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا “(5)، ففي هذه الآية الكريمة أكثر من دلالة؛ الأولى: أن القتل الصادر من المؤمن لا يمكن أن يقع في الأصل إلا خطأ ودون عناية منه، ودون قصد في إيقاع تلك الجريمة؛ إذ لا يكون من شأن المؤمن إيقاع الأذى بالآخرين أو التعرض لعباد الله بشيء من ذلك؛ بل الأصل في أخلاق المؤمن العمل على إبعاد كل ما من شأنه أذية الناس، وهذا ما يعكس براءة الذمة المؤمنة في أصلها، وأن واقعة أي قتل منه لا تكون إلا استثناء من هذا الأصل؛ فيُسهم تكريس مثل هذا المفهوم في الوعي العام في إطفاء نار أي فتنة بين الأطراف المعنية بالواقعة، ودفعهم إلى إحسان الظن بالقاتل المؤمن ابتداءً والعمل على المعالجة الحكيمة والمتعقلة المتزنة التي تضمن للمجتمع المسلم دوام الاستقرار واستمرار حياته وفق ما تقتضيه مصالحهم ومنافعهم.

وإلى جانب ذلك؛ فإن المشرّع بيّن أنه ومع كون القتل بعد خطأ غير مقصود من المؤمن؛ إلا أن ذلك لا يعني إعفاء الجاني المخطئ من العوض للمجني عليه ولأوليائه؛ لذلك يقرر الشارع الحكيم مباشرة، وفي السياق التشريعي نفسه الذي يبرئ فيه ذمة المؤمن، بأن عليه واجب الدية لأهل المجني عليه؛ إلا إن هم عفوا عنه وتنازلوا عن حق الدية، فوصفها الله تعالى بأنها صدقة منهم، في إشارة إلى ما يترتب على عفوهم ذلك من جزيل العطاء وعظيم الثواب منه تعالى لهم.

وهو نوع من أنواع الترغيب الضمني للمثوبة والعطاء الإلهي؛ لأجل بقاء العلاقات الإنسانية دافئة مستقرة؛ لا ضغائن ولا سخائم في صدور أهل الإيمان لبعضهم بعضا.

أضف إلى ذلك أن النص التشريعي لم يفرق بين جنس وعرق ولون، فجعل الحكم عامًّا يشمل الناس كافة دون أي استثناء أو قيد شرط، وهذا مطلق العدالة في تقرير الحقوق وضمانها لأصحابها. وتتجلى في هذا النص الإلهي الكثير من معاني الدعوة إلى التآلف والتسامح بين المؤمنين لإيجاد مجتمع متصالح مع ذاته، يتقصد الخيرات ويطلبها حثيثًا؛ لأن في ذلك صلاح الناس واستقامة أحوالهم.

وأدلة مشروعية الديات عديدة في الخطاب التشريعي؛ سواء في كتاب الله تعالى أو في سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، أو في تطبيقات الأثر، وقد اكتفيت بإيراد دليل واحد؛ رغبة في الاختصار، فبه تتم الفائدة.

ولا تتوقف الدية على القتل الخطأ فحسب؛ بل جعلها الله سبيلًا ومخرجًا لقاتل العمد، وجعل تقرير ذلك في يد أولياء القتيل بالتخيير بين القصاص أو الدية أو العفو، مع بيانه تعالى بأن قتل النفس بغير حق يعد أكبر الكبائر وجريمة بعد الشرك بالله تعالى، وتوعّد الله القاتل عن قصد بخطاب وعيد واضح الدلالة شديد الوقع على النفس فقال تعالى: ” وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً “(6)، إذ لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يُصب دمًا بغير وجه حق، ولولي المقتول أن يختار بين القصاص أو أخذ الدية أو العفو، وبهذا يتضح أن مشروعية الدية تنسحب على القتل مطلقًا مهما تعددت صور الحادثة وأشكالها.

 

ثانيًا: الأروش

يُعدّ موضوع الأروش امتدادًا لموضوع الديات، أو هو شكل آخر من أشكال الضمان والعوض الاجتماعي للمتضرر ومن وقع عليه الأذى؛ ففي تأدية الأرش عونٌ للمجني عليه ومن وقع عليه الضرر في إعانته على مواصلة حياته في أفضل صورة ممكنة، وقد استخدم الفقهاء مصطلح الدية بدلًا من الأروش في بعض المواضع؛ لذلك فإن وردت لفظة الدية في غير حالات القتل فالمقصود بها الأرش بدلالة العوض.

وقد أورد الفقهاء عدة أدلة من الشارع في إثبات الأروش، منها قوله صلى الله عليه وسلم في كتاب عمرو بن حزم الذي كتبه إلى أهل اليمن، وهو كتاب طويل تضمّن الكثير من الاعتبارات الشرعية والفقهية التي تغطي عدة جوانب تكليفية، ونقتصر منها على ما يخص هذه الورقة فقط.

“كتب إلى أهل اليمن بكتاب فيه الفرائض والسنن والديات، وبعث به مع عمرو بن حزم، فقرئت على أهل اليمن وهذه نسختها: من محمد النبي صلى الله عليه وسلم إلى شرحبيل بن عبد كلال، والحارث بن عبد كلال، أما بعد: فقد رجع رسولكم وأعطيتم من الغنائم خمس الله …” إلى أن قال عليه السلام “وإن في النفس الدية مائة من الإبل، وفي الأنف إذا أوعب جدعه الدية، وفي اللسان الدية، وفي الشفتين الدية، وفي البيضتين الدية، وفي الذكر الدية، وفي الصلب الدية، وفي العينين الدية، وفي الرجل الواحدة نصف الدية، وفي المأمومة ثلث الدية، وفي الجائفة ثلث الدية، وفي المنقلة خمس عشرة من الإبل، وفي كل أصبع من الأصابع من اليد والرجل عشر من الإبل، وفي السن خمس من الإبل، وفي الموضحة خمس من الإبل”(7).

ونقرأ في تفصيل النبي صلى الله عليه وسلم لموضوع الأروش، اهتمامه البالغ بهذه القضية وحرصه عليه السلام على ضمان حقوق الناس ودفع الأذى عنهم بتقرير ذلك الموقف الشرعي من أي حالة اعتداء على الناس؛ لذلك فإن للمجني عليه أن يستوفي حقه دون أن يجمع بين القصاص والأرش.

كما أن الأرش يجب في العضو الذي تعرض للفقدان أو التلف، وزاد بعض الفقهاء في أنه حتى وإن كان الضرر ذهابًا لجمال العضو مع بقاء صورته أو كان ضررًا على عضو زائد؛ ففي كل ذلك أرش.

وفي موضوعي الديات والأروش تفصيل طويل جدًا للعلماء وفقهاء القانون، وكل ذلك إنما يجيء في سياق المحافظة على حقوق الناس وضمان مصالحهم ومنافعهم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- راجع الملتقى الفقهي islammessage.com

2- ابن منظور، لسان العرب، ج4، ص4254.

3- قطب مصطفى سانو، معجم مصطلحات أصول الفقه، ص210.

4- إسماعيل حماد الجوهري، معجم الصحاح، ص37.

5- سورة النساء، الآية رقم 92.

6- سورة النساء، الآية رقم 93.

7- رواه النسائي وابن حبان واللفظ لهما، والحاكم والبيهقي.

الخامس والثمانون ثقافة وفكر

عن الكاتب

فيصل بن خالد الكندي