السينما الثالثة: أن يحرر المتفرج نفسه

ثابت خميس

قاومَ: يقاوم، مُقاومةً وقِواماً، فهو مقاوِم، والمفعول مُقاِوم؛ قاوم العدو: واجهة، وضاده “قاوم الإغراء⁄ الظلم⁄ البرد⁄ ميوله⁄ الحاكم المستبد⁄ الطغيان⁄ العدوان⁄ الهجوم⁄ الضربة – قاوم الرجال الحريق – 

بشراسة”.[1] كما تَرد كلمة  Résisterفي معجم لالاند الفلسفي بمعنى عاند، عارض حركة ما، بالمعنى الحقيقي أو المجازي ((قاوم أهواءه)). وتالياً، منعها، كبتها.[2] لطالما كان لوقع كلمة المقاومة أثر كبير في النفوس، ألهم الكُتّاب والشعراء والثوار على حد سواء. تكاد كل مرّة نجد فيها أنفسنا ـ راغبين كُنا أم مُجبرين. على مقاومة واقعنا فعلاً بطولياً، فما بالك حين يكون حقك الشرعي، ورد فعلك الفِطري بالمقاومة جريمة؟ 

يُعرّف المؤرخ والسياسي الغيّاني والتر رودني Walter Rodney في كتابة “كيف حدّت أوروبا من تطور أفريقيا” الكولونيالية بأنها “سياسة دولة تسعى لمد أو إبقاء هيمنتها على شعوب أو أقاليم أخرى، لأهداف اقتصادية بشكل عام.ومهما تنوّعت الذرائع والحُجج التي تبرر الاستعمار، فقد كانت المقاومة الشعبية أمراً لا مناص منه؛ وهو ما قد نجد أجمل تجلّياته السينمائية في فيلم معركة الجزائر (١٩٦٦) La battaglia di Algeri للمخرج الايطالي جيلو بينتكورفو Gillo Pontecorvo الذي أفلم نضال جبهة التحرير الشعبية في الجزائر ضد الاحتلال الفرنسي؛ ولعل أحد أهم العوامل التي جعلت من هذا الفيلم استثنائياً هو إثارته للسؤال الأخلاقي، إذ أظهر لنا بينتكورفو معناة أصحاب الأرض ومحتليها، كما وصفه الناقد السينمائي عبدالله حبيب: “فإن الثورة ليست بالرومانسية التبسيطيَّة التي تصورها بها الأفلام ذات التسييس الرومانسي والعاطفي الساذجين؛ ذلك أن الثورة، في الحقيقة، تودي بالأبرياء من الطرفين، حيث إن «الثورة ليست زوجاً من القفَّازات البيضاء الناعمة» على حد التعبير الشهير لماو تسي تونغ.”[3]

لقد كانت حقبة الستينات في الأرجنتين فترة مضطربة بسبب التغيّرات الاجتماعية والثقافية والسياسية، فمع تسنّم أرتورو فرونديزيArturo Frondizi  الرئاسة كأول رئيس منتخب بعد الانقلاب على حكومة خوان بيرون Juan Perón عام ١٩٥٥ كان الاعتماد الأكبر على أصول رأس المال الأجنبي لدفع عجلة الصناعة الوطنية، مما طوّر من قطاعي الخدمات والتجارة، لقد كان نوعاً جديد من الاستعمار هو “النيو-كولونيالية Neo Colonialism” وقد عنى به كوامي نكروماKwame Nkrumah الرئيس الأول لغانا المستقلة بأن بقايا الكولونيالية السابقة والقوى الجديدة الكبرى الصاعدة على المشهد العالمي مثل الولايات المتحدة ظلت تلعب دوراً حاسماً في مصير هذه الدول عن طريق تثبيت الأسعار في الأسواق العالمية، والشركات متعددة الجنسيات، والاتحادات الاحتكارية، إضافة إلى تنويعة من المؤسسات التعليمية والثقافية.[4] كتب في أواخر تلك الحقبة كلٌ من فرناندو سولاناس Fernando Solanas وأوكتاڤيو جيتينو Octavio Getino عضويّ جماعة غروبو ثيني ليبيراثيون في الأرجنتين مانيفستو (نحو سينما ثالثة Hacia un tercer cine) الذي كان أشبه بعريضة إدانة للنيوكولونيّالية والنظام الرأسمالي والنموذج الهوليودي للأفلام بصفته محض ترفيه وأداة لجني الأرباح.[5] لكن مما لاشك فيه أن هذا البيان كان أكثر من ذلك بكثير نظراً لانتشاره وتأثيره ليس فقط على البلدان الواقعة تحت الاستعمار وسينماتها بل حتى على سينما العدو كما يسمّيها المانيفستو.

