قصيدة النثر في عمان: بين غياب الرومانسية وحضور السريالية (3 من 5)

وتبدو الرؤية الذاتية مسيطرة على هذا النص ويكاد كل سطر من سطوره يشعرنا بتلك الدفقة الشعورية التي تخرج من أعماق الشاعر والحب الكبير الذي يكنه لصديقه مبارك الرحبي ، ويقترب الشاعر كثيرا من الرؤية الذاتية التي افتقدنا في قصائده السابقة ، وحتى تشبيهاته وصوره تبدو أقرب إلى الذات وإلى الواقع ، فهو يصور صديقه أو قريبه مبارك الرحبي بملاك لكنه بعينين جريحتين ، لكنه لا ينسى أن يأتي برموز أخرى مترسبة نحو جثة ، نسور هرمة ، شمس خاوية وهي رموز شخصية يكررها سيف الرحبي في أكثر نصوصه، وتؤكد في الوقت ذاته علاقة الشاعر مع شخصية المتوفى وتوحد هذه العلاقة مع الوطن وخصوصا في قوله بحنين أودية جافة، والشاعر أيضا لا يتردد في تذكير المتلقي بوضعية الغربة التي كان يعيشها عندما تلقى النبأ فيقول أحاول أن أكتب لكن الدموع تسبقني حاملة معها الجذور والمنافي ولهاث الطرقات .

romantic3

قصيدة النثر في عمان

بين غياب الرومانسية وحضور السريالية


(3 من 5)

شُـبّر بن شرف الموسوي

ثالثا غياب الرؤية  النابعة من الذات :

نتحدث في هذه الحلقة عن سمة موضوعية أخرى مفتقدة في قصيدة النثر وهي غياب الرؤية الذاتية ، فالقصيدة كفن شعري ينبغي أن تنطلق عبر الذات وإلى الذات أيضا ، أنها تعبير ذاتي عن هموم وقضايا الإنسان فهي تعتمر في ذات الشاعر وتخرج من خلال ذاته متدفقة ونابضة بكل هذه المشاعر المتناقضة والمتعمقة في أسلوب شعري وفني جميل وراق ،ولكننا نفتقد لهذه الرؤية الذاتية في قصائد النثر وأن ابتعاد قصيدة النثر عن الرؤية الذاتية سمة أخرى من سمات قصيدة النثر. فمعظم النصوص التي يكتبها كتاب قصيدة النثر تفتقد إلى الرؤية الذاتية التي تنطلق من الذات لكي تتحدث مع الآخر ، وأكثر قصائد النثر تتحدث عن الأشياء المحيطة بالكاتب دون أن يكون هناك وجود ذاتي أو شخصي لذات الكاتب ولهذا فإن قصيدة النثر هي قصيدة برانية أكثر منها قصيدة ذاتية ويمكن أن نسوق عدد من الأمثلة لاحقا .

لقد أعطى الاتجاه الرومانسي فرصة للتشكل والبروز من خلال المشاعر والأحاسيس ، فأصبحت القصيدة  تعبير عن رؤية الشاعر لذاته وانعكاسها على قضايا المجتمع والعصر ، وأصبحت لغة الشعراء أكثر قربا من روح العصر ، وتعبر عن نفوس الشعراء في  ألفاظ وصور تستمد من بيئتهم ؛ وأصبح الشعر حديث النفس ونجوى الذات ، فالذات هنا ضيقة بالواقع ، وأحلامها أكبر من إمكاناتها ، تحلم بالمدينة الفاضلة ، والأحزان التي تحيط بالشاعر ليس لها تعليل مباشر ، وإنما هو ما كان يسمى بمرض العصر ، نتيجة ضغط الحياة ، وكثرة تحدياتها ، وإحساس الفرد بالحيرة أمام هذه المتغيرات المادية من حوله ، فلا منقذ له منها إلا العواطف التي يتغنى بها أملا في المستقبل وعزاء عن الواقع .

