عرس الجليل: المقاومة الفلسطينية الكنفانية بلغة السينما

سينما المقاومة العسكرية:

عند الحديث عن سينما المقاومة، يقفز الذهن مباشرة إلى سينما المقاومة العسكرية وتوثيق فظائع الحروب، أفلام مثل: الفيلم الأرجنتيني “ساعة الأفران Hour of the Furnaces”، الفيتنامي “خط العرض السابع عشر The 17th Parallel”، الإيرلندي “لعبة الوطني” The Patriot Game. لقد كان للسينما الفلسطينية نصيبها من السينما العسكرية، فيما يسميه نوريث جيرتز وجورج خليفي “المرحلة الثالثة من السينما الفلسطينية: سينما المنفى (1968-1982)”. سميت بهذا الاسم لظهورها في المخيمات الفلسطينية في لبنان والأردن، من خلال عمل “وحدة أفلام فلسطين” التي أسستها منظمة التحرير الفلسطينية عام 1968، لتكون جزءًا من الجناح الثقافي بجوار الجناح العسكري للنضال. عمل مصورو الوحدة كالفدائيين، متحركين بين الصفوف الأولى والخيام، موثقين في أفلام تسجيلية معارك منظمة التحرير والحياة في مخيمات اللاجئين، كما تقول الباحثة رفقة أبو رميلة “يساهمون بأفلامهم عوضًا عن أسلحتهم في النضال الفلسطيني”.

ستنتهي هذه المرحلة عام 1982، مع الحصار الإسرائيلي لبيروت، واضطرار قيادة منظمة التحرير للخروج من لبنان إلى تونس. وسيكون ممن خرج المخرج مصطفى أبو علي أحد أهم مخرجي الوحدة، والمسؤول عن حفظ أرشيفها السينمائي في بيروت، والذي سيضطر بسبب الخروج المفاجئ إلى ترك الأرشيف في بيروت على أمل العودة لأخذه فيما بعد. لكن بعد انتهاء الحرب وُجِدَ أن الأرشيف قد اختفى تمامًا في ظروف غامضة. لزوجة المخرج أبو علي السيدة خديجة حباشنة كتاب مهم عن هذه الحقبة من السينما الفلسطينية بعنوان “فرسان السينما: سيرة وحدة أفلام فلسطين” صدر حديثًا. من أقوى النظريات عن مصير هذه الأفلام أن قوات الجيش الإسرائيلي نهبتها أثناء حصار بيروت، وأنها انتهت في أرشيف قوات الدفاع الإسرائيلية، وهو ما اقترحته الباحثة وأمينة مكتبة جامعة تل أبيب رونا سيلا في عدد من كتاباتها.

لكنني لست بصدد الحديث في هذا المقال عن هذا النوع من المقاومة السينمائية العسكرية، وإنما عن نوع آخر من المقاومة، ظهر في أفلام “المرحلة الرابعة: العودة إلى الوطن (1980-حتى اللحظة)” حسب تقسيمة جيرتز وخليفي، وستناول فيلم “عرس الجليل” (إنتاج عام 1987) للمخرج ميشيل خليفي كمثال أستعرض من خلاله أساليب المقاومة التي تنتهجها السينما الفلسطينية المعاصرة.

قصة الفيلم:

تدور أحداث الفيلم في إحدى قرى الجليل المحتلة منذ عام 1948، في فترة الحكم العسكري قبل نكسة 1967، حيث فرض على سكان المناطق العربية حظر تجول ليلي لسنوات. يذهب المختار أبو عادل، كبير القرية، إلى الحاكم العسكري الإسرائيلي ليطلب منه رفع الحظر عن قريتهم لليلة واحدة، حتى يتسنى له إقامة حفل زفاف لابنه عادل، يمتد حتى الليل كما جرت العادة في أفراحهم قبل الاحتلال. يوافق الحاكم شريطة أن يحل هو وبعض عساكره ضيوفًا في الحفل. فيوافق أبو عادل، لكن عندما يبلغ أهل قريته بالأمر، تتباين ردّات فعلهم، يقاطع أخو أبو عادل الحفل، ويخطط بعض الشبيبة لاغتيال الحاكم العسكري أثناء العرس، ويقبل الباقون الأمر على مضض. أما العريس عادل فيشعر بالخزي من فعل والده، وأن عرسه تسبب في دخول الحاكم إلى قريتهم وامتهان كرامتهم، فيصاب بالعجز الجنسي، ويعجز عن إتمام دخلته على عروسه، وإخراج الشاشة البيضاء وعليها دماء بكارتها، حتى يعلن نهاية العرس. فيطول انتظار الحاضرين، ويحاول عادل أن يثأر لكرامته وعجزه بقتل والده، حتى تتدخل عروسه سمية، وتفض بكارتها بيدها، لينتهي العرس ويرحل الحاكم العسكري.

الالتزام الواعي الكنفاني:

كتب غسان كنفاني كتابين نقديين مهمين، أحدهما كُتِبَ مباشرة قبل النكسة والآخر بعدها، يرسم فيهما معالم ما أسماه “أدب المقاومة الفلسطيني”، وركز فيهما على أعمال أدباء شبان صاعدين داخل الخط الأخضر (أي الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948)، أبرزهم الشاعر محمود درويش. الكتابان “أدب المقاومة في فلسطين المحتلة 1948 – 1966″ و”الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال 1948 – 1968”. تحدث عن ظروف نشأة هذا الأدب ودوره في النضال الفلسطيني وسماته الفنية. وكان أهم سمة له هي ما أسماه كنفاني “الالتزام الواعي”، والذي يتضمن شقين “الالتزام” و”الوعي”.