يبدأ مانيفستو نحو سينما ثالثة بعبارة “يجب أن نناقش، يجب أن نبتكر” للكاتب المارتينيكي فرانز فانون Frantz Fanon(١٩٢٥ – ١٩٦١) الذي كان طبيباً وفيلسوفاً ومعالجاً نفسياً، استوعب فانون بعد إكمال دراسته في باريس وحصوله على الجنسية، بأنه لم يكن فرنسياً بما فيه الكفاية بنظر الفرنسيين بسبب بشرته السوداء ولا مارتينيكياً فعلاً بنظر المارتينيكيين لأنه يتصرّف ويتحدث بفكر العدو ولغته. يكتب فانون في كتابه (بشرة سوداء أقنعة بيضاء): “أن تتحدث لغة يعني أن تتخذ عالماً، وثقافة. يريد زنجي جزر الأنتيل أن يصبح رجلاً أبيض، وسيكون أكثر بياضاً كلما تمكن من الأداة الثقافية التي هي اللغة، بشكل أفضل.. تاريخياً، يجب ألا ننسى بأن الزنجي يريد التحدث بالفرنسية لأنها المفتاح الذي بمقدوره أن يفتح أبواباً كانت ما تزال محظورة عليه منذ خمسين عاما”. يمتد تأثير مانيفستو نحو سينما ثالثة لمختلف بقاع العالم لتظهر لنا مجموعة مميزة من الأفلام التي تمخّضت عن النضال ضد النيو-كولونيالية وما بعدها “ليس بالمقدور تنفيذ أي شكل من أشكال النضال الدولي بنجاح ما لم يكن ثمة تبادل خبرات مشترك بين الشعوب، ما لم تنجح الشعوب في التغلب على خطط البلقنة[6] العالمية والقارّية والقومية التي تسعى الإمبريالية جاهدة للإبقاء عليها.”[7]

+ ساعة الأفران (١٩٦٨) La Hora de los Hornos لـ فرناندو سولاناس Fernando Solanas وأوكتاڤيو جيتينو Octavio Getino (الأرجنتين):

يعدّ فيلم ساعة الأفران أقرب ترجمة مؤفلمة لمانيفستو السينما الثالثة، ليس فقط من الناحية التقنية والجمالية، إذ أن الكثير من نصوص المانيفستو مذكورة شفهياً وكتابياً في التعليقات المشهدية، فلقد ساهمت الطبيعة التوثيقية لهذا الفيلم الممتد لأربع ساعات وعشرون دقيقة بكل ما يفيض به من تراكيب إخراجية مشهدية mise en scene، في خلق مزاج يجمع بين الأفلام الإخبارية newsreels وشيء من الواقعية الإيطالية الجديدة. لقد كان استعمال كاميرا بعرض ١٦ و٨ ملم في التصوير أحد أهم جوانب التقشف الجمالي الثائر على أعراف السينما الأولى (الهوليوودية الفاخرة)، والنزعة الفنية للسينما الثانية (الأوروبية الفردانية)، يعزو الصحفي هوفيك حبشيان قوة فيلم ساعة الأفران بأن المخرج فرناندو سولاناس قد أقدم على تحليل ومحاججة الفكر الثوري بأدق تفاصيله وبالأسئلة المرتبطة به. أسئلة لا تهمل الجوانب التاريخية والاقتصادية والجغرافية للثورة الوشيكة التي كان يجب أن تحدث بلا تأخر من وجهة نظره.” [8] لقد كانت الكاميرا في يد المخرج وعامل المصنع وتارة مع البرجوازي المتواطئ بل حتى في يد العدو تارة أخرى، ساهم كل هذا إلى جانب إدخال الحوارات والموسيقا الشعبية والثورية والكلاسيكية بل حتى ضجيج الشوارع وأصوات البنادق وصفارات الإنذار في تحطيم أسطورة الفنيين الذين لا غِنى عنهم، إذ أن صناعة الأفلام عند ذلك الحد صارت أشبه بـ”حرب عصابات” كما يصفها المانيفستو.

