الفقير دمير

كتب بواسطة فاطمة بنت ناصر

الفقير دمير[1]

 

غالباً ما نردد الأمثال دون الاكتراث إن كانت صادقة أو إنها مجرد أقوال تناقلتها الأجيال. والحقيقة أن هناك أمثالًا صادقة؛ بل إن هناك أبحاثاً علمية تدعمها كالمثل أعلاه. فالفقير الذي غالباً ما يشار إليه بأنه على الرغم من فقره إلا أنه ( ما راحم نفسه) ونعني بذلك أنه يتخذ قرارات غير حكيمة رغم وضعه المزري؛ فهو قد لا يحسن تدبير ماله رغم حاجته القصوى إلى حسن الإنفاق ليسير شؤون حياته، فمثلاً نراه ينفقه على السجائر أو على غير الأساسيات، وينسى حاجاته الأساسية، والأمر لا يقتصر على الأفراد؛ فحتى البلدان الفقيرة نراها تتخذ مسارات لا تناسب واقعها، فنرى بلداً فقيراً غارقاً في الصراعات و الاقتتال الداخلي رغم ثراء أرضه بالموارد.

فما قول العلم في هذه الظاهرة ؟

 

الجانب النفسي : هل الفقر هو السبب في المشاكل السلوكية؟  أم المشاكل السلوكية هي التي تسببت في الفقر؟

 

منذ عام ١٩٩٣ تقوم الباحثة جاين كوستيلو Jane Costello من جامعة دوك ببحوث تستقصي السلامة العقلية على أطفال من منطقة جرايت سموكي ماونتنز بالولايات المتحدة الأمريكية. ينضم سنوياً إلى اختباراتها النفسية ١٤٣٠ طفلًا. وقد أظهرت النتائج التراكمية لهذه الاختبارات على مدى السنوات أن الأطفال الذين يعيشون في حالة فقر هم أكثر عرضة للمشاكل السلوكية من أولئك الميسورين. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد؛ فبعد قيام مشروع ساهم في انتشال الكثير من العوائل من مستوى الفقر لاحظت الباحثة تحسناً سلوكياً بنسبة ٤٠٪. وهذه النسبة كبيرة وتستحق الوقوف عندها، فأغلب المعتقدات السائدة حينها كانت تقول إن المشاكل السلوكية مرتبطة إلى حد كبير بالموروثات الجينية، غير أن هذه النتيجة تظهر العكس، وأن الثقافة المحيطة بالإنسان التي يفرضها وضعه المعيشي ساهم إلى حد كبير في تدهور سلوكيات الأفراد. وخلصت الباحثة إلى ما مفاده أن الطبيعة وما تحمله من موروثات جينية، والثقافة بما تحيط به الأفراد من مؤثرات يساهمان سوياً في جعل الأفراد يصابون بالعلل السلوكية والنفسية؛ غير أننا لا يمكننا تغيير الطبيعية وجيناتها، ولكن يمكننا تغيير الثقافة وتحسين مستوى المعيشة.

 

أبرز تأثيرات المال في العوائل الفقيرة

 

لاحظت الباحثة أن تحسين مستوى المعيشة أثر بشكل كبير في سلوكيات الأطفال والآباء على حد سواء . وهذه كانت أبرز النتائج:

– انخفاض معدل الجريمة بشكل كبير في الأحياء التي كانت تعاني من الفقر.

– تحسن سلوكيات الأطفال.

– تخفيف حالة الضغط والتوتر على الآباء الذين كان التفكير في كيفية كسب لقمة العيش همهم الأول، وأصبحوا يقضون وقتاً أطول مع أطفالهم عوضاً عن حالة اللهاث المتواصل لطلب الرزق.

