قطب المعشوقين

كتب بواسطة أمامة اللواتي

 

بداية الشرر

بعد إنقطاع دام ما يقارب السنتين من القراءة الجادة، كنتُ أشعر بارتباك بالغ وأنا أقف أمام أرفف إحدى المكتبات أبحث عن كتاب واحد فقط يمكنه أن يطفأ ظمأ السنوات التي مضت، ويجدد إكسير الشغف في داخلي. أؤمن تماما بأننا يمكن أن نحيا بقليلٍ من الأمنيات، لكن إن فقدنا الشغف فيما نقوم به فإننا قد نتنازل عن كفاحنا الخاص، ونفقد بهجة الحياة من حولنا.

مررتُ أمام هذه الكتب المعروضة عدة مرات ولكن في كل مرة كان هناك انصرافٌ متعب وصبرٌ ذاوٍ يحملني بعيدًا ويحفر فجوة تلو أخرى في قلبي فأجد أن لا جدوى من العودة إلى القراءة من جديد. لم تكن قصص الحب والغرام المُغلفة تحت أسماء جذابة تستهويني، ولم أكن بحاجة أيضا – كما اعتقدتُ- إلى معرفة أي قواعد تتعلق بالحب، فالأقدار دائما بالمرصاد ولا تُجدي أمامها أي قواعد محكمة. أيضا لم يكن اسم الروائية التركية إليف شافاق[1] قد طرق مسامعي من قبل، لذلك لم أجد في عنوان (قواعد العشق الأربعون) إلا فخاً جميلا يحمل عنوانا مغريا لرواية عن الحب والغرام وربما شذراتٍ من ألف ليلة وليلة. لكن العنوان الثانوي الذي جاء تحت العنوان الرئيس وهو (رواية عن جلال الدين الرومي) جعلني أعاود تصفح الرواية، ربما لأني أولعت في فترةٍ ما بقراءة السير الذاتية لشخصيات اُشتهرت بعد أن كانت مغمورة. غير أن انجذابي للاسم كان حاسماً، ولم أكن حينها أعرف من هو جلال الدين الرومي، ولكنه كان شعورٌ مشابه لغريب يقف أمام غريب فيشعر بمحبةٍ وتعلق فوري تجاهه، وهو شعورٌ اختبرتهُ سابقا وأنا أقف مطولا مأخوذةً بلوحةٍ فنيةٍ لفتاةٍ ذات عينين واسعتين، ترتدي قبعة حمراء في معرض فني بمدينة هيوستن الأمريكية، كانت حالة من التماهي والذوبان مع لوحةٍ للفنان الهولندي Van Dongen ، فهل ترانا نغرق في محبة وتفاصيل الأشياء التي تماثلنا روحاً، أم ” أن ما نبحث عنه يبحث عنّا” كما يقول مولانا ؟

ككل الروايات التي أحببتها من قبل والتي كانت تطاردني بأحداثها وشخصياتها وحبكتها بدأت هذه الرواية تطاردني، الشعور السلبي الوحيد الذي انتابني حيالها كان إقحام الروائية لقصة متزامنة عن شخصية الكاتبة إيلا المعاصرة، تلك الكاتبة التي تراجع عملا أدبيا لأحد وكالات النشر، لم أجد في شخصية إيلا ما ربطني عاطفيا إليها. لكن بعد الرواية زاد فضولي لمعرفة تلك الخطوط الفاصلة بين الحقيقة والخيال في أحداثها وشخصياتها، وإلى أي مدى لهذه الأماكن والأسماء والأحداث وجودٌ واقعي؟

يقول فريد الدين العطار[2] (اعبر الظل)، وكانت الخطوة الأولى في عبوري لهذا الظل حين كنت في زيارة خاطفة لبيروت، هناك في ركن مهمل من إحدى مكتبات بيروت كان يقبع كنزي          (المثنوي). وخلال الشهور المنصرمة واظبتُ على قراءة المثنوي حتى أصبحتُ لا اقرأ كتابا سواه، ولم أكن أخلد للنوم من غير أن أبحر فيه. وقبل نهاية العام 2016 كان خطوتي الأخرى باتجاه النور حيث كان لقائي بمقام جلال الدين الرومي في مدينة قونية التركية. وكلما كانت قراءاتي عن جلال الدين الرومي تتكثف وتتوسع كنت أعبر هذا الظل وأصبح أكثر في النور، ويبدو أن عبورنا لهذا الظل يتوقف كثيرا على لحظة العبور والحالة التي عبرنا فيها، ولذلك تختلف درجة تعلقنا وفهمنا لجماليات أشعار مولانا جلال الدين الرومي. في كتاباته وجدتُ ما يمكن أن يكون شفاءً للقلوب المحزونة، نفحةً من الإلهام لمن لديه الشغف بالكون والوجود، ولمن يبحث عن التناغم والتآلف بين مخلوقاته، كلمات مولانا لوحاتٌ فنية ومزيجٌ من الموسيقى المدهشة، هي للباحث وطالب المعرفة أجوبة، وللباحث عن زاد الروح هناك زادٌ لا ينضب، بالنسبة لي كان مثنوي جلال الدين الرومي شفاءٌ وإلهام ومزيجٌ من الجمال الذي كنت أنشده في الحياة.