يُظهر لنا ساعة الأفران كيفية صنع فيلم في ظروف معادية، يقتات على دعم الثوّار والطلّاب والبسطاء من الناس وتعاونهم، مما جعل من عملية عرض أفلام السينما الثالثة في تلك الفترة اجتماعاً للثوار، تدور من بعده مناقشة للأحداث المعروضة. فمثلما كان هدف الأفلام التحريرية في كوبا تدريب الشعب على التحرر ورفض الخضوع، ساهم فيلم ساعة الأفران في تحرير ذائقة المتفرج من “الاختراق الثقافي” إنه فيلمٌ مضاد لا يكون فيه مواطن العالم الثالث مستهلكاً للأيدلوجيا بل ناقداً وصانعاً لها، فليس من الغريب أن تصف الحكومات الديكتاتورية هذا النوع من الأفلام بـ”الأفلام التخريبية” لفرط واقعيتها وتتهمها بالتحريض على العنف، يقول فرانز فانون: “خارج إمكانية التعذيب والاغتصاب والمجازر. يكون التعذيب نموذج من نماذج العلاقات بين المستعمِر والمستعمَر”.[9]

لم يكن تصوير الواقع العاري وحده كفيلاً بتوصيل التأثير في أقوى صوره، فتوظيف المونتاج بشكل موّجه مهم للغاية، في كتابه عرض العالم: تأملات حول أنطولوجيا الأفلام يتحدث الفيلسوف الأمريكي ستانلي كاڤل Stanley Cavell عن القدرة الهائلة للمونتاج قائلاً: إن التطبيق الذي في ذهني هو تجربة كوليشوڤ[10] Kuleshov الشهيرة التي فيها نفس الإطار لوجه رجل يتغير منظوره اعتماداً على الصورة التي تسبقه. بازان Bazin، في جملة من الفقرات الجميلة عن هذا الموضوع، يَقلب هذه الحقيقة على ما اعتبر المعجبون بها بأنها تقوم بتأكيده، أي، جبروت المونتاج في سردية الأفلام.”[11] مثل المشهد الذي نرى فيه جثة تشي جيڤارا Che Guevara الميتة، بعينين خاويتين، بينما تستلقي محدقة في الفراغ وجموع القرويين تنساق لوداعه في مشهد مربك خالٍ من الموسيقا، كواحد من أقوى التراكيب البصرية المدروسة التي زخر بها هذا الفيلم.

