الديوان الساخط

كتب بواسطة إبراهيم بن سعيد

قراءة: “لا ماء في النهر” للشاعر: ناصر البدري

الناشر: سؤال ٢٠١٦م

 

”هيا بنا

نحو الحقيقة

ربما يغفو

لبعضِ الوقتِ

بعضُ سؤالي“

ص٥٠.

 

القارئ للمجموعة الشعرية (لا ماء في النهر) للشاعر ناصر البدري والصادرة عن دار سؤال البيروتية يستشعر سريعًا مقدار السخط والغضب واليأس الساخر الذي تمتلئ به المجموعة؛ فمنذ نصوصها الأولى التي تستقبل القارئ، كقصيدة (الرب) ص٧، و(ثلاثية البلاد) ص١٣، و(أبانا) ص٦٥ حاملة إيقاعات قصيرة متواترة، بالتكرار تُعبِّر عن القلق، والتوتر المندفع، بأنفاسها الدائرية تذكرنا بإيقاعات الشعر السياسي المعاصر في نماذجه المشتهرة.

 

وبينما ترسم قصيدة (النشيد) عشق الوطن الذي يسبكه الشاعر قصيدة زاخرة بحب الأرض: ”حبةُ الرملِ من رمالكَ مسجد../ يا سمائي وشمسي ومائي ونخلي، ظل روحي، دمي، هاكَ رمشي توسّد“ ص٣٠ أو قوله فيها: ”أتهجد إليكَ يا فلجَ اللهِ الذي ما رَدَّ في جريانِهِ مُتهَجّد“ ومنها: ”جسدي أنتَ منبتي ويقيني لُغتي الأولى وإياكَ أعبُد“ ص٣٣، كأن الشاعر يعقد أمله على الأرض والتراب الذي يعبده حبًا، وهو الرمل الذي يقدسه في قصيدة أخرى وينتظر بركاته لتسعف قافلة سخطه: ”يا أمي الصحراء يا صدري الذي افترشتْ غِوايةَ نجمتيهِ رمالي/ هِيَ ذِي جِمالي خاوياتٌ فاهرعي نحوي لعلك تدركينَ جِمالي“ ص٥٠.

 

لكن تلك القصيدة وتلك اللمحات وأشباهها تبقى مثل واحات صغيرة سرابيّة في صحراء من السخط واشتعالات الغضب، تتغلغل في كل قصيدة، وهي التي تجعل الشاعر يستشرف ما ستجره من كلام واتهام، ولعل ذلك ما حدث فعلاً: ”سيُقالُ مأجورٌ/ وكافرُ نعمةٍ/ هو كيفَ يقذِفُ خُبزةً بحَصاةِ؟/ سيُقالُ/ ثمَّ يُقالُ ثم يقال../ لا حرجاً على خاوٍ بِليلِ حُفاةِ“ ص٣٩.

 

وبتأثير نار الغضب المحتدمة نفسها لا يعِدُ الشاعرُ قومه بالحياة والخير؛ بل يتوعدهم بالعكس: لا ماء في النهر/ خذ يا غيمُ من قلقي/ أمطر على القرية المنثورة الشعرا/ (أو زِدْ عليهِ ورتّل)/ إذ تمرُّ بها/ والقومُ صفّاً على أبوابها الصغرى/ سأحفرُ الأرضَ/ لن أبني لكم مُدُناً/ ما أحوجَ الأرضَ أن تحويكمُ قبرا“ ص٤٦.

