دكتاتورية الحقيقة: مقابلة مع المخرج جيلو بونتيكورفو

أعدها وقدمها: إدوارد سعيد ومجلة سينيست

ترجمها للعربية: سليمان البحري

قدمت جمعية مركز لنكولن للأفلام في مارس عام ١٩٩٩ ” قصص موّثقة “، وهي فعالية استذكاريه لأفلام المخرج الايطالي جيلو بينتكورفو ، من ضمنها الطريق الأزرق الطويل (١٩٥٧)، كابو (١٩٥٩)، معركة الجزائر (١٩٦٦)، المحرقة (١٩٦٩)، وفيلم عملية أوغرو (١٩٧٩). وبعد عرض فيلم معركة الجزائر، ناقش إدوارد سعيد مؤلف (الاستشراق والثقافة والإمبريالية وتغطية الإسلام، … والعديد من الأعمال الأخرى) الفيلم مع جيلو بونتيكورفو على منصة مسرح والتر ريد. وأُلحِقت إلى تعليقاتهم مقابلة مع بونتيكورفو أجراها جاري كراودس محرر مجلة سينيست، وقد ترجم أنطونيو موندا تعليقات بونتيكورفو في الحوارين عن الإيطالية.

إدوارد سعيد: أود بادئ ذي بدء أن أقول يا له من فيلم استثنائي. بعد مشاهدتي إياه الآن للمرة الخامسة أو السادسة، تبرز قوة الفيلم بشكل جلي، بمفهومه، ومنطقه ووضوحه وعاطفته. شكرا جزيلا على هذا الفيلم [الجمهور يصفق]. عندما صَنعتَ الفيلم، كانت الثورة الجزائرية قد انتصرت بالفعل. هل أردت أن تحكي عن القصة من كلا الطرفين أم كنت مهتمًا بشكل أساسي بتغطية الجانب الجزائري؟ ما شعورك تجاه تصوير هذا الحراك التاريخي؟

جيلو بينتكورفو: كنت مهتمًا بشكل أساسي بعرض هذا الحراك التحريري العتيد، لا في الجزائر وحدها، بل وفي جميع أنحاء العالم. أمر طبيعي، أن يكون من الواجب إظهار مدى صعوبة الموقف على الجانبين عند التعامل مع تاريخ حافل كهذا. كانت كتابات فرانتز فانون مهمة جدًا بالنسبة لكاتب السيناريو فرانكو سوليناس وبالنسبة لي أيضا. كنا هناك لبضعة أشهر قبل التحرير ورأينا كل شيء، الأمل والبهجة، ونتذكر وجود شُبّانٍ يافعين كانوا يتحدثون في الشارع طوال الليل. خلال الأشهر الطويلة من التحضير والحديث مع الناس، لاحظنا أن النضال ضد الاستعمار قلل من حِدة حالة الناس النفسية وطباعهم. وأنهم لمحاربة الاستعمار كان عليهم تغيير ذواتهم التي صنعها الاستعمار.  

إدوارد سعيد: أجل، يكشف الفيلم أنه عند حد ما، أنه ما عاد بالإمكان ببساطة تحمل وطأة طبيعة الكولونيالية. واحدة من السمات الاستثنائية في الفيلم هي كيفية إظهار لحظة الصحوة والتنظيم. حين يتحول علي لابوانت، النشال والملاكم واللص، إلى سياسيّ، تلك فعلاً واحدة من الدلائل على أن الحراك الاستعماري وصل إلى حد لا يطاق وأن الناس قد تغيروا. من ثم يصبحون جزءًا من تنظيم ذي طابع صعب المراس. يؤدي ذلك بدوره إلى اختلال في حياة الناس ولا يعود بمقدورهم العيش من بعده بسكينة. يُظهر الفيلم كيف يصبح كل شيء تدريجياً جزءاً من الحراك السياسي. يصبح التنظيم دخيلاً على حياة الناس بكل تفاصيلها حتى مشهد الزفاف يصبح مسيسًا وهذا أيضًا من تمظهرات ذلك الاختلال. ما من مكان للخصوصية، كما أن التنظيم على قدر كبير من القسوة لدرجة أن ثمة صرامة وغُلظة تُحوّل الناس لمقاتلين.

سينيست: خلال بحثك عن السيناريو، لأي حد وجدت الأيدولوجية السياسية الثورية للجبهة الوطنية للتحرير متأثرة بالمعتقدات الإسلامية؟

جيلو بينتكورفو: في ذلك الوقت، كان وجود المعتقدات الدينية في الأيديولوجية