حاوره: ثابت خميس
يتميز بالجِدّية حين يتعلق الأمر بالسينما، يتمتع بلغة رشيقة وسرعة بديهة وحس دُعابة لا مثيل لها. حين يحّكي عن الأفلام يذكّرنا بالحكمة الصينية؛ فالأمر أشبه بأنه (لا يعطينا الفيلم، بل يعلّمنا كيف نصطاد فيلماً!). قدّم للثقافة العربية في مسيرة عطائه عبر السينما والصحافة والإذاعة والتلفزيون والمهرجانات والمطبوعات، نموذجاً للمقاوم المثابر الذي يواجه شراسة الأقدار والظروف مقتفياً أثر الشغف فلا يلتفت للرفض والحواجز، استضافت مجلة الفلق في هذا الملف الناقد اللبناني محمد رُضا، حاورناه عن السينما والمقاومة بأسئلة متفرّقة قمنا بإعداد بعضها وجمعنا معظمها من جمهوره الكبير.
من يتتبع سيرتك الذاتية يجد أنك تنقّلت من مكان لأخر لتعلّم المزيد عن السينما بشكل، فأنت متمكن في الكثير من مجالاتها، فلماذا اخترت النقد السينمائي؟
أمام من يحب السينما عدة وجهات… يستطيع أن يحترف الإخراج أو الكتابة أو التمثيل أو التصوير إلخ… ويستطيع كذلك أن يبقى مُشاهدا متيّماً فقط. لقد تم اختيار النقد كوجهة من تلك الوجهات. لكنني في الواقع أقدمت على كتابة وإخراج أفلام قصيرة ضاعت عندما طار بها المموّل إلى أستراليا في مطلع الحرب الأهلية، حينها قررت أن أصبح ناقداً على أن أتحوّل للإخراج لاحقاً.
تعدّ صفحتك على منصة فيسبوك مرجعاً متميزاً للنقاش عن السينما؛ إذ يتابعك الكثير من محبّي الأفلام، كما أنك تجيب على أسئلتهم بكل رحابة صدر، ولكنك سبق أن عملت على الكثير من المشاريع وكانت لك الكثير من المبادرات، فهلّا أخبرتنا عنها.
أهم ما حققته عملياً هو رئاستي لمجلات سينمائية ثلاثة (فيلم، الفيديو العربي و«فاراياتي العربية») كما قمت بإنتاج وتقديم برنامج سينمائي على محطة mbc إلى جانب وضعي سلسلة كتب بعنوان «كتاب السينما» الذي لو أتيح لمؤسسة ثقافية عامّة أو خاصّة تبنيه لبنى للقراء العرب أفضل مرجع سينمائي عرفوه في التاريخ. كتبت أيضاً سيناريوهات بعضها نُفّذ وبعضها لم ينفّذ وعملت مستشاراً ورئيساً للبرنامج العربي لمهرجان دبي، ولكن بصراحة أهدرت فرصاً كثيرة وبالتالي سنوات مهمّة وذلك بسبب اختيارات خاطئة عندما امتنعت عن مناسبات عمل معتقداً بأن ما هو أفضل منها سيأتي.
رحل مؤخراً المخرج الأرجنتيني فرناندو سولاناس؛ أحد أعلام السينما الثالثة الذين صاغوا المانيفستو الشهير (نحو سينما ثالثة)، بعد مرور كل هذا الزمن على الكولوّنياليّة وما بعدها، هل صار الإنسان يقاوم استعماراً من نوع أخر؟ وهل باعتقادك أن أساليب مدرسة السينما الثالثة أو آثارها ما زالت حاضرة في الأفلام المعاصرة؟
في الأساس مرحلة «السينما الثالثة» في الستينات والسبعينات كانت مرتبطة بحركات سينمائية عدّة في مناطق مختلفة من العالم (السينما البريطانية الجديدة، الموجة الجديدة في فرنسا، السينما البرازيلية الجديدة، سينما الأندرغراوند ولا ننسى موجة السينما البديلة في بعض البلاد العربية). ما سعت إليه كل هذه الحركات هو تقديم بديل للسينمات المؤسسة تقليدياً والتي كانت عموماً ما تتبع نظيراتها من المدارس السابقة لها من الثلاثينات والأربعينات والخمسينات. مع التبدّلات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية التي عصفت بالعالم منذ الثمانينات تم تهميش التحركات الكبيرة وتحويلها إلى حركات فردية. نرى اليوم العديد من الأفلام التي تتحدث عن المجتمعات وتطرح أموراً كانت تشكّل نواة كل سينما ثورية في العالم، إنما بأسلوب فني ليس أقل حدّة. هناك معايير تجارية تحث أصحاب أفلام القضايا على إتباعها إلا إذا كان السينمائي من وزن روي أندرسن وجان-لوك غودار حيث لا أحد سيغيّر رأي المخرج في أسلوب سرده وعرضه للفيلم. أما المضمون فهو شائع لمن يرغب من دون اللجوء لتكوين جماعات. إن ما يقاومه المخرجون حالياً استعمارات حديثة وليس استعماراً واحداً. أهمها «الاستعمارات» التكنولوجيا التي تُغري بتداول مختلف لكل جانب فني أو تقني قامت عليه السينما وذلك بداعي التطور.