يضم القسم الأول إضاءات من سيرة حياة مولانا جلال الدين الرومي ومؤلفه الأشهر المثنوي المعنوي، في حين يضم القسم الثاني على مقالٍ عن رحلتي إلى مدينة قونية، وصورا متفرقة من أماكن ذات علاقة بحياة الرومي في هذه المدينة ذات الروح الصوفية الخلاّبة، ويتناول المقال أهم المعالم التي زرتها في قونية خاصة ما يتعلق منها بحياة مولانا جلال الدين الرومي، ويضمّ القسم الثالث مجموعة من النصوص الشعرية التي كتبتها لمولانا الرومي وتلك التي نثرتها حين كنت أخطو إليه بقلب لا يكف عن التغير، والتبدّل، والارتحال.

أما القسم الرابع، فيضم مختارات من كتاب المثنوي التي قام بترجمتها الدكتور إبراهيم الدسوقي شنا عن أصلها الفارسي الذي ظهرت فيه على شكل أبيات شعرية منظمة. يتكون كتاب المثنوي في طبعته العربية من ست أجزاء غنية بالقصص، والعبر، والأمثال، والحوارات الجميلة. وتختلط في المثنوي الأشكال الأدبية المختلفة، وقد تطول بعض قصصها وتتداخل أحداثها بحِكم وعِبر مختلفة، وقد تبدو بعض معانيها غامضة، ولذلك فقد تكفل المترجم بتوفير شروحات وافية في نهاية كل جزء من الأجزاء الست. وقد أردتُ من هذه الاختيارات الشخصية التي انتقيت لها ما يناسبها من عناوين، أن أبرز تلك المقاطع التي أثرت فيّ أكثر من غيرها، ولتكون مرجعاً مصغراً يسهل على القارئ الاطلاع على بعض جماليات شعر المثنوي، غير أن هذه الاختيارات لا تغطي إلا جزءا يسيرا من جمال الأجزاء الست جميعها.

 

_______________________________

[1] إليف شافاق Elif Şafakروائية تركية من مواليد 25 أكتوبر 1971 ستراسبورغ، و نشر لها أكثر من 12 باللغتين التركية والإنجليزية، ثمانية منها روايات، وصدرت روايتها الشهيرة قواعد العشق الأربعون في الولايات المتحدة عام 2010، وأصبحت هذه الرواية من أكثر الكتب مبيعا في تركيا، وقد  ترجمها إلى العربية خالد الجبيلي فيما ترجمت  مجمل أعمالها إلى ما يزيد على ثلاثين لغة. تشغل حاليا منصب أستاذة محاضرة في مادة الدراسات والأجناس في جامعة أريزونا https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A5%D9%84%D9%8A%D9%81_%D8%B4%D9%81%D9%82

 

[2] فريد الدين العطًار أو عطًار نيسابور يُعد فريد الدين العطار وسنائي الغزنوي وجلال الدين الرومي من أعلام التصوف الفارسي. ويرى الدكتور بديع جمعة (العطار،2015) أن الغموض يكتنف اسم وحياة العطار ولكنه يرجح أن يكون اسمه الكامل (فريد الدين أبو حامد بن أبي بكر إبراهيم بن أبي يعقوب إسحق العطار). وغلب عليه لقب العطار منذ كان يعمل عطارا (صيدليا) ويملك دكانا للعطارة. وُلد العطار في مدينة نيسابور بإيران حاليا ودفن فيها وأصبح قبره مزاراً معروفا، ويرجح الكاتب ولادته ما بين عامي 545 و550 هجرية، وكانت وفاته في عام 627 هجرية. نُسبت إليه الكثير من المؤلفات ولكن الصحيح منها تسعة كتب كما يذكر الدكتور بديع جمعة. اشتغل تسعاً وثلاثين سنة من حياته في جمع أشعار الصوفية وأقوالهم  في كتابه المعروف ( تذكرة الأولياء)، إلا أن كتابه الأشهر هو (منطق الطير) الذي يقع في قالب قصصي ممتع وقد عده بعض الباحثون من أعظم ما نُظم في الأدب الفارسي عامة وفي الأدب الصوفي خاصة. تُرجم كتاب (منطق الطير) إلى اللغات الفرنسية والانجليزية والألمانية والهندية والتركية.

أدب الثاني والتسعون

عن الكاتب

أمامة اللواتي