يقصد كنفاني بـ”الالتزام” التزام الأدب الفلسطيني بالحديث عن النضال الفلسطيني ومأساة فلسطين. يقول “لقد أدت تلك التحديات الإسرائيلية اليومية إلى اختصار فترة من طفولة العمل الفني في الأرض المحتلة صرفتها حركة الأدب العربي المعاصرة في مناقشة طويلة حول مدى التزام الفن، وعما إذا كان الفن الملتزم فنًا خلاقًا، فقد كان ثقل المؤامرة الإسرائيلية على الثقافة العربية في فلسطين المحتلة يشكل من تلقائه حلًا سريعًا لذلك الجدل، وبكلمة أخرى: لم تكن قضية الأدب الملتزم بين الغالبية الساحقة من أدباء فلسطين المحتلة موضع جدل، كان الجدل فيها  أمام التحديات اليومية الخطيرة  يشكل رفاهًا لم يقبله أحد، ويقول: “سنلاحظ أن شعر المقاومة، مثلًا على عكس معظم الشعر العربي المعاصر لا يبدأ بالاستخفاف بقيمة الكلمة في المعركة القاسية، بل يدرك دورها ويقدسه ويعتبره مسؤولية جوهرية لا غنى عنها”.

وأما “الوعي” فيقصد به انتباه الأدب الفلسطيني المقاوم لحيل الصهيونية، سواء من خلال أساطيرهم عن الحق الديني التاريخي لليهود المزعوم في أرض فلسطين، أو أكذوبة أن فلسطين كانت أرضًا بلا شعب إلا من بعد القبائل العربية المتنقلة، أو حتى سردياتهم الاستعمارية عن الشعب الإسرائيلي المتحضر الذي يجلب الحضارة الأوروبية للعرب الهمجيين، ومحاولات طمس هوية فلسطيني الخط الأخضر وجعلهم غير مرئيين. يقول كنفاني في كتابه: “وقد وضع معظم المثقفين العرب في فلسطين المحتلة مسألة التقدم والتخلف في سياقها النضالي العميق، مفوتين الفرصة على الرأي الإسرائيلي الذي يعتقد أن التقدم يبرر استعباد المتخلفين”.

ويتابع: “وهذه في الواقع مسألة شديدة الأهمية والخطورة، فنحن نعرف مثلًا أنه في الكثير من الدول النامية فتح المثقفون عيونهم ليجدوا أنفسهم محاطين ببريق ثقافة أجنبية أرادت بوسائل مختلفة التوصل عبر العمل الفكري والفني إلى فرض نمط حياة مستوردة، ومما لا شك فيه أن الكثير من هؤلاء المثقفين، بين تنازع الجذور المحلية وبريق الثقافة الغربية، انخلعوا عن جذورهم وولاءاتهم وانتسبوا إلى نمط حياة أخرى. لقد واجه المثقف العربي في فلسطين المحتلة هذا التحدي بصورة أكثر اتساعًا وقسوة، إذ إنه كان وما يزال يمثل حضورًا يوميًا مسلحًا بوسائل القمع والإغراء في وقت واحد، لقد واجه الأديب العربي في إسرائيل، وهو غالبًا رجل شاب قادم من الريف، سطوة التقدم الغربي وجهًا لوجه، وبريق النمط الأوروبي من الفكر والحياة، ليس على صفحات مجلة أو شاشة سينما أو سطور كتاب فحسب، ولكن في تفاصيل الحياة اليومية التي كان يخوض غمارها ساعة فساعة”.

فيلم “عرس الجليل” لميشيل خليفي، هو الفيلم الروائي الفلسطيني الأول المصور داخل الأراضي المحتلة، مما يجعله متوافقًا مع نظرة المقاومة الكنفانية، التي ترى الفن المقاوم فن الداخل المحتل بالمقام الأول، وليس فن الشتات والمنفى. النظر لسينما المرحلة الفلسطينية الرابعة “سينما العودة إلى الوطن” من هذه الزاوية، يجعلها أكثر قربًا من سينما المرحلة الثالثة “سينما المنفى”، إلى مفهوم المقاومة الكنفانية، مع أن النظرة السطحية قد تقول عكس ذلك، فكيف لفيلم عن عرس أن يجاري مقاومة أفلام عسكرية صورها فدائيون!

يقول إدوارد سعيد عن الصراع بين الفلسطينيين والصهيونيين “صراع بين الحضور والتأويل”. هذا ما يجسده فيلم خليفي بامتياز. فيصور لنا بيوتًا بطراز معماري مميز، مبنية بالحجر المقدسي، وأراضٍ مزروعة بأشجار الزيتون، وأهل قرية لهم طقوسهم في الزواج، وأزياؤهم المميزة وأكلاتهم وأغانيهم. يسوق خليفي الدليل تلو الأخر على أن هذه الأرض ليست كما تزعم الصهيونية أرضًا بورًا بلا شعب، واليهودي هو من زرعها وعمّرها. نرى في الفيلم أن الأرض فلسطينية والإسرائيلي هو الضيف والدخيل.

ويصور خليفي أيضًا حقيقة المعاناة تحت الاحتلال، فما يسلبه الاحتلال الإسرائيلي ليس فقط الأرض بالمصادرة والروح بالقتل، بل هو أكثر تغلغلاً من ذلك. يقول كنفاني: “حين يتعامل العربي مع واقعه السيئ، على الصعيد الاجتماعي والسياسي والاقتصادي يفوّت على العدو فرصة جعل هذا الواقع كابوسًا يمتص كل الحيوية العربية، ولذلك فهو يتخذ من الركام الذي يطرحه هذا الواقع السيئ منبرًا عاصفًا للتحدي”. المخرج ميشيل خليفي نفسه مثال لهذه المعاناة اليومية، فمثله مثل الكثير من فلسطيني الخط الأخضر لم توفر الحكومة الإسرائيلية له فرصة جيدة للتعلم، واضطر للعمل ميكانيكي سيارات لسنوات، قبل السفر لبلجيكا ودراسة الفن.