 

 

 

“اصرف ما في الجيب .. يأتيك ما في الغيب” [2]

 

مثل آخر تثبت الأبحاث العلمية صحته، ويرتبط بسلوكيات الفقراء ومحدودي الدخل. فالأمر غير مقتصر بصرفهم للمال أولاً بأول وغياب ثقافة الادخار؛ بل إنه يتعدى ذلك بإنجابهم المتواصل للأطفال دون الأخذ بعين الاعتبار ما يحتاجه هؤلاء الصغار من رعاية أو من مدخرات تعينهم في مستقبلهم الدراسي والمعيشي. فالفقير سيئ في إدارة مستقبله، وفي وضع الخطط طويلة المدى؛ ولكنه يبرع في شيء آخر وهو الحلول قصيرة المدى، والخروج من الأزمات الآنية وإيجاد حلول سريعة لها، وهذه الحلول السريعة ( كاقتراض الأموال) تزيح همومهم اليومية؛ ولكنها تجعل مستقبلهم أكثر سوءاً. حالة الفقر هي ما جعلت قدراتهم العقلية تقتصر على المدى القريب، وأن التخطيط للمستقبل هو بالنسبة لهؤلاء شيء مؤلم لبعد أمانيهم عن التحقق وعدم قدرتهم على جعل تلك الأحلام واقعاً ولو عملوا ليل نهار. وقد قدم  بحث نشرته -الجمعية الأمريكية للتقدم العلمي- وجهة نظر تدحض الادعاءات بأن سوء تدبير الفقراء للمال يعود إلى إصابة معظمهم بعيوب عقلية وسلوكية، أو أنهم يفتقرون للمهارات اللازمة لحسن التدبير المالي. البحث قام به علماء من ثلاثة فروع علمية : الاقتصاد وإدارة الأعمال وعلم النفس. وقد أخضعوا فئتين من الفقراء و الميسورين لعدد من الاختبارات عن طريق ألعاب تقنية، فمنحوا فئة  قدرًا كافيًا من المال، ومنحوا الفئة الأخرى مبلغاً بسيطاً جدًا، وانتظروا  كيف سيتدبرون أمورهم. ما حصل هو أن الفقراء مارسوا الإستراتيجيات ذاتها التي يمارسونها في واقعهم؛ فأنفقوا مالهم بسرعة كبيرة. وقام الباحثون بإدخال ميزة الاقتراض في اللعبة؛ ليمنحوا أولئك الذين خسروا أموالهم فرصة أخرى لمواصلة اللعب. وما حصل أن الفقراء كانوا أكثر المقترضين رغم ارتفاع نسبة الفائدة لهذه القروض. فلاحقتهم الخسارة في الحالتين.

وما خلص إليه الباحثون أن تقديم المشورة للفقراء غير كافٍ ليغيروا أنماط عيشهم وإنفاقهم، وإنما الأحرى هو إخراجهم من حالة الفقر، ثم تقديم المشورة لهم وإمدادهم بالمهارات اللازمة لإدارة نمط عيشهم الجديد. فتقديم النصح والإرشاد للفقراء وهم ما يزالون يعيشون في حالة الفقر؛ لا جدوى منها والأحرى إخراجهم من الفقر أولاً.

 

 

سيكولوجيا العوز و الحاجة

 

الحاجة أو العوز لا تقتصر على المال؛ ولكن أثرها واحد دائماً. فقرارات الفقير الذي يحتاج المال تشابه قرارات المحروم من الأكل أو النوم. الحرمان من أي شيء يجعل قدرة العقل في اتخاذ قرارات حكيمة أقل بكثير عن قدرة العقل في حالة الاكتفاء والشبع.

ويستعرض كتاب   Scarcity: Why Having Too Little Means So Much   عدداً من الأمثلة المثيرة التي قامت على أبحاث علمية ومنها :

– إحراز المحتاجين للمال نتائج منخفضة في اختبارات الذكاء مثل أولئك الذي حرموا من النوم.

– محدودية نطاق التفكير. لماذا الكثير من الفقراء لا يرسلون أطفالهم إلى المدارس، لماذا لا يبالون بغسل أيديهم أو طعامهم ؟ لماذا يستدينون أكثر ويدخرون أقل ؟ لماذا ينجبون أكثر ؟ لماذا يدخنون أكثر ؟ كل هذه الأسئلة يجاوب عليها الباحثون في هذا الكتاب ويقولون إن الحاجة والفقر يؤثران على القرارات التي يتخذها العقل؛ فيعاني معظمهم من محدودية نطاق التفكير وعدم القدرة على استقراء العواقب والآثار المستقبلية لقراراتهم اليومية الخاطئة.