+ ساعة التحرير دقت (١٩٧٤) لـ هيني سرور (لبنان):

ظهرت جبهة المقاومة في جنوب عُمان في مدّة حكم السلطان سعيد بن تيمور عام ١٩٦٥ بدعم من الاتحاد السوفيتي وبعض الجبهات القومية العربية في دول مثل اليمن والعراق وليبيا، كانت أهم مطالبها التحرر من السيطرة النيو-كولونيالية البريطانية على البلاد وعمل إصلاحات اجتماعية واقتصادية وسياسية واستبدال نظام الحكم بنظام ديموقراطي عادل ومنفتح على بقية العالم، في المقابل إلى جانب الإمبريالية البريطانية كانت الجمهورية الإيرانية تحت حكم الشاه من أكبر الداعمين لنظام الحكم السلطاني في عمان، وانتهت الثورة بعد خمس سنوات من تولي السلطان قابوس بن سعيد الحكم، إذ عمل السلطان على حلّ الخلافات مع اليمن الجنوبي الداعم الأول للثوار، وطلب وساطة الجامعة العربية والسعودية. كما يضيف جمال زكريا قاسم: “هذا التفاوت بين قاعدة المجتمع الظفاري وبين محركي الثورة هو الذي حقق للسلطان قابوس النجاح في قمعه لتلك الحركة التي كانت لا تتناسب مع طبيعة الإقليم المحافظة”.

لم يكن ساعة التحرير دقت، الفيلم الوحيد الذي تناولت من خلاله اللبنانية ذات الأصل اليهودي هيني سرور موضوع نضال المرأة في دولة تحت هيّمنة النيو-كولونيالية، فقد صورت عام ١٩٩٥ فيلم “نساء فيتنام” فزارتها بعد ٢٠ عاماً من الحرب، وعرضت من خلاله شهادات وتسجيلات لنساء وعن نساء شاركن في الحرب، كما صوّرت فيلم “ليلى والذئاب” عام ٢٠٠٨ وهو عبارة عن مزيج من المتواليات المشهدية الواقعية والمتخيلة لتاريخ النّضال السياسي للنساء الفلسطينيات واللبنانيات؛ تنهار فيه حواجز الزمن ويتداخل نسج الخيال مع الحقيقة بكل شِعرية وغموض. أكثر ما يميّز فيلم ساعة التحرير دقت هو تحقيقه للكثير من بنود مانيفستو (نحو سينما ثالثة) وقربه اللافت لفيلم ساعة الأفران، حتى من ناحية العنوان. في مقابلتها مع قناة بي بي سي نيوز العربية تُخبرنا سرور بأن ما شدّ انتباهها بشأن الثورة في إقليم ظفار كان ما قيل لها بأن المرأة هناك ثورية أكثر من الرجل، مما يتناقض تماماً مع ما قرأته في البحوث الأنثروبولوجية والسوسيولوجية التي تؤكد بأن المرأة ذات شخصية محافظة وأكثر ميلاً لليمين السياسي، ومع أن الفيلم قد أُنهيّ تصويره في عام ١٩٧١ إلا أن عملية إخراجه ومنتجته لم تنته إلا بعد ثلاث سنوات لتكون هيني سرور أول مخرجة عربيّة ولبنانية يترشّح فيلمها لمهرجان كان السينمائي.

كان للتوثيق بالصور الفوتوغرافية المصحوبة بتعليقات صوتية وكتابية حضور لافت في كل منعطف من العرض، ومع أنه من أبرز معالم أفلام السينما الثالثة وفق المانيفستو إلا أن الآراء تختلف بشأن تأثيره، إذ يعدّه الكاتب محمود عبدالرحيم أحد عيوبه: “كما أن المباشرة والصوت العالي سواء في السرد أو التعليقات كان مزعجا، وبدا كما لو كنا أمام عمل دعائي وليس فنيا يحرص على اللامباشرة والهمس وليس الصخب ولغة الشعارات، وتكون الصورة هي الأساس بكل ما تحمله من دلالات وطاقة انفعالية وفكرية وليس هذا الصوت الخطابي الزاعق”.[12] لقد كان لعلاقة الإنسان الظُفارّي بالطبيعة النصيب الأكبر من تصوير الحالة الثورية لكل فرد من تلك الكتلة البشرية علاقة بدأت هيني سرور بالتعريف بها باستعمال خريطة للعالم العربي يظهر فيها الجزء الجنوبي من عمان باللون الأحمر مكتوب عليه (المنطقة المحررة “ظفار”)، والتي تبين الخط الأحمر الذي كان يفصل بين ثكنات الأطراف المتحاربة، على وقع أغنية “ساعة التحرير دقت.. برّه يا استعمار” متنقّلة بين شهادات مذهلة بلغة عربيّة فصيحة تدل على وعي المناضلين من كل الفئات لطبيعة ما يحاربون لأجله، تقول إحدى المناضلات: “يجب على المرأة الثورية أن تناضل حتى آخر نقطة من دمها”. 