نرى في الفيلم كيف أن المختار أبو عادل عاجز عن إقامة حفل زفاف لابنه دون موافقة الحاكم العسكري الإسرائيلي، وعاجز حتى عن تحديد من يدعوه إلى العرس ومن لا يدعوه. وفي أحد المشاهد، نرى أن النسوة لا يستطعن الغناء داخل بيوتهن في الليلة التي تسبق العرس، إذ تصرخ فيهن دورية إسرائيلية تتفقد تطبيق حظر التجول ليصمتن. ونرى في مشهد آخر أن حتى الحيوان لم يسلم من الوجود الإسرائيلي، فعندما تهرب مُهرة أبو عادل من إسطبلها، تطلق لنفسها العنان مرحاً في الأرض دون أن تفرّق بين المكان الذي بمقدورها السير فيه وبين ما يجب ألا تدخله، حتى نراها وسط حقل ألغام إسرائيلي.

حرية الحركة ثيمة أثيرة في سينما خليفي. حرية التّحرك في الليل وحرية الحركة في الأرض كما في فيلمنا هذا. حرية الحركة بين الضفة الغربية وقطاع غزة والأراضي المحتلة، حرية زيارة الأقارب في أي مكان كانوا في أرض فلسطين التاريخية، حرية زيارة أرض الأجداد، وحرية عودة اللاجئ والمنفي إلى وطنه، كلها أحلام يحلم بها اليوم ملايين الفلسطينيين. هذه الأحلام تصبح بعيدة المنال سنة بعد سنة، مع حصار غزة، وبناء الجدار، وتقطع الضفة الغربية بالمستوطنات والحواجز الأمنية التي تجعل مسافة أمتار معدودة يستغرق تجاوزها ساعات، والإجراءات البيروقراطية الأمنية المعقدة للتنقل بين أجزاء فلسطين التاريخية، ناهيك عن كون المعابر ونقاط التفتيش مناطق خطر يتوقع أي فلسطيني أثناء عبورها أنه قد يتم القبض عليه واقتياده لأحد السجون الإسرائيلية. لذلك فإن سينما خليفي تحفل دومًا بكاميرا تحب الحركة الكثيرة بين الفضاءات المكانية ذهابًا وجيئة دون توقف طوال الفيلم، ففي فيلم “عرس الجليل” نرى كيف أنها تتحرك بشكل متواتر، ذهاباً وجيئةً، بين غرف بيوت القرية فساحاتها فحقولها، ولا تتردد في الوقوف كل ما أمكنها ذلك لتأمل الأفق البعيد، لأراضي فلسطين وتلالها التي تغيب وراءها الشمس، وكأنها تحلم ببلوغها يومًا ما. هذا الأسلوب في تحريك الكاميرا الذي يحاكي حركة الأطفال الذين لا يهدؤون، أو حركة مهرة أبو عادل التي لا تعترف بالحدود والقيود، أسلوب سيطوِّره خليفي في فيلمه اللاحق البديع “حكاية الجواهر الثلاث” الذي جعل بطولته لثلاثة أطفال في أحد مخيمات قطاع غزة.

السرد النسوي والثورة على العادات والتقاليد:

السمة الثانية لأدب المقاومة الفلسطيني حسب أطروحتي غسان كنفاني هي نزعة أدباء المقاومة للثورة على تقاليد المجتمع الريفي. يقول كنفاني: “أدب المقاومة في فلسطين المحتلة قد ربط ربطًا محكمًا بين المسألة الاجتماعية والمسألة السياسية، واعتبرهما طرفين من صيغة لا بد من تلاحمهما”، ويقول في موضع آخر: “وقد انعكس هذا بصورة خاصة، على القصص القصيرة التي تعاملت أولًا مع قضايا التقاليد الكابحة داخل المؤسسة الاجتماعية العربية، ورفضتها في سبيل تجديد دماء المجتمع العربي ليكون قادرًا على مواصلة مسؤوليات المقاومة والمضي فيها إلى مداها، وانعكست أيضًا وغالبًا في شعر الشعراء الشبان مع مطالع تجاربهم. وأي رصد لهذه التجارب سيؤدي إلى ملاحظة موحدة تقريبًا، وهي أن الشاب يبدأ تجربته غالبًا برفض القيود التي يفرضها المجتمع الريفي على علاقات الرجل بالمرأة، أو الأب بالابن، إلا إن هذا الرفض ما يلبث بصورة متسارعة، أن يأخذ أبعاده وأعماقه، ويتوصل إلى الارتباط بآفاق التحدي المختلفة التي تواجه المواطن العربي في الأرض المحتلة، ليخرج من ذلك كله بالصيغة النهائية الراهنة، وهو إعطاء أدب المقاومة بعده التقدمي، الاجتماعي، العربي، والعالمي”.

وقد عبر ميشيل خليفي عن الأفكار ذاتها في أكثر من مقابلة. حيث يقول: “نعتقد ببساطة أن كل العالم ضدنا وأن الصهيونية في كل مكان. قد يكون الأمر هكذا، لكنني منذ طفولتي لدي استشرافي الخاص للأمر، وأريد طرحه في سينماي. يشمل هذا الاستشراف اعتقادي أن الإسرائيليين يستمدون قوتهم من ضعفنا، وأن ضعفنا بالمقابل ليس بسبب قوة الإسرائيلي، بل بسبب البنية البدائية للمجتمع العربي: القبلية والأبوية والدين والحياة الاجتماعية. لا يُعترف بالشخص كفرد”، ويقول في مقابلة أخرى: “بينما الفلسطينيون ضحايا الاضطهاد، هم أيضًا مذنبون باضطهادهم غيرهم: المجتمع الريفي، والعمال، والنساء. لقد حاولت صنع فيلم عن صفر اضطهاد”.