ولكن شعراء قصائد النثر  تخلوا عن هذه النظرة الذاتية ، وأصبحت قصائدهم تغطي عليها صفة الغيرية والابتعاد عن الذاتية ، حيث يشتغل كتاب قصائد النثر بتفاصيل خارجية ووجودية  ، دون أن يفصحوا عن حقيقة مشاعرهم تجاه الموضوع المتناول في نصوصهم . وترجع هذه الغيرية والابتعاد عن الذاتية إلى بروز النزعة العقلية التي تبدو غالبة على نصوص هذا الاتجاه ، لأن تغليب العقل على العاطفة موقف أساسي في أفكار الحداثة وتوجهاتها ، ويترتب على هذا تواري العنصر الذاتي في كثير من الأحيان من هذه النصوص ، فهو شعر غيري غالبا .

ويبدو أن تغيب الذات وكبتها أو الهروب منها موقف حداثي ، وإن إجماع – الحداثيين- على كبت الذات أو الهروب منها أو حتى تفتيتها لم ينشأ من فراغ ، فقد اجتمعت تركيبة فريدة من العوامل الفلسفية والسياسية ، وحجم التمرد على الواقع ، قد أدت إلى أن تصبح الذات المستقلة شيئا مغيبا .

ويمكن أن نرجع هذه الغيرية والابتعاد عن الذاتية إلى مشاركة كتاب قصيدة النثر في التعبير عن قضايا وجودية وإنسانية عامة ، فيجرد الشاعر الحداثي من نفسه صوتا يعبر عن قضايا العصر ، وكأنه يتحدث باسم الناس دون أن تمر التجربة خلال ذاته ، أي أن نصوصهم تغلب عليها الصفة الموضوعية أكثر من النواحي الذاتية .

وما يمكن ملاحظته على قصائد النثر أنها تفتقد صفة الفردية في التحدث والتعبير عن الذات ، أن أنها لا تتحدث بصوت المفرد أبدا إلا فيما ندر ، كما أنها لا تتحدث عن قضايا فردية ، ولهذا فمعظم نصوص قصيدة النثر تفتقد إلى الرؤية الذاتية الداخلية ، بل ينشغل أكثرها بالهموم والقضايا الوجودية والعمومية والبرانية أكثر مما تتصف بالذاتية والجوانية والتعبير عن الذات . ونتيجة لهذا التوجه فإن أكثر نصوص قصائد النثر  تفتقد إلى ضمير المتحدث ” الأنا” ولكنها تمتلئ بضمير الجماعة “نحن” وضمير الجمع الغائب “هم” لأنها لا تصدر عن الذات في مطلقها إلا ما ندر وهذا ما ستناوله لاحقا . ويرجع هذا الاستخدام في تصوري إلى أن قصيدة النثر تعبير عن هموم العالم وقلقه أكثر مما هي تعبير عن ذاتية الكاتب ورؤيته الداخلية والإنسانية، ولهذا نلاحظ أن كتاب قصيدة يستخدمون ضمير الجماعة أكثر من استخدامهم لضمير المتحدث ، وفي هذا الاستخدام دلالة على البعد الجماعي المنفصل عن الذات والذي يمثله ضميري “نحن وهم” .

يقول عبد الله الريامي في نص “في نخب الغرباء “:

نجوب الساحات كظلال اللعنة

وحدنا نعبر الممرات التي هربت

العاطلين والأحبة ،

وشعوذات القرون

التي أنفقت بكل بذخ على ستائر الوهم

وعلى الرمق الأخير

لمحارب يلعب الروليت

الجنون دليل الغرباء

والزمان مفلس يبحث عن عقب سيجارة

في منفضة ثري أبكم

مستعد أنا لمقايضة هذه البلاد

التي تحملني على البكاء

بقبر لا يتسع لسواي ([1])

لاحظ قول الريامي “نجوب ، وحدنا نعبر ، ولا يستخدم ضمير المتحدث الذي يعبر عن مكونات النفس إلا في استعداده لمقايضة هذه البلاد التي تحمله  على البكاء .