+ العنّة (١٩٧٥) Xala لـ عثمان سيمبين Ousmane Sembène (السنغال):

تعتبر الوُلوفية  Wolof لغة معظم سكان السنغال وبعض الأقليات في موريتانيا، ومع أنها تُكتب باللاتينية إلا أن الأبجدّية العربية هي أكثر رواجاً بين الناس، صحيح أن الفرنسية هي اللغة الرسمية في السنغال ولكنها فُرضت منذ العهد الكولونيالي واستمرت لما بعده. عنوان الفيلم (Xala: تُنطق خالّا) يُقصد به العنّة بمعنى الضعف الجنسي وهو العنوان نفسه للرّواية التي كتبها عثمان سيمبين عام ١٩٧٣ وعكس الفلمين السابقين يمثل العنّة مرحلة تنتقل فيها ظروف مانيفستو نحو سينما ثالثة من الوثائقي إلى الروائي، ينقل لنا سيمبين واقع المرحلة التي ترحل فيها الكولونيّالية شكلانياً وتبقى حاضرة في جوهر السلطة وذلك من خلال رمزية الرجل الأبيض الذي يلتزم الصوت والمتواجد دائماً خلف الشخصيات التي في مركز السلطة، المتمثل في قاعة اجتماعات غرفة التجارة بعد أن يضع أمام كل منهم حقيبة معبئة بما يبدو قدراً مُرضياً من المال. بمقدورنا القول بأن هذه الرّمزية تختصر الكثير عن الحالة النيو-كولونيالية.

يمثّل الحاجي عبدالقادر، أحد أعضاء غرفة التجارة نموذجاً حقيقياً للفساد الإداري فهو يقوم ببيع المساعدات الغذائية التي يفترض به توزيعها، ويتعامل بفوقية مع عامة أفراد الشعب، وحين يوشك على الزواج من زوجته الثالثة التي تصغره بشكل كبير، يعجز عن ممارسة الجنس معها في يوم الزفاف، مما يجعله يلجأ للمشعوذين لفك لعنة الخالا التي يشك أن زوجته الأولى أو الثانية قد ألقتها عليه ولكن ما من شيء يتحسّن ، نتابع الحاجي وهو يخسر أمواله وتتدهور تجارته، فتتركه زوجتيه الأخيرتين ويطرد من غرفة التجارة، في ظل كل هذه التحوّلات الدرامية يظهر المسؤولون عن هذه اللعنة فمن هم وماذا يريدون؟ ناقش الكاتب خالد إبراهيم مفهوم العنّة في الفيلم قائلاً: “ربط سيمبين المكانة المالية والاجتماعية بالذكورة، فحينما فقد الحاج قدرته الجنسية فقد مكانته وسط أقرانه، عندما استعاد قدرته لم ينجح في أن يستعيد مكانته لأن مجرد التشكيك في ذكورته أمر هائل بالنسبة لهذا النوع من المجتمعات، أحد النقاد أشار بذكاء إلى أن الحاج عندما تعثر جنسياً لم يلجأ للرجل الأبيض أو الطب الحديث، لجأ للمشعوذين والعلاج طبقاً للتقاليد القديمة، سيمبين يعتقد أننا لا بد وأن نفهم تقاليدنا قبل أن نحاول فهم أنفسنا”.[13]