ومن هنا كان فيلم “عرس الجليل” كما هو عن قيود الحياة تحت قيود الاحتلال الإسرائيلي، هو فيلم عن أبوية المجتمع الفلسطيني وذكوريته. يوافق المختار أبو عادل على عرض الحاكم العسكري دون الرجوع لابنه عادل صاحب العرس، تصرف سيشعر الابن بالخزي يوم عرسه، وسيتسبب في عجزه الجنسي. وفي مشهد آخر نراه يحتضن ابنه الأصغر حسن وهو نائم، ويلقنه أحلامه التي يريد لها أن تكون أحلام ابنه. بالمقابل نرى رد فعل ضحايا هذه الأبوية من جيلين، جيل الشبان بعمر عادل، وجيل الأطفال بعمر حسن. اختار الجيل الأول الحقد على جيل الآباء، وما عدّوه سلبيتهم وانهزامهم أمام المحتل مما تسبب بنكبة 48 وضياع الأرض. نرى في الفيلم عادل يرغب بقتل والده لأنه دعا الحاكم العسكري للعرس، ونرى شبان القرية يخططون لاستغلال تواجد الحاكم العسكري في القرية وقتله، في تصرف متهور قد تكون عاقبته وبالًا على القرية، ونرى أخا أبي عادل يقاطع عرسه ابن أخيه. هذه حلول جيل الشبان، عسكرية ذكورية، وستؤدي في النهاية كما نعرف لنكسة 67 وضياع باقي الأرض. بالمقابل جيل الأطفال لا تحركه إلا الرغبة بالحرية، الحرية من أحلام الآباء والحرية من قيود المحتل الإسرائيلي، لنرى شخصية الطفل حسن كما مهرة أبو عادل وكما كاميرا خليفي يتحركون بلا توقف في فضاء الفيلم المكاني. جيل الأطفال هؤلاء كما نعرف، سيقودون بعد أشهر قليلة من صدور الفيلم ما سيعرف “بانتفاضة الحجارة”، والتي ستنتهي كما نعرف بتشكيل السلطة الفلسطينية.

بالمقابل للذكور أتت الشخصيات النسائية في الفيلم بصورة مختلفة عن الشخصيات الذكورية، فمقابل انهزامية أبو عادل المتخفية تحت عباءة سلطته الأبوية، كانت أم عادل المسؤولة الحقيقية عن إدارة تفاصيل العرس المبهجة. وفي حين انشغل شبان القرية للتخطيط لهجومهم المزعوم على القائد العسكري الإسرائيلي، كن نسوة القرية مشغولات بإعداد الولائم والعصائر. وفي حين عجز عادل عن إكمال دخلته، ونوى قتل والده، في تصرف لو حصل لحوّل العرس لمأساة تراجيدية، أتى الحل على يد زوجته سامية، التي قررت أن تنقذ الموقف، وتفض بكارتها بنفسها، لينتهي العرس بسلام. لكن تبقى الشخصية النسوية الأبرز في فيلم هي شخصية سمية أخت عادل، التي على عكس الشخصيات النسوية الأخرى في الفيلم المرتبطة بالتواجد داخل البيوت، كانت تتحرك بحرية بين الفضاء الداخلي النسوي ممثلًا بالبيوت والفضاء الخارجي الذكوري ممثلًا بساحات القرية، بشكل يحاكي أيضًا حركة الكاميرا والأطفال في الفيلم، شخصية متمردة، تحلم بمغادرة القرية، تدخن، ترتدي كوفية والدها في مشهد مغرق بالدلالات، ولها عشيق سري، أحد شبان مؤامرة قتل الحاكم العسكري والذي عندما يرفض مصارحتها بخطتهم لاغتيال الحاكم، تتحداه قائلة “مش رايح تعمل إيشي بدوني. بتشوف.” سمية هي الوحيدة في الفيلم التي تستطيع إصابة الإسرائيلي بارتباك، عندما ترى جنديًا إسرائيليًا يبحث عن زميلته الجندية تالي، فتقول له ممازحة مستغلة توجسه من كل ما هو فلسطيني “بدنا ناكلها بعد ما يخلص الطقس”، وتقول له في مشهد آخر “إذا بدك ترقص، لازم تشلح بدلة الجيش.” سيرتبك الجندي الإسرائيلي لأنه لا يعرف أن يتكلم مع الفلسطيني إلا بالمنطق الذكوري العسكري والصراع على القوة، وعندما يواجه بخطاب سمية غير المتوقع سيصاب بالارتباك والعجز عن الكلام.

يقيم فيلم ميشيل خليفي على طريقة الآداب المناهضة للاستعمار تطابقًا بين الحكم الاستعماري الإسرائيلي وبين الأبوية والذكورية، يأتي الحاكم العسكري ورفاقه إلى العرس ببزاتهم العسكرية وأسلحتهم وجيباتهم، مقيمًا بذلك حاجزًا بينهم وبين مضيفيهم الفلسطينيين، ويبقون طوال الوقت متأهبين لأي هجوم. في مشهد هروب مهرة أبو عادل، سيحاول الجنود الإسرائيليين إخراج المهرة من حقل الألغام -التي زرعوها بأنفسهم- عن طريق إطلاق النار، لتخويف المهرة وإجبارها على السير في مسار معين، هذه اللغة الوحيدة للكلام التي يعرفها الإسرائيلي العسكري، لغة السلاح. فيتدخل أبو عادل، ويطلب منهم التوقف عن الإطلاق، لأن هذا على الأرجح سيصيب مهرته بالذعر ويدفعها داخل حقل الألغام أكثر، وعوضًا عن ذلك نراه في مشهد بديع يخاطب مهرته بلغة أشبه بالسحر مكررًا كلمة “تعي تعي”، حتى تأتي إليه. وفي مشهد آخر، نرى الجندية الإسرائيلية تالي، تنهار بسبب الحر، وربما الضغط النفسي للتواجد في الفضاء الخارجي الذكوري المشحون بالعداء والترقب والبارانويا، فيأخذنها النسوة إلى داخل أحد البيوت في الظل وسط بتلات الورد وروائح العطور، وهناك يحررنها من زيها العسكري الخانق، ويلبسنها ثوبًا فلسطينيًا، في مشهد أشبه بحفلة تعميد أو تطهير، يحررنها من الذكورية العسكرية والأبوية الإسرائيلية، ويجعلنها أقرب لذاتها.