ويقول زاهر الغافري في نص طويل بعنوان “عزلة تفيض عن الليل ” وهو عنوان المجموعة ، مبتدأ نصه بالحديث عن رعاة بلا بوصلة أي هم :

رعاة بلا بوصلة

يهربون جرار الآلهة

ويشربون الظل مقطرا من الأشجار

لعلنا نزداد جمالا

بعد الموت

كنا نحمل فوق أكتافنا

آبار النسيان

ولم نكن نشعر بالهواء

لم نكن نشعر بماء العالم

ولا بمرآة الرماد

نقف كالأيتام

باحثين ربما عن الأنهار

عن الطين وعن سلم المغارة

عن طفولتنا التي أعرناها للخريف ” عزلة تفيض عن الليل ، ص 10

لاحظ هنا استخدام الغافري لضمير الجمع في أكثر أفعال المضارعة “يهربون ، يشربون” لكنه لا يستخدم ضمير المتحدث الذي ينطلق من ذاته ، وهو لا يتحدث مطلقا عن نفسه حيث يبدأ جمله وعباراته بضمير الجمع ” كنا نحمل فوق أكتافنا ، ولم نكن نشعر ” وعموما تكاد مجموعة زاهر الغافري عزلة تفيض من الدمع تخلو تماما من أي نص يتحدث فيه الكاتب بضمير المتحدث ، فالنص الطويل الموجود في المجموعة ، يبدأ في الحديث عن افتقاده هو ومجموعة من الناس لليل الواحد ، فيقول  :

” ربما افتقدنا ليلا واحدا

ربما افتقدنا أرض الكلام

لتنقل هذه الريح

أصداف فمنا إلى البرية

ربما لأن عزلتنا

تفيض عن الليل

لذلك تركنا الباب مفتوحا

فلم ندخل

ثم سمعنا صرخاتنا من بعيد ”

أي أن النص كله يعتمد على ضميري الجمع “نحن وهم “دون أن يوضح الكاتب من هم هؤلاء الذين يتحدث عنهم؟ ، كما أنه لا ينقل لنا حقيقة مشاعره هو حول افتقاده الليل الواحد أو أرض الكلام أو عزلته التي تفيض عن الليل ، وتبدو العزلة هنا هي عزلة الآخرين وليس عزلته هو .

وحتى في حالة استخدام ضمير المتحدث في بعض نصوص قصائد النثر فأنها أيضا لا تصور ولا تشي بما يكتنز في ذات الكاتب من مشاعر أو أحاسيس ذاتية أو إنسانية ، بل تتحول بعد أسطر نثرية قليلة إلى الحديث عن الجماعة أو عن موضوع آخر بعيد تماما عن مضمون القصيدة . يقول عبد الله الريامي في نص “في نخب الغرباء” والذي يبدأه في الحديث عن نفسه :

لو تعرف المسافة أنها كقلبي

ريشة في الهواء

مهمة صعبة لعنيين في الظلام

في الشارع الخالي أراقص الماء

قامة من الذكريات

أفكر كيرا في أهمية التاريخ للشعوب

وفي حروب البقاء

في الشاعر الذي يبحث

عن مفاتيح جديدة للكلمات

فيفاجئني الصوت وهو يتجول وحيدا  في فراغ الهواء

ولأني ولدت في يوم ماطر

فقد عشت دوما كالغريق ” فرق الهواء ، ص 44

لقد ظننا بداية أن الريامي سوف يقدم لنا قصيدة رومانسية أو ذاتية يتحدث فيها عن قلبه الذي يبدو كريشة في الهواء ، لكنه يترك قلبه وحيدا ملعقا في الهواء ويبدأ بنا التطواف في الشارع الخالي ومراقصة الماء ، ثم التفكير في أهمية التاريخ بالنسبة للشعوب وفي حروب البقاء وفي الشاعر الذي يبحث عن مفاتيح للكلمات ، وبعد حكاية سردية طويلة وأسطر متعددة ، يعترف الشاعر لأنه ولد في يوم ماطر فقد عاش دوما كالغريق ، ولا توجد بين بداية النص ونهايته أية علاقة منطقية ، فقلبه لا يزال معلق  كريشة في الهواء