يوّجه الفيلم نقداً لاذعاً وساخراً لبرجوازية الزيف والنزق والبطر ونماذج مقاومتها لا سيما في المشاهد التي يتشاجر فيها الحاجي بالفرنسية مع ابنته بينما ترد هي عليه بالولوفية وترفض شرب المياه المعدنية الفرنسية الباهظة اِڤيان evianبينما يستخدمها هو للشرب وغسيل السيارة وقضاء الحاجة، لطالما كان الاجتياح الثقافي والاستعمار التربوي من قِبل النواقل الإعلامية كالسينما من أهم طرق تحييّد المقاومة “تقوم النيو- كولونيالية بمحاولات جادة لإخصاء، وهضم، الأشكال الثقافية التي تنشأ خارج حدود أهدافها. تبذل محاولات لإزالة كل ما يجعلها خطيرة وفعّالة على وجه التحديد؛ إنها باختصار، تحاول أن تنزع عنها الطابع السياسي. بعبارة أخرى، أن تفصل المظهر الثقافي عن النضال من أجل الاستقلال الوطني”. [14] ومن هذا المنظور لا يخفى ميل سيمبين لتوظيف الموروث الشعبي والفنون الأفريقية من رقصات وموسيقا بل حتى الشتائم في القطع الأساسية من الفيلم[15]  وصولاً للمشهد الأخير الذي يُشترط فيه على الحاجي حتى يتخلص من اللعنة أن يتلقى وابلاً من البُصاق في مشهد فظيع.

+ مانيلا في مخالب الضياء Maynila, sa mga Kuko ng Liwanag لـ لينو بروكا Lino Brocka (الفلبين):

تعود سيطرة إسبانيا على الفيلبين لفترة المصالح الإسبانية ووصول فرديناند ماجلان Fernão de Magalhães‏ إلى جنوب شرق آسيا في عام ١٥٢١، والتي أعقبتها الثورة الفيلبينية في عام ١٨٧٢ ومن ثم الحرب الأمريكية الإسبانية عام ١٨٩٨ في كوبا والتي امتد أثرها لمستعمرة الفلبين وانتصار الولايات المتحدة، ثم الحرب الأمريكية الفيلبينية عام ١٨٩٩ التي آلت بهيمنة الولايات المتحدة على الأرخبيل عام ١٩٠٢ حتى حصلت الفلبين على استقلالها بعد الحرب العالمية الثانية. في تلك الفترة التي كانت البلاد تحاول لمّ شتاتها بعد سلسلة من الصراعات الكولونيالية الخارجية والتحزّبات الداخلية بين بقايا أنصار الشيوعية والحكومة التي تتحكم بها الولايات المتحدة، يسلط بطل الفيلم الضوء على مقاومة من نوع آخر، إنها أشبه بمعترك حياتي كل من فيه بريؤون ومذنبون، إنه تعاقب عشوائي في لعب دور الضحيّة والجلاد.