السرد النسوي سمة أصيلة في السينما الفلسطينية. الرجال عادة غائبون في الأفلام الفلسطينية، إما مناضلين مختبئين في الكروم والمغارات، أو أسرى في سجون الاحتلال، أو مهاجرين ومنفيين خارج فلسطين، أو مجانين، عالقين في صمتهم وحزنهم، مصابين بالبكم أو العجز الجنسي. أما النساء فهن أصحاب الحلول الإبداعية للتعامل مع هذا الظرف الاستثنائي التي تمر به فلسطين، ربما لخبرتهن الطويلة على مدار قرون من التعامل مع السلطة الأبوية الذكورية، أصبحن أكثر كفاءة من الرجال في التعامل مع الأبوية الاستعمارية الإسرائيلية. النساء في السينما الفلسطينية المعاصرة يعانين مما سمته السرديات النسوية المابعد استعمارية “الاستعمار المزدوج” استعمار القوى الاستعمارية واستعمار الأبوية. يقول ميشيل خليفي: “مشكلة النساء هي مشكلة الشرق الأوسط. عندما يحاول الشرق الأوسط أن يكون ذكوريًا، ينتهي الأمر إلى فوضى. يأتي الكثير من الغزاة إلينا، ويدمرون ذكوريتنا. الأمر كأنه اغتصاب. يجب على الشرق الأوسط أن يتقبل أنه أنثوي”. لطالما أكد أيضًا إدوارد سعيد على ضرورة ربط النضال الفلسطيني نفسه بسرديات الحركات النضالية في العالم وخاصة النسوية وحركات التحرر الإفريقية. والشيء بالشيء يذكر خصص محمود درويش ديوانه الأول “عصافير بلا أجنحة” عن إفريقيا ونضالها. وتنبه كنفاني في أطروحتيه إلى تكرار شعراء المقاومة الفلسطينية في قصائدهم ذكر نضال الجزائريين ضد الاستعمار الفرنسي، والأفارقة الجنوب إفريقيين ضد نظام الأبارتهيد، ونضال الكوبيين والفيتناميين والذئاب الحمر في اليمن وغيرهم.

السرد المجازي وتجنب الانزلاق الإيديولوجي:

السمة الثالثة للأدب المقاوم حسب أطروحتي غسان كنفاني هي اللجوء للرمزية. يقول كنفاني نقلًا عن فوزي الأسمر “وقد أدى ذلك إلى تطور في أسلوب التعبير تكيف في الأساس مع متطلبات (جبهة القتال) الثقافية. فقد لجأ الشاعر، مثلًا: لإنشاد مقاصده، شعرًا بواسطة الطريقة الرمزية.. فالقصيدة الشعرية هي ميدان فسيح للكتابة الرمزية، يعبر فيها الشاعر عما يخالجه من شعر قومي دون أن يفصح عن ذلك، وكم من مرة خاطب الشعراء أحباءهم قاصدين الوطن، فإذا ما كتب الشاعر في قصيدته <<الويل يا ظالم..>> لا يمكن للسلطات أن تعرف قصده لتتخذ ضده الإجراءات القانونية، أما القارئ اللبق فيفهم مرمى الشاعر ويحس بنفس إحساساته”.

حضور المجاز في الفن المقاوم بشكل عام حيلة من حيل هذا الفن من ناحية. المجاز أحد طرق الفن لنقل العمل المقاوم من إيديولوجية الخطاب السياسي المباشر إلى رحابة الفن الملتبسة. أكد على هذا المعنى كنفاني حين وصف أدب المقاومة الفلسطيني: “كان دائمًا التزامًا بالسلاح والجمال والمثل، معًا”. وكتب محمود درويش في مقاله: – “غزال يبشر بزلزال” الذي رثى فيه كنفاني بعد اغتياله -“لن نسمع مزيدًا من تعليقاته الساخرة على الذين يأتون إلى الكتابة بفضيلة القضية”. في السياق ذاته المخرج الألماني أولريش كوهلر في مقاله “لماذا لا أصنع أفلامًا سياسية؟” يكتب: “صحيح أن كل شيء ربما يكون سياسية، لكن التفريق بين الممارسة الفنية والسياسية مفيد. تشكل السياسة الحياة الاجتماعية. هدف الفعل السياسي تغيير المجتمع أو منع المجتمع من التغيير. أما الفن فلا وظيفة اجتماعية محددة له”. ويكتب أيضًا: “الفن ليس وسيلة لبلوغ نهاية الرحلة، لا يتحرك نحو نتيجة معينة… يتميز الفن الذي لعب دورًا مهمًا في حياتي بالانفتاح والغموض والحيادية الأخلاقية، وبرفضه لأن يتم استغلاله أو تسخيره لغاية معينة… تكمن قوته في استقلاليته”. معنى شبيه قاله درويش في رثائه: “ليس بوسع الكتابة أن تحقق أثرها النضالي إلا إذا كانت كتابة ناجحة، فالفن الرديء الذي يروج الصغار في حياتنا الآن، تحت أي شعار كان، لا يقل ضررًا عن السلاح الرديء”.

فيلم “عرس الجليل” مثقل بهذه الرمزية الملتبسة حمالة الأوجه. يقول خليفي عن الدلالة المجازية للتلاعب بالإضاءة في فيلمه: “الرموز ضد الدلالة أو عكس الدلالة. في الدلالة أنت تفتح الآفاق لكل إنسان أن يخرج ما بداخله ويتعامل مع النور والظل بإحساسه. بينما يمنحك الرمز مفهومًا واحدًا”. القرية التي تدور فيها أحداث الفيلم ليست ربمًا إلا مجاز كبير للحياة تحت الاحتلال، وأهلها هم مجاز آخر لكل طوائف الشعب الفلسطيني في موقفه من التعامل مع الاحتلال. حركة الكاميرا، ثنائية الفضاء الداخلي النسوي والخارجي الذكوري، ثنائية العقم الذكوري والإبداع النسوي، تباين الأجيال، والمقابلة بين الأبوية الفلسطينية وأبوية المستعمر الإسرائيلي العسكرية، مشهد هروب المهرة، ومشهد عقدة عادل الأوديبية، ومشهد تمرير أبو عادل أحلامه لابنه الأصغر أثناء نومه، من النقاط والمشاهد التي ذكرناها في المقال تفتح المجال لعدة قراءات وتأويلات ثرية للفيلم، تتميز كلها بأنها ملتبسة وغير قطعية.