تتكرر في النقد الأدبي والفني وحتى السينمائي مقولات من قبيل أنه “كلما ارتفع صوت الأيديولوجيا في عمل ما خففت قيمته الفنية..” هل تتفق مع هذه المقولة؟ وأين ترى واقع السينما الثالثة بين الأيديولوجيا والعناصر الفنية؟
السينما كالحياة تستوعب كل القرارات والأشكال والأنواع والأنظمة الفكرية والثقافات المختلفة الخ… وثمة طرح لكل طريقة؛ أعني أن طرح المواضيع الأيديولوجية له طريقة بمقدوره من خلالها أن يغرف من الفن من دون أن يعلو منفرداً. السينما اللاتينية (تشيلية وكوبية وأرجنتينية على الأخص) عرفت هذا النوع ومارسته. ولا ننسى أيما كان الاختيار هناك الجيد والرديء حين التنفيذ.
ما رأيك بظاهرة انتشار المراجعات السينمائية على منصات التواصل الاجتماعي، والتي لا تتجاوز معظمها أن تكون انطباعات شخصية، وهل تقلل من قيمة وأهمية النقد السينمائي المُمنهج؟
ما يهدم النقد ليس هذه المنصات التي لا يعرف معظم من يقوم بها الفارق بين حرف الألف وعمود الكهرباء. فقد كان أمراً موجوداً في السابق إذ لطالما تعدّى على المهنة كتبة من هذا النوع. ما يهدد المهنة هو التقدم العصري الذي بات يتجاوز الكتاب والمجلة ونادي السينما وبل- في ظل الكورونا- حضور صالات السينما بذاتها… طبعاً في بلادنا العربية حالنا سيء منذ زمن بعيد.
تهيمن اليوم خطابات سياسات الهوية والأقليات على المنتج السينمائي الأمريكي لا سيما بعد دخول نتفلكس بأجندة ليبرالية أو يسارية إلى حد ما (حسب النموذج الأمريكي لليسار)، إلى أي مدى استطاعت هذه التمثيلات أن تخلخل الحدود بين السينما الأولى، الأوروبية، والثالثة؟
هناك سينماتان في الحضور وليس ثلاثة أو أكثر: سينما يأتي السرد أمامياً وهو بذلك السبب والهدف والنتيجة، وسينما يأتي فيها أوّلاً الشخصية والبحث فيها ودراسة وضعها. ونجد ذلك في السينما الأميركية والسينما حول العالم (الهندية والمصرية والإندونيسية والفرنسية والآسيوية والأفريقية والأوربية الأخرى). هاتان السينماتان هما الحاضرتان (ففي التفاصيل يبرز حضور بعض السينمات الأصغر شأنا وليس الأقل أهمية بالضرورة) المُهيمنتان. نتفلكس وأمازون وما جاورهما هما طريقة عرض للجانبين. الحسنة شبه الوحيدة هي إتاحتهما للمخرجين تحقيق أفلامهم كما يريدون (وهذا راجع لأن جمهور الإنترنت يختلف عن جمهور الصالة وما يفشل في الصالة أقل عرضة للفشل على الوسيط الجديد). لكننا نرى الآن، وخصوصاً مع انتشار كورونا، أن الميزان قد يتغير لصالح العروض المنزلية وتحاول الأستوديوهات تدارك خسائرها المحتملة بعقد اتفاقات لبيع منتجاتها أو مشاركتها بهذه الإنتاجات مباشرة مع شركات الإنترنت.
كيف تصف وضع السينما العربية بين الأفلام التي تنتجها بقية الدول؟ كما أنك ذكرتك في أحد منشوراتك على الفيسبوك مؤخراً بأن المخرجين العرب يختفون بشكل تدريجي!
إن الاختفاء التدريجي من نصيب السينما العربية وليس المخرجين فقط. الحال أن الوصول إلى المهرجانات (كبيرة أو-غالباً- صغيرة) بات مقصداً، لعل وعسى أن يكون هنالك من يشتري الفيلم ويوزّعه وهذا الشاري لن يكون عربياً. هل نلوم صانعي الأفلام العرب (منتجين ومخرجين) على ذلك؟ فمن أسس هذا التّوجه أن يُوظّف مدراء تصوير أو موسيقيين أو ممثلين أجانب في هذه الأفلام كونهم وسيلة جذب. مجتمعاتنا بحاجة إلى ثورات وفي مقدّمتها ثورة علم وثقافة. رأسمالنا جبان. المهرجانات التي كانت تجذب السينمائي العربي طمعاً في جوائز كبيرة توقفت. الحكومات تنظر إلى السينما كمطبخ طعام تتذوقه بحذر وتفضل عموماً الأكل خارجه… كيف يمكن لهذه السينما أن تبقى؟ نعم سيواصل ثلاثة مخرجين من هنا واثنان أو ثلاثة من هناك العمل لكن هذا أقل مما تنتجه لوكسمبورغ أو البرتغال من الأفلام.