romantic2

في معجم الجحيم لسيف الرحبي الذي يحتوي على معظم مجموعاته ونصوصه التي نشرها خلال مسيرته الشعرية والذي يحتوي على أكثر من مائة نص نثري أو أكثر، نجد أن عدد النصوص التي يستعمل فيها ضمير المتكلم “الأنا” ربما تكون ستة أو سبعة نصوص وهي “عيادة ، من الغرفة إلى المقهى ، كل هذا العمر ، بمناسبة العام الجديد مرايا القفازات ، قصيدة حب إلى مطرح ، خطوات” . وحتى هذه النصوص لا نجد فيها أي تعبير حقيقي عن ذات الشاعر وإنما هي تعابير فضاضة لا تعبر بأي حال من الأحوال عن ذاتيته كمفكر وإنسان .

يقول سيف الرحبي ، في نص “خطوات” :

أمشي أحس تحت قدمي

سماء تضطرب بكامل ضحاياها

وفوق رأسي أرضا توقفت عن الدوران

أسمع رعد خطوات ورائي

خطوات أشخاص قادمين

من الماضي

صامتين كأنما على رؤوسهم الطير

أيها الماضي تراجع قليلا

كي نكمل نزهة اليوم ” معجم الجحيم ، ص 161

في هذا النص لا نجد حقيقة أي رؤية تقف وراءه أو أي منطلق إنساني أو فكري أو حتى وجودي هي بالفعل مجرد خطوات لا تعبر عن شيء ولا تشير إلى شيء

وحتى في تلك النصوص التي تعبر عن مسيرته كإنسان أو كفنان فإن الرؤية الذاتية تكون مفقودة تمام أو يتم تحويلها إلى مسارات حياتية أو مضامين أخرى ، يقول في نص بمناسبة العام الجديد” :

منذ أن تمطى جثتي نعيق السنوات

وحلق الطائر الشتوي في عنقي،

انبرت أحداث سنتي الأول ،

سنة ميلادي

نحو زرقة الأبد

مثل شاحنة غرقت باحتمالاتها

في لجة ” معجم الجحيم ، ص 101

وحتى عندما يستخدم سيف الرحبي ضمير المتحدث ويتحدث عن نفسه فأننا نفتقد أيضا الرؤية الذاتية أو التعبير عن الذات لاحظ الأفعال تمطى ، حلق ، انبرت ، لكنه سرعان ما يترك نفسه وسنة ميلاده ، ليهرب بعيدا نحو زرقة الأفق

أننا بالفعل نفتقد في قصائد النثر التي تتحدث عن المشاعر والأحاسيس التي تنطلق من الذات، وحتى تلك القصائد التي تتعلق بالجوانب الروحية والوجدانية  فإن المشاعر تكاد تختفي وراء التعبيرات المبهمة والصور الذهنية . فعندما يرسل سيف الرحبي تحية إلى والده ناصر بن عيسى فأنه لا يجد أفضل من تشبيه علاقته بأبيه بالجبل والبازلت فيقول :

كانا جبلين تستريح بينهما صرخة الرعاة

كانا منحوتين من بازلت العناق

على الذروة تحلق طيور غاضبة ترمي

على السفوح بهمها المقدس،

ومن بين الضباب الأزرق ، شاهدنا

زرد البحيرات يغرق في ذهب المساء

كانا جبلين منحوتين من بازلت القرون

يذوبان في رأس المسافر

مثل مجردة سقطت بسكانها في البحر

وكان ” اسمهما “لسان الطير” معجم الجحيم ، ص 111

فهل هذه الجمل المصطنعة يمكن أن تعبر عن حقيقة مشاعر الولد اتجاه أبيه ؟؟؟؟

وللحقيقة فأنني فقط وجدت نصا واحدا يعبر فيه  سيف الرحبي تعبيرا ذاتيا محضا وذلك عندما كان يرثي أحد أقرباءه وهو “مبارك الرحبي” وهو عنوان القصيدة ، فيقول :