كيف يساعد الفقير نفسه إذا كان غير قادر على التفكير السليم ؟

 

بالقرارات اليومية الخاطئة التي يتخذها الفقير ليشكل بها حياته نرى أنه يغرق أمامنا في وحل الفقر أكثر. فمن يستطيع مساعدته إن كان فعلاً غير قادر على التفكير السليم بسبب الضغوطات التي يفرضها عليه فقره ؟ ومن المؤسف أن ما يحصل عليه الفقير اليوم هو المزيد من الضغوطات والقلق بشأن قوت يومه، فنرى أسعار البترول ترتفع بعد انخفاض الدعم الحكومي لها ، كما أن الأخبار التي تحيط به لا تخفف من وطأة ضغوطاته المادية بل تزيدها سوءاً؛ فالمستقبل يعده برفع الدعم الحكومي شيئاً فشيئاً عن الكهرباء وغيرها ، وفرض- ما يسمونه الرسوم- على بعض الخدمات غير أن أسمها الصحيح ( الضرائب) التي يجب أن نستخدم اسمها الصحيح عوضًا عن تغليفها، ومذاقها في المرارة واحد. الحكومة لم تغفل عن هذا كله؛ بل خصصت مشكورة مبلغاً هائلاً لمستحقي الدعم يخفف عنهم آثار ارتفاع أسعار البترول التي نرجو جميعاً أن تتم إدارتها بالشكل الصحيح والعادل. أما الشعب فدوره أن يكون أكثر وعياً وأن يزيد تكاتفه وتضامنه بعضه مع بعض. فلا تكون مساعداته للمحتاجين مقتصرة على منح المال؛ فهو- كما قلنا، وكما أثبتت الأبحاث – لن يغير من الفقير، ولا من فقره شيئاً، وإنما عليه أن يحسن معيشة هؤلاء الفقراء و البيئة المحيطة بهم عن طريق أوقاف عامة، قد يعمل فيها الفقير، وقد تكون مصدر رزق جيد له ودائم، يرفعه من مستواه ولو بدرجة؛ فهذه الدرجة بلا شك تسهم في رفع مقدرته العقلية ليصبح أكثر حكمة في تصريف أموره، وهي كذلك تخفف من حدة الضغط الذي يسببه فقره ولهاثه الدائم نحو لقمة العيش؛ فيعرف حينها أن الأرزاق مقسمة، ولكنها لا تسقط من السماء، وهي مقدرة بحسب اجتهاد المرء وحسن تدبيره، وأن الأولاد رزق كذلك يجب المحافظة على قسمتنا منه دون إكثار يلحق الضرر بالعائلة والمجتمع ككل. فهل قدرتنا على تربية ٦ أطفال هي نفسها التي تخصص لـ ٤ أو ثلاثة؟! هل جائز أن نرى الشارع هو المربي الأول لأطفالٍ تعاني عوائلهم من قلة الموارد والوقت لتربيتهم؟

 

هنا أتوقف مذكرة إياكم ونفسي بأن ( الفقر كافر)  جاحد لنعم الرب؛ لأنه لا يستطيع تقديرها حق قدرها وأن علينا جميعاً أن نتعاون من أجل انتشال الفقير من قدر لم يختره، ولكنه مجبر أن يدفع ثمنه الباهظ.

 

______________________________

قائمة المصادر :

https://qz.com/964920/data-show-poor-people-make-better-financial-decisions-if-they-live-in-one-kind-of-place/

https://thecorrespondent.com/4664/why-do-the-poor-make-such-poor-decisions/179307480-39a74caf

https://phys.org/news/2012-11-poverty-people-focus-short-term.html

https://www.theguardian.com/books/2013/sep/07/scarcity-sendhil-mullainathan-shafir-review

 

[1] مثل عماني

[2] مثل عربي

 

*ملاحظة: مصدر الصورة هو موقع رويترز

العدد التسعون ثقافة وفكر

عن الكاتب

فاطمة بنت ناصر

كاتبة ومترجمة