سواء كان العدو مباشراً أم النضال اليومي المعتاد للحصول على يوم آخر من وعد بالسعادة، صورة واقعية لمفارقة المقارنة بين الخاضع والثائر كما وصفها المانيفستو “من ناحية، فإن الكون البرجوازي الخيالي عامر بالراحة والموائمة، والعقلية النظيفة والنظام والكفاءة وإمكانية أن تكون “شخصاً”. ومن ناحية أخرى، ثمة الأشباح، نحن الكسالى والمتخلفون والقاصِرون، مفتعلي المشاكل. عندما يقبل أحدهم أن يصبح أسراً للنيو- كولونيالية، يصبح غونغا دين[16]، خادماً تحت إمرة المُستعمر، شبيها بالعم توم، مُنشقٌ طبقي وعنصري، مُغفل، عبدٌ سهل المراس، ريّفي، إلا أنه عندما يرفض قبول هذا الاضطهاد؛ فإنه يتحوّل لمتوحش حقود، آكل لحوم بشر”.[17] وهي تبرز في هذا الفيلم أهم تجليّات صورة الانسان في دول العالم الثالث وهو يقاوم قدره، متمثلاً في شخصية خوليّو الذي يصل من جزيرته البسيطة إلى العاصمة مانيلا بحثاً عن حبيبة طفولته ليجايا بعد أن انقطعت رسائلها وأخبارها بعد مغادرتها للدراسة والعمل، فنشاهد قسوة المدينة في إطار العادي واليومي، بين الأعمدة الكونكريتية التي يتساقط منها عمال السُخرة كأوراق الشجر دون أن يلتفت لهم أحد، والحد الأدنى (من الحد الأدنى) للأجور في ظروف غير إنسانية، يأخذنا خوليو للأحياء الفقيرة؛ بيوت لا أبواب لها ولا سقوف وأسواق شعبية يتجادل فيها الناس على الأسعار إن لم يتبادلوا الشتائم واللكمات، ولكن مثلما تستشري القسوة نجد الرأفة والطيبة في أبسط البيوت وأفقرها، من خلال فلتر بولارايد Polaroid المائل للصُفرة، وتوظيف الآلات موسيقية بسيطة لإيصال مشاعر قوية كالذعر والقلق والهروب، في حين لا تتورع الكاميرا المحمولة غالباً عن ملاحقة الشخصيات في مشاهد لا تحمل طابعاً زمنياً حدثياً بل شعورياً.

 قد يبدو كما لو أن العبرة الأخلاقية هي في اضطرار ليجايا بل وحتى خوليو لبيع أجسادهم ليتسنى لهم عيش حياة كريمة بلا جوع إلا أن لينو بروكا يوّضح لنا في المقابل الراحة والانسجام الذي يعيشه من يتكيّف وعيّه مع هذا الوضع ويتقبّله. لا يحاول بروكا توجيه أصابع الاتهام للنيو-كولونيالية أو الفساد الإداري أو حتى الشخصيات الشريرة في الفيلم؛ بل يصب جام غضبه على التنمّر الأيديولوجي واضعاً اقتباس الوضع الإنساني نصب عينيه، يمثّل هذا الفيلم نموذجاً مميزاً للسينما الثالثة في القالب الروائي.

لطالما كان إدراك وجود القيود، الخطوة الأولى نحو الحرية. فصناعة الأفلام بحد ذاتها قائمة على الشكوكية “إن الفيلم صورة حركية للشكوكية: ليس فقط أن هنالك إمكانية معقولة، بل حقيقة مفادها أن حواسنا العادية هنا يُشبعها الواقع بينما هذا الواقع غير موجود حتى، بشكل مُقلق، لأنه غير موجود، لأن عرضه هو كل ما يتطلب الأمر”. [18] والسينما الثالثة بمنظورها الحاد للواقع ورسالتها النضالية وتقنياتها وجمالياتها ما هي إلا استفزاز لشكوكية المتفرج ليعيد النظر في واقعه، وحقيقة أن للكولونيالية وجوهاً عديدة لا تقتصر على الهيمنة على الأرض والثروات، ومصادرة اللغة والثقافة، بل أيضاً فيما تمنحه من مزايا تخمد لهيب النضال في كل امرئ منا. فمَقدم السينما الثالثة كان يعني أن يتم فحص العالم وتفكيكه وإعادة اكتشافه. أن يصبح الناس شهوداً على دهشة مستديمة، شكلاً من أشكال الولادة الثانية. يستعيدون بساطتهم المبكرة وقدرتهم على المغامرة؛ لتعود قدرتهم الخاملة على الشعور بالسخط إلى الحياة”.[19]

………………………………………………………………..