لتوضيح طريقة لعب خليفي على الالتباس دعونا نأخذ عنصر الزمن في الفيلم كمثال. لا يرد في الفيلم تحديد للسنة التي تدور فيها أحداثه، لكنها على الأرجح إحدى سنوات الحكم العسكري قبل نكسة 67، نعرف ذلك لأن تلك الفترة هي التي كان مفروضًا فيها حظر التجول الليلي على قرى الفلسطينيين في الأراضي المحتلة داحل الخط الأخضر. لكن في الوقت ذاته نرى في مكتب الحاكم العسكري صورة للرئيس الإسرائيلي حاييم هيرتزوج والذي امتد حكمه بين سنتي 83 و93، أي فترة تصوير الفيلم وعرضه! وفي إحدى أغاني العرس نسمع المغني الشعبي يغني موالًا يرد فيه ذكر شمعون بيريز والحاخام الصهيوني العنصري مائير كاهانا وكلاهما لم يظهر على الساحة السياسية الإسرائيلية إلا في السبعينات. يفيد هذا الخرق للزمن، بتضمين إحالات من المستقبل إلى زمن الأحداث، في توصيل رسالة بأسلوب فني تفيد ربما عن عدم اختلاف الوضع بالنسبة للفلسطيني في الأرض المحتلة عما قبل النكسة وما بعدها، وأن رفع الحكم العسكري لم يغير من سوء الوضع شيئًا، ذهب الحكم العسكري وجاءت النكسة (واحتلال كل فلسطين) وبيريز وهيرتسوج وكاهانا، ثم اجتياح لبنان وشارون ونتنياهو وليبرمان والانتفاضتان وحروب غزة وحصارها.

أيضًا يأخذ خليفي زمن فيلمه إلى الماضي. أبرز استحضار للماضي هو العرس نفسه والقرية، المجتمع الفلسطيني الريفي، أشجار الزيتون، البيوت الحجرية، الملابس الفولكلورية، تقاليد العرس من حمام وأغاني. وهذا كما ذكرت في مطلع المقال رد على أكاذيب الرؤية الصهيونية التي تزعم أن فلسطين كانت أرضًا غير مزروعة بلا سكان. اسم الفيلم نفسه “عرس الجليل” هو إحالة لأحد أكبر الأحداث الدينية في التاريخ المسيحي “عرس قانا الجليل”، والذي شهد واحدة من أوائل معجزات السيد المسيح، عندما نفذ النبيذ في عرس حضره المسيح عليه السلام مع أمه العذراء وحوارييه، فقام بتحويل الماء إلى نبيذ. وكأن خليفي يقول إن كانت هوية بلد ما تحدد بالحكايات الدينية، فهذه الأرض أيضًا مسيحية وليست يهودية خالصة كما تزعم الصهيونية. العرس نفسه في تفاصيله يُشعرك بأنه متجاوز للزمن، يمكن أن يحدث في مطلع القرن العشرين ويمكن أن يحدث في زمن السيد المسيح، وفي هذا تأكيد على أن الفلسطينيين الظاهرون في الفيلم هم سكان الأرض فعلًا لقرون. لذلك ربما أصر خليفي على المحافظة على اسم الفيلم “عرس الجليل” عندما طلب منه أحد الموزعين حذف كلمة الجليل، واختصار عنوان الفيلم إلى “العرس”.

تتماهى قرية فيلم “عرس الجليل” مع الرؤية اليوتوبية للماضي الفلسطيني حسب الرؤية الوطنية لفلسطين، والتي تزعم أن حياة الفلسطيني كانت جنة قبل قدوم الصهيوني. هذه النزعة الوطنية ردة فعل طبيعية لقدوم المستعمر، كما ظهرت “الزنوجية” في دول الكاريبي أو “الهندوتفا” الغاندية أو القومية العربية كرد فعل للاستعمار. لكن خليفي لا يقبل هذه النزعة الوطنية بكل سوءاتها، وكما يسائل الاحتلال يقف ويسائل تخلفها وأبويتها الذكورية ويوتوبيتها. وأول ما يفعله هو التأكيد على أن حياة الفلسطيني قبل الإسرائيلي كانت أيضًا صعبة، نرى هذا من خلال شخصية الجد الذي مر عليه الحكم العثماني والانتداب البريطاني، وكلاهما في نظره لا يقلان سوءًا عن الحاكم العسكري الإسرائيلي. شخصية الجد هذه مثيرة للإعجاب لا يتكلم في كل مشهد يظهر فيه إلا بالسخرية من الأتراك والبريطانيين، ولا يأخذ العسكري الإسرائيلي محمل الجد، حتى أنه يوقفه ويلقي عليه نكاته المكررة عن الحكام السابقين. يعرف من الزمن الذي عاشه أن المحتل دائمًا عابر، وأن الفلسطيني وأرضه دائمًا باقون. سخرية شخصية الجد تتوافق مع ما قاله كنفاني في أطروحته: “حين يحاول العدو استدراج العرب إلى أي نوع من الحوار يواجه بالسخرية الجارحة التي تدل على أن عيني العرب تنظر إليه كشيء عابر، ويواجه العربي كل المحاولات العدوة بسحق الشخصية العربية بهذه السخرية الجارحة التي تعبر عن أعماق الموقف الشعبي الحقيقي”.

وقد رأينا أيضًا كيف أن خليفي نقد عجز الحلول الوطنية الذكورية، وارتداد الذكورية الفلسطينية أحيانًا لمهاجمة الفلسطينيين أنفسهم، حينما حاول عادل قتل أبيه مثلًا، -وفي مشهد عابر في الفيلم نرى فيه أحد القرويين يستغل انشغال الجميع بالعرس وانفتاح البيوت على بعضها ليحاول اغتصاب طليقته التي ترفض العودة إليه-. من هنا يمكننا ربما اعتبار الفيلم استشرافًا مبكرًا من خليفي لما سيؤول إليه الوضع الفلسطيني في الضفة الغربية وغزة من معاناة تحت حكم السلطة الفلسطينية وحركة حماس، اللذين سيتحول بأسهما نحو الشعب الفلسطيني لا العدو الصهيوني.