 

بكل هذا السخط يكشف الشاعر الذات الجمعية، ليصل إلى جواب من نحن ؟ ص١٥٩: ”من نحن؟/ يا خيبةً كبرى/ سوى ترف على الحياةِ/ فما أغنت بنا بلدُ/ يعوي بموكبنا قحطٌ ويأكلنا قحطٌ ولا مطرٌ بالبابِ يا حمدُ/ وكل ماءٍ تأبطناهُ ذاتَ جوى أمسى يباباً فلا موجٌ ولا زبَدُ“ وينمو السخط الموجه لوضع البلاد ويكبر: ”في البلاد التي يعتريها السأم تصبحُ اللا نعم“ ص٢٠٠، حتى يتجاوز حدود البلاد، وفي مراحل نمو ذلك السخط يسجل محطاته النفسية أو الشعرية، فيوثق لحظة الانقلاب بشعور النهاية أو القيامة مستعيراً رموز المنتهى كالسدرة: ”فإن سألوكَ غداً عن غدٍ/ قُل لهم/ سدرةُ المنتهى تلكَ في المُعتَقل!“

 

هو اشتعال مضطرم وحريق لا يتوقف، فبعد أن تحث القصيدة الشاعر نفسه، على طلب الخلاص أو الرحيل: ”لا ربّ لكْ/ لا ربعَ لكْ/ إلاكَ فاحزم مُجملكْ/ أنتَ احترفتَ النارَ/ فاحترقوا/ وقالت هيتَ لكْ“ نجد القصيدة في نص آخر تصف حال الشاعر في الغربة: طُرقٌ تؤدي في نهايتها/ إلى طرقٍ/ ولستَ سوى نفق “ص١٧”، ويتحول استعراض الحانة في قصيدة (حانة ببرمنت) من ابتدائه بالتغزل في جمال الساقية، إلى تصوير الذات اليائسة من الوطن: ”في الحانة لا يعنيكَ سوى كأسك/ والوطنُ القابعُ في أقصى اليأس/ وساقيةٌ شفتاها عطشى/ واللهُ/ وذاتك/ والمتبقي من شجنِ الليل على الأزهار“ ص٦٢.

 

تستغرق الذات في اشتعالها وجودها وما حوله، وتسجل حتى التردد الشفاف الذي تستوي عنده الجهتان ”فما أنت إلا كلوحِ زجاجٍ ملون/ على بابِ صانعهِ ينتظر/ فإما الكنيسة أو مدخلُ البار“ ص١٩٤ وتتبرأ الذات من ذاتها: ”أيها المستعير سواك/ أعرني سوايَ فإني، وقد سبقَ الوعدُ، مني بريء“ ص١٥٦ لكنها مجرد محطات مؤقتة؛ لأن الغضب على الذات يصل حدودًا متطرفة عنيفة: ”كُلْ سخطك وانتعل لحظتك وتقيّأ على أولِ وجهٍ تقابلهُ في المرايا/ وقل: أنتَ من ورطك“ ص٥٣.

 

هكذا يعود نص القصيدة لينقلب بعد أن أشعل أهدافه؛ ليقع في دوامة تدمير وحريق ذاتية بضربات متتالية عنيفة كالصخر: ”ربي الحجر/ فليتَ القصائدَ قُدَّت من الصخر“ ص٢٢٧.

 

ثم تأتي الحيرة كمشهد ختامي على الأرض المشتعلة ينقضّ حتى على ذاته ومشروعها بسخرية مريرة لا يرتجى معها قطرٌ ولا ماء: ”أي قطرٍ يُرتجى من قانطٍ أيها النابضُ بي بالحيرةِ؟“ ص٢٤٢، لذلك ”لا ماء في النهر“ وإنما نار.

 

ذلك أن اليأس من وضع البلاد جزئياً هو سخط على واحدٍ من أسس الذات؛ لذا لا شك أن الطريق سيبلغ الذات ويشعلها بنار السخط الناقم الغاضب، وبعد أن ينتهي من التدمير الشعوري لكل ما حوله وإفنائه يواصل طريق فنائه الذاتي وينهي وجوده الشعوري النفسي بالأدوات نفسها.