أحاول أن اكتب عنك

لكن الدموع تسبقني إلى

نهايات الكلام

فأرتد مرتطما بهدير كوكب يهذي

بحنين أودية جافة

أحاول أن أكتب لكن الدموع تسبقني

حاملة معها الجذور والمنافي

ولهاث الطرقات

أحاول أن أمتطي عربة من أنين الغرقى

كي أتبين شبحك البعيد

كيف اخترقتك الأحلام

بغدر المسافة

ورحلت باكرا

كملاك بعنين جريحتين

كيف تركتنا على هذا النحو

جثة تحدق فيها نسور هرمة

تحت شمس خاوي ” معجم الجحيم ، ص 187

وتبدو الرؤية الذاتية مسيطرة على هذا النص ويكاد كل سطر من سطوره يشعرنا بتلك الدفقة الشعورية التي تخرج من أعماق الشاعر والحب الكبير الذي يكنه لصديقه مبارك الرحبي ، ويقترب الشاعر كثيرا من الرؤية الذاتية التي افتقدنا في قصائده السابقة ، وحتى تشبيهاته وصوره تبدو أقرب إلى الذات وإلى الواقع ، فهو يصور صديقه أو قريبه مبارك الرحبي بملاك لكنه بعينين جريحتين ، لكنه لا ينسى أن يأتي برموز أخرى مترسبة نحو جثة ، نسور هرمة ، شمس خاوية وهي رموز شخصية يكررها سيف الرحبي في أكثر نصوصه، وتؤكد في الوقت ذاته علاقة الشاعر مع شخصية المتوفى وتوحد هذه العلاقة مع الوطن وخصوصا في قوله بحنين أودية جافة، والشاعر أيضا لا يتردد في تذكير المتلقي بوضعية الغربة التي كان يعيشها عندما تلقى النبأ فيقول أحاول أن أكتب لكن الدموع تسبقني حاملة معها الجذور والمنافي ولهاث الطرقات .

أما محمد الحارثي فلم أجد في مجموعتيه “عيون طوال النهار وكل ليلة وضحاها” أي نص يتحدث بصيغة الأنا فكل النصوص تتحدث عن الأخر أو بضمير نحن أو كأننا أو بجملة اسمية أو ظرفية ليس لها علاقة بمضمون النص .

وأتصور أن استخدام شعراء قصائد النثر لضمائر الجمع والغياب ، ربما يعود للأسباب التالية :

1-   أنها وسيلة صالحة لأن يتوارى الشاعر خلف الضمائر المختلفة ، فيمرر ما يشاء من أفكار ، وأيدلوجيات ، وتعليمات ، وتوجيهات ، وآراء ؛ دون أن يبدو تدخله صارخا ولا مباشرا ، ودون أن تنسب لقائلها ، لأنها رؤية إنسانية جماعية .

2-   يجنب اصطناع ضمائر الجمع والغياب الشاعر السقوط في فخ “الأنا” الذي قد يجر إلى سوء فهم نصه الشعري ، ولأن شاعر قصيدة النثر لا يحبذ الإمعان في الرؤية الذاتية ، فهو يحاول فصل الـ “نحن” ، عن “الأنا” الكاتب ، وبذلك يحمل المتلقي على التصديق بمصداقية الفكر الجماعي والوجودي الكلي الذي يدعو له والذي يمثل بالضرورة فكر الشاعر نفسه.

كما تتكرر المطالع التي تبدأ بالأفعال المضارعة أو بالجمل الاسمية ، أو بالجمل الظرفية الزمانية والمكانية التي تتحدث عن الآخر لكنها قلما تتحدث عن ذات الشاعر وإن تحدثت عنها فإنها نادرا ما تعبر عن ما تكنه ذات الكاتب أو الشاعر من مشاعر وأحاسيس حقيقة صادقة تجاه الموضوع الذي يتحدث عنه ، أنها نصوص لا تصور أبدا أي رؤية حقيقية تخص الكاتب وذاته ، وإنما  تصور أراء ومواقف عامة برانية ليس لها علاقة بنفسية الشاعر أو رؤيته الخاصة