إذن يتحرك فيلم “عرس الجليل” في المجاز والالتباس للمحافظة على فنيّته ولتجنب الانزلاق الإيديولوجي، لكن ليس هذا الباعث الوحيد لذلك، إذ يلتجأ للمجاز أيضًا رغمًا عنه لضرورة سياسية، وهي أنه يقارب موضوعًا حساسًا، فالفلسطيني غير مرئي بالنسبة للعالم، يواجه حركة استعمارية تجيد تسويق نفسها للعالم، ومن هنا كان من المهم على خليفي أن يراقب ما يقوله. فمثلًا تجنبه تصوير تحول العرس لأي مظهر عنف، مع أن كنفاني قال في كتابه عن أعراس الجليل تحديدًا: “ويبدو أنه حين تتحول الأعراس في الجليل إلى مظاهرات عنف تندفع من تحت لسان القوالين والشعراء الشعبيين لم يكن بوسع سلطات الاحتلال الصهيوني إلا أن تفتح النار على المتظاهرين”. وتعلق الناقدة إيلا حبيبة شوحط معلقة عن غياب هذا الشق عن فيلم خليفي قائلة “يستطيع المرء التعاطف مع معضلة خليفي، فتصوير العنف الوطني بينما تكافح للاعتراف العالمي دومًا أمر حساس”.

ولا ينقذ المجاز الفيلم من الصدام مع الصهيونية ومع النظرة الاستعمارية للفلسطيني فحسب، ولكن تنقذه أيضًا من الصدام مع النظرة الوطنية للصراع، ومن ورائهما النظرة العربية والإسلامية له، التي لا ترى للوطنية الفلسطينية إلا شكلًا واحدًا، ولا ترى للصراع الفلسطيني إلا حلًا واحدًا. وقد قال درويش في رثائه لكنفاني معنى شبيهًا بذلك: “لم يقل أحد أن الفلسطينيين لا يرحمون أدباءهم. سأقول: إن الفلسطينيين لا يرحمون أدباءهم. ذلك من فرط إيمانهم بفاعلية الأدب الذي قدم لهم، ومنهم، تعويضًا عن مهانات، عندما فقدوا كل شيء، ولم يملكوا إلا كلمات. وذلك لأنه استمد منهم القوة ليؤسس لهم العلاقة. نادرًا ما يسطو الوطن، كما يسطو على أدب الفلسطينيين، ولذلك، يدرك الفلسطينيون، وبحق، أنهم هم الذين خلقوا أدباءهم.. ولذلك أيضًا يطالبونهم دائمًا بالمواطنية المثالية وبالطاعة الفولاذية، ولا يسمحون لهم أن يكونوا أقل من جنود أو قديسين. ومن هذه العلاقة الصارمة، من هذه المطالبة التي تشل كل شيء يجد الأديب الفلسطيني نفسه يسرق حرفة الأدب سرًا”. إن خليفي بنقده هذا للصهيونية ونقيضها أيضًا الوطنية الفلسطينية، يمكننا من رؤية فيلمه محاولة لخلق ما أسماه الناقد الهندي هومي بابا “الفضاء الثالث”، حيث يمكننا رؤية الإسرائيلية صديقة للنسوة الفلسطينيات والإسرائيلي يرقص في العرس الفلسطيني شريطة أن يخلعوا بدلاتهم العسكرية. ويمكننا رؤية المرأة شريكة الرجل في النضال الوطني دون أن تكون محصورة في البيت وظيفتها رعاية المناضل وتفريخ المناضلين له، ودون أن تُسحب المرأة لارتداء البزة العسكرية وحمل البندقية لتكون نسخة ذكورية مقنعة. من أشهر أمثلة ما يسميه بابا “الفضاء الثالث” هو حركة “الكيروليتيه” الكاريبية، التي تمردت على تصلب وعدم كفاءة حركة “الزنوجية”، التي رأت في آثار المستعمر الفرنسي في الكاريبي ثراء يفتح آفاقًا للهوية الكاريبية. موسيقا الراي الجزائرية وموسيقا الجاز مثال آخر للإبداع الخلاق الناتج من تجاور ثقافتين تهيمن إحداهما على الأخرى التي بدورها تقاوم الاضمحلال والذوبان فيها.

وإن كان حضور المجاز هي حيلة من حيل الفيلم لتمرير رسائله دون الانزلاق في الإيديولوجية ودون صدام، فإن المجاز في آداب العالم الثالث عمومًا أمر واقع، أي عمل عن شخص من العالم الثالث، حتى لو كان هذا العمل لا يتطرق لأي قضية سياسية أو اجتماعية أو ثقافية سيتحول بالضرورة؛ لأن بطله من العالم الثالث مجاز لهموم هذا البطل، يقول فريدريك جيمسون: ” نصوص العالم الثالث، بما فيها تلك التي تبدو عن الفضاء الخاص والمغرقة تمامًا في ديناميكية الشهوة، هي بالضرورة مشروع بأبعاد سياسية في هيئة “مجاز قومي”، فتكون قصة قدر الفرد الخاصة دومًا مجازًا للموقف المأزقي لفضاء العالم الثالث ثقافةً ومجتمعًا”. فإن كان هكذا الأمر بالنسبة لآداب العالم الثالث، فإن الأمر بالنسبة للفن الفلسطيني أكثر وضوحًا، فكما قال إدوارد سعيد: “صراعنا صراع بين الحضور والتأويل”، فمجرد تصوير فيلم عن شخص فلسطيني، حتى لو كان هذا فيلم حب مثل “غزة مون آمور” للأخوين ناصر، هو فيلم مقاوم، وتأكيد على وجود الفلسطيني، وجعله مرئيًا من جديد. يقول المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي في مقابلة تلفزيونية: “أنا سيدي حب ستي قصة حب بيافا، قبل الـ 48، بالتلاتينات. حبوا بعض، شب وصبية. أنا لو بدي أعمل قصة الحب، قصة حب حلوة ونادرة، مكنش في دولة إسرائيل، فأنا بآجي اليوم بالسينما بأعيد فلسطين للتلاتينات، شكلًا ومجتمعًا ولبسًا، محدش بيقدر يقولي وين إسرائيل، لأنه مكنتش، بس أنا عامل قصة حب، ومش متطرق للسياسة، بس هاد فيلم سياسي بامتياز”.