 

من الملاحظ أيضًا أن قصائد (لا ماء في النهر) تكثر من الروي الساكن والحركة الساكنة لقوافيها، كأن إيقاع السكون محاولة رسوخ أو ثبات وسط الحريق والعاصفة أو مرساة، أو كأنه الميناء المنشود، والقصائد عمومًا مولعة بالإيقاع، كأنها تبدأ به تتبع إغراءه وهو يقودها لتوشي إيقاعاته بالمعاني وتتبعه حيثما أراد؛ لذلك نعثر أحيانًا على قصائد مضبوطة الإيقاع من شدة افتتانها به تُقصر في الالتفات لجلاء المعنى؛ فيأتي باهتًا غير واضح، كما في نصوص عللاني ص٧٨ الشيء ١٠٤ القربان ٨٩.

 

تعطي هذه المجموعة الشعرية نصيبًا وافرًا من العناية بالحب وقصصه؛ ففي نص (بعد غد) نرى حالة الطيران العاطفي بأجنحة القلب إلى الحبيب وأرضه، أو في نص ”ماذا يريد الضوء منا“ نجد انصهار العاشقين في حمى الوصال مصورًا باهتياج قوي تحمل القصيدة توقيعاته المتهتكة عمدًا؛ لكن كذلك نجد أن الجوّ الساخط يؤثر حتى على أشجار الحب تلك، فهو دومًا حبٌ مهجور، تتوعده حبيباته بالدمار: ستخيفكَ المدنُ التي أحببتها/ وتشيخُ أسمالاً على أسمالِ. ص٤٨، يصبّر نفسه على مر الفراق: ”لا تستمع للشجر/ والليالي/ ستغنيكَ أوراقُها عن ليالٍ أُخر/ تنزّل/ لوحدكَ ..لا الصبر يرضيك/ لا الخمرُ/ لا الشعر/ لا الترَّهاتُ النذُر/ إلهاً عرفتك../ مالك؟!/ ما العشقُ إلا بشر!/ وإن تاهَ فيك الطريقُ إلى اللازورد/ اعتكف../ كُن حجر“ ص١٤٨ وتخاطبه الحبيبة بالكراهية: قالت كرهتكَ/ بعدما كنتَ المدللَ والمُهابا/ ما عادَ في قلبي هوىً/ يشدوكَ/ فاستجدِ السرابا. ص٢١٢، وهو يطرد الرفيق كما في قصيدة اذهب: لستَ ترغبْ/ في الذي مني تبقى/ سيدي.. حتى أنا/ لستُ بالراغبِ فيمن ليسَ يرغب. ص١٨٦، يعالج جروحه بالسكوت كما في نص ولا: ولا تتكلم/ إذا باء قلبُ حبيبٍ بغايتهِ عنك/ مثلك يا سيدي كان يعلم/ بأن الهوى نصفهُ كاذبٌ/ وأروع ما كان في الحبّ أبكم! ص١٩٣ وفي خطاب الهجران يحاول هدهدة كبريائه لكن صورة المشهد الأخير تأتي غاضبة حانقة هكذا: ولننسحب بهدوء ثانيتين/ ظلاً بعد آخر/ إنّنا هذا الغيابُ/ وقد تأبّطَ حانقاً، أبدًا، غيابه. ص١٩١.

 

كذلك تأخذ الخمريات نصيبها من مجموعة (لا ماء في النهر) كما نجدها في قصيدة: سيدة السكر ص١١٧، وقصيدة زجاجة ومريد ص٢٢٨، وفي الختام يختار الديوان الساخط الناقم اليائس نهاية لائقة بحجم حرائقه: ما لهذي الأرضِ لا تسمعنا وإذا أذَّنَ نأيٌّ صَلَّتِ/ بين يأسٍ مَلَّ مِن إيوائنا وأسىً فاضَ غِنَىً عن حاجَةِ/ أقفَلتْ أبوَابَها مَلعُونةٌ كلما أكثرَ وصلٌ قَلَّتِ/ سكنتنا مُدُن الريحِ ألا فاتحاً يجتاحُ سُجنَ اللّعبةِ؟! ص٢٤٤.

أدب الثامن والثمانون

عن الكاتب

إبراهيم بن سعيد