وحقيقة فإن شعراء قصائد النثر يعبرون عن مواقف إنسانية عامة من الوجود وليس موقف شخصي ، وهم بهذا يعبرون عن قلق وتوتر العالم المحيط بهم أكثر مما يعبرون عن قلق ذواتهم وهذا ما نلاحظه على معظم نصوصهم . وحتى هذه -الرؤية الإنسانية الجماعية -أن صح التعبير ، فهي رؤية عامة ، لأنها لا تعبر عن قضايا محددة ، أي لا نجد فيها قضايا إنسانية وسياسية ذات صلة بالواقع ، فلا نكاد نجد مثلا أي وجود لقضايا التحرر الوطني في العالم أو قضايا الفقر أو الاغتراب الإنساني ، وحتى قضايانا العربية لا نجد لها أي وجود في قصائدهم الإنسانية أو الوجودية ، فلم اقرأ أي نص مثلا يتحدث عن القضية الفلسطينية ، وفي الحقيقة أن القضايا الوجودية والإنسانية الموجودة في قصائد النثر هي قضايا إنسانية مرتبطة بالواقع الغربي أكثر مما هي مرتبطة بالواقع العربي . أي أن قضايا العالم العربي مفتقدة من نصوصهم وقصائدهم .وإذا تحدثوا عن العالم العربي فأنهم يتحدثون عن “بنسيون في طنجة وفي حارة القصبة في الجزائر ، ومقهى في دمشق، ومقهى ريش وحدائق الميرلاند في القاهرة ، وكل هذه الأماكن والنصوص لا تمثل حقيقة المعاناة والكفاح والشقاء التي مرت أو تمر بها الشعوب العربية .

لكن شعراء قصيدة النثر ، وبمنطلقاتهم الفكرية الغربية فأنهم يتوقفون كثيرا أمام مآسي وشقاء الشعوب الغربية ، يقول الشاعر سيف الرحبي في نص بعنوان بحثا عن قطعة خبز أو قماش :

في ليلة الخامس والعشرين من …

حيث كان الربيع يزفر موسيقى أحشائي

الناعمة ، وحقول الطرقات في باريس

مرمية بين أضراس الخوف والمزابل التي

يضيع أطفال المشردين فيها بحثا عن قطعة

خبز أو قماش ([2])

أنه يصور مظهر من مظاهر البؤس والفقر في باريس لكنه لا يصور مظاهر البؤس والفقر في العالم العربي ، على الرغم من أن الرحبي عاش في القاهرة ودمشق والمغرب ، وهي من أكثر الدول العربية فقرا وبؤسا .

ويقول عبد الله الريامي ، في نص “ذخيرة” :

أجمع أخبار القتلى وأمشي

تحت المطر دون عناء

لم يحدثني أحد عن وباء النسيان،

كان الوقت غائرا في القلب

والقلب ومضة ينتهزها محارب عنيد

كانت الأرصفة تعرف قدمي

وهي تستجلي طالع الجهات  الأكثر احتمالا ” فرق الهواء ،ص15

فالريامي لا يملك أية مشاعر حقيقية أو ذاتية تجاه القتلى الذين يسقطون في معارك التحرير مثلا أو حروب المقاومة ، فقط ما يهمه هو أن يجمع أخبار القتلى ثم يمشي تحت المطر دون عناء .

ونخلص إلى القول بأن أكثر قصائد النثر هي في حقيقتها وصف خارجي وبراني لمظاهر عامة  بعيدة عن الواقع وعن الذات ، وحتى عن الهوية العربية وأن أكثر هذه القصائد تتصف ببعدها عن الوجدانية وغياب ذاتية الشاعر التي تختفي وراء الأنماط التعبيرية الغامضة والتشبيهات والمجازات التي لا توضح حقيقة ووجهة نظر الشاعر حيال ما يجرى حوله .

Elia555@hotmail.com


([1])  فرق الهواء ، عبد الله الريامي ،منشورات نجمة 1992 ، نص في نخب الغرباء ، ص 46 .

([2]) ديوان رأس المسافر  ، سيف الرحبي ، ص 32 .

العدد الرابع ثقافة وفكر

عن الكاتب

د. شبر الموسوي

.
.
.
.