الفن المقاوم الما بعد حداثي (الما بعد كنفاني):

وبعيدًا عن الأطروحة الكنفانية للأدب المقاوم، وأبعادها التي ذكرناها، ظهر في سينما الموجة الرابعة الفلسطينية، منذ فيلمها الأول “الذاكرة الخصبة” (إنتاج عام 1980)، وهو فيلم وثائقي لميشيل خليفي أيضًا، سمات فنون الما بعد حداثة، حيث تجنح الأفلام للتفكيك وتقاطع الروائي بالوثائقي واللجوء للسخرية. تشعر في فيلم “عرس الجليل” من فرط اهتمام خليفي بتصوير تفاصيل العرس، وشغلها لمعظم زمن الفيلم، أننا أمام عمل وثائقي، وأن الأحداث الروائية ما هي إلا أحداث مفككة غير مترابطة، أشبه بلوحات مستقلة، أو أفلام قصيرة، مزروعة وسط الفيلم الوثائقي. ناهيك عن حضور السخرية من خلال شخصية الجد والأطفال وسمية، وحتى التصوير الكاريكاتوري للمحاولة الفاشلة لاغتيال الحاكم العسكري. تقوم فلسفة الما بعد حداثية على غياب المعنى وعلى التأكيد على عدم وجود سردية واحدة تفسر كل شيء، ولجوء سينما الموجة الرابعة الفلسطينية لهذه التقنيات فيه نوع من التحرر من المعاني الصلبة التي حاولت الهوية الفلسطينية رؤية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي من خلالها، وإن ظهرت هذه التقنيات في أفلام ميشيل خليفي، إلا أنها ستتجلى وتبلغ ذروتها في أفلام السينمائي إيليا سليمان؛ القطب الآخر للموجة الرابعة.

المصادر:

  • كتاب “أدب المقاومة في فلسطين المحتلة 1948 – 1966” لغسان كنفاني.
  • كتاب “الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال 1948 – 1968” لغسان كنفاني.
  • مقال “غزال يبشر بزلزال” لمحمود درويش.
  • كتاب “الثقافة والمقاومة” حوار مطول مع إدوارد سعيد يديره دايفيد بارساميان (ترجمة: علاء الدين أبو زينة).
  • Article “The Kanafani Effect: Resistance and Counter-Narration in the Films of Michel Khleifi and Elia Suleiman” by Refqa Abu-Remaileh.
  • Book “Palestinian Cinema: Landscape, Trauma and Memory: Landscape, Trauma and Memory‏” by Nurith Gertz and George Khleifi.
    – Article “A Chronicle of Palestinian Cinema” (Chapter I).
    –  Article “About Place and Time: The Cinema of Michel Khleifi” (Chapter III).
  • Article “Wedding in Galilee” by Ella Shohat.
  • Article “Between a Postcolonial Nation and Fantasies of the Feminine: The Contested Visions of Palestinian Cinema” by Anna Ball.
  • Article “Wedding in Galilee” by Tim Kennedy.
  • Book “Postcolonialism: A Very Short Introduction (2nd Edition)” by Robert J. C. Young.
  • Article “Third-World Literature in the Era of Multinational Capitalism” Fredric Jameson.
  • Article “Why I Don’t Make Political Films” by Ulrich Köhler (Translated by: Bettina Steinbruegge).
  • Book “An Accented Cinema: Exilic and Diasporic Filmmaking” by Hamid Naficy.
    – Article: “Multisource Funding and Coproduction >> Close-Up: Michel Khleifi (Chapter II: Interstitial and Artisanal Mode of Production). 
    – Article “Home Land: Close-Up: Michel Khleifis Wedding in Galilee” (Chapter V: Chronotopes of Imagined Homeland).
  • Article “The Genealogy of Colonial Plunder and Erasure – Israel’s Control over Palestinian Archives” by Rona Sela.
  • Article “Seized in Beirut: The Plundered Archives of the Palestinian Cinema Institution and Cultural Arts Section” by Rona Sela.
  • فيديو يوتيوب “سيرة وحدة أفلام فلسطين + مقابلة الأستاذة خديجة حباشنة” على قناة Rania Haddad TV.
  • فيديو يوتيوب “المخرج السينمائي الفلسطيني ميشيل خليفي في بلا قيود” على قناة BBC News عربي.
  • فيديو يوتيوب ” السينما الفلسطينية – الجزء الأول | 35 ملم مع إبراهيم عيسى” على قناة الغد Alghad TV.

قراءات إضافية:

  • كتاب “”فرسان السينما: سيرة وحدة أفلام فلسطين” لخديجة حباشنة.
  • كتاب “موقع الثقافة” لهومي ك. بابا (ترجمة ثائر ديب).
  • Article “Great Directors: Michel Khleifi” by Tim Kennedy.
  • Article “Imagining New Politics: Geography and Sexuality in Wedding in Galilee and Season of Migration to the North” by Rebecca Lynn Faulkner.
  • Book “Unthinking Eurocentrism Multiculturalism and the Media” By Ella Shohat & Robert Stam.
    – Article: Allegories of Impotence (Chapter VII: The Third Worldist Film). 
  • Book “The Politics of Dispossession: The Struggle for Palestinian Self-Determination (1969-1994)” by Edward W. Said.
    – Article “Review of Wedding in Galilee and Friendship’s Death” (Chapter 13).
  • Article “Zionist and Palestinian Honor and Universal Dignity in Israeli Cinema” by Orit Kamir.
  • Book “Arab Cinema: History and Cultural Identity” by Viola Shafik.
  • Article “Displacement and Memory: Visual Narratives of al-Shatat in Michel Khleifi’s Films” by May Telmissany.