ذكرت في مقابلة أُجريت معك في التلفزيون الكويتي عام ٢٠١٧ ضمن فعاليات مهرجان الكويت السينمائي الأول بأن معظم الأفلام العربية القصيرة في المسابقات والمهرجانات، تعاني من بعض التسرّع في طرح الفكرة وتطبيقها على حساب السرد أو تبليغ القصة؛ هل ما زالت هذه السمة موجودة؟ وكيف تصف مستوى الأفلام العربية القصيرة في السنوات الأخيرة؟
دائماً موجودة لكن المستويات عموماً باتت أفضل مما كانت عليه. هناك مواهب جيدة تدرك أنه حتى بالنسبة للفيلم القصير قد لا تأتي الفرصة إلا مرّة واحدة.
مع انتشار جائحة كورونا (كوفيد-١٩) ما هي أهم التغيّرات التي طرأت على صناعة الأفلام ومشاهدتها وهل تتوقع أن تعلن عن فترة جديدة من الأفلام التي قد تحمل سمات معيّنة في المستقبل؟
أهم التغييرات ذكرته في الجواب على سؤال سابق: صالات السينما وشركات الإنتاج خسرت ٣٢ مليار دولار في ٢٠٢٠ وفي المقابل ارتفعت إيرادات المؤسسات التي تعرض الأفلام لقاء اشتراكات في المنازل مباشرة. الحديث في هذا الموضوع قاتم ويؤلمني. تراني آمل في أن يعي الجمهور العريض أن صالات السينما هي ما يتم صنع الأفلام لأجلها. هي معاقل فنية لا غنى عنها.
كيف تصف حالة النقد السينمائي في الوطن العربي وما هي التحديات التي يواجهها وهل ثمة اهتمام من جيل الشباب للدراسة والخوض في هذا المجال؟
منذ أيام قرأت واحداً من تلك المقالات التي يعدّ كاتبها نقداً سينمائياً: صفحتان لعرض إنشائي لحالة ما ثم صفحة من الحديث في السياسة وأخرى عن كيف كان حرياً بالمخرج إخراج الفيلم؛ إن النقد ليس رأياً والكتابة بمبدأ إثبات أن الكاتب يفهم في كل شيء وإنه أعلى مستوى من الآخرين بسبب عمق مداركه، يجعله أشبه بدون كيشوت في زمنٍ يلوك مثل هذا التوجه ويرميه بعيداً. لكن هذا لا يعني أن النقد العربي الجيد في حالة أفضل. المساحات محدودة. هناك من النقاد أكثر مما هناك من فرص للنشر. الجمهور بدوره لا يكترث في عمومه للنقد. لقد كانت كلمة الناقد لافتة وقد فتحت لنا أبواباً كثيرة حتى مطلع القرن الحالي، أما الآن فهي مدعاة للإيمان بأن دورك قد انتهى. هذا كله من دون طرح موضوع التحديات… الكلمة الفاصلة هنا هي التالية: إذا لم تكن السينما شاغل الدولة والجمهور ورجال الأعمال وأصحاب محطات التلفزيون (التي لا تملك الجرأة على إنجاز برنامج سينمائي جيد وجاد) كيف سيكون وضع الناقد العربي في هذا المجال. لكل هاوٍ جديد نقد: أولا ادرس وتعلّم ليس النقد بل السينما، ثم ثانياً ابحث عن عمل يدر عليك مالاً، وثالثاً اكتب النقد.
علمنا مؤخراً أن أحد السيناريوهات التي كتبتها وجد طريقة لهوليوود، وأنه سيدخل مرحلة الإنتاج مع نهاية العام المقبل، ما الذي بمقدورك إخبارنا به عن هذا المشروع؟
المنتج الذي قرأ السيناريو وأعجبه لديه مشروعان قبل هذا المشروع ولكن في عصر الوباء المستشري هو نفسه لا يعرف متى سيبدأ مشروعيه. لذلك اقترح مدّة انتظار لنهاية العام الجديد. في هذه الأثناء أعطاني ملاحظات بنّاءة من شأنها بلورة السيناريو على نحو أفضل. لا أستطيع الإفصاح عن قصّته، لكنه فيلم طريق Road Movie حول رجلين من جيلين مختلفين مهددين بالقتل.