المصادر والتعليقات: 

  1. معجم اللغة العربية المعاصرة، المؤلف: أحمد مختار عمر، الناشر: عالم الكتب – القاهرة، سنة النشر: ١٤٢٩ – ٢٠٠٨، صفحة ١٨٧٥.
  2. موسوعة لالاند الفلسفية، المؤلف: أندريه لالاند، تعريب: خليل أحمد خليل، تعهده وأشرف عليه حصراً: أحمد عويدات، الناشر: منشورات عويدات: بيروت – باريس، صفحة: ١٢١٤.
  3. مجلة ثقافات الإلكترونية، مقال: عندما يتكلم الآخر أو فيلم «معركة الجزائر» لجيلو بونتيكورفو، للكاتب: عبد الله حبيب، ١٣ سبتمبر ٢٠١٦.
  4. ملخص دراسة ما بعد الكولونيالية: مفهومها، أعلامها، أطروحتها. للدكتورة: مديحة عتيق، جامعة سوق أهراس، ص: ٢٣١.
  5. https://en.wikipedia.org/wiki/Third_Cinema
  6. Balkanisation: البَلْقَنَةُ مصطلح ظهر في نهاية الحرب العالمية الأولى لوصف التجزؤ الإثني والسياسي لمنطقة البلقان نتيجة انحلال الدولة العثمانية.
  7. من نص مانيفستو نحو سينما ثالثة.
  8. موقع اندبيندنت عربية، مقال: الأرجنتيني فرناندو سولاناس أسس سينما ثالثة بعيدا من أوروبا وهوليوود، للكاتب: هوڤيك حبشيان، ٩ نوفمبر ٢٠٢٠.
  9. معذبو الأرض، فرانز فانون، ترجمة: سامي الدروبي وجمال الأتاسي. دار الطليعة، ط٥، ١٩٨٤.
  10. 10-   ليڤ كوليشوڤ: Lev Kuleshov (١٨٩٩ – ١٩٧٠) مخرج روسي سوڤيتي وقد كان مُنظّراً ومن مؤسسي أول مدرسة سينما في العالم؛ مدرسة موسكو السينمائية، وقد استعمل المونتاج للتأثير على مشاعر الجمهور مما عُرف بتأثير كوليشوڤ.
  11. عرض العالم: تأملات حول أنطولوجيا الأفلام، ستانلي كاڤل، ترجمة: ثابت خميس، (سيصدر قريباً عن مؤسسة ترجمان ودار ترياق).
  12. موقع الحوار المتمدن، (ساعة التحرير دقت).. تأريخ لحقبة منسية لا يخلو من انبهار وابتسار، محمود عبد الرحيم، ٦ أكتوبر ٢٠١٨.
  13. مدونة مشاهدات سينمائية، مقالة Xala، خالد إبراهيم، 11 أكتوبر 2014. 
  14. من نص مانيفستو نحو سينما ثالثة.
  15. قطعة أساسية set piece : هي مشهد أو سلسلة من المشاهد التي يتطلب تصويرها إعدادات معقدة وتخطيطياً وإنفاقاً مادياً. غالباً ما يستخدم المصطلح على نطاق واسع في وصف تسلسل مشاهد يشرح فيه صانع الفيلم آلية تخطيطه للحصول على أقوى تأثير على الجمهور مثل مشاهد أفلام الحركة والخيال العلمي، كما يستخدم المصطلح غالباً لوصف المشاهد الأساسية في الفيلم والتي لا يمكن تحريرها أو تجاوزها في جدول التصوير دون أن تؤثر بشدة في الاستمتاع والتكثيف والتأثير وتذكارية العمل النهائي.
  16. غونغا دين Gunga Din: قصيدة تعود لعام ١٨٩٠ لروديارد كيبلنج Rudyard Kipling في الهند البريطانية، تُعرف بمقطها الأخير الشهير: “أنت رجل أفضل مني، غونغا دين”.
  17. من نص مانيفستو نحو سينما ثالثة.
  18. 18-  عرض العالم: تأملات حول أنطولوجيا الأفلام، ستانلي كاڤل، ترجمة: ثابت خميس، (سيصدر قريباً عن مؤسسة ترجمان ودار ترياق).
  19. من نص مانيفستو نحو سينما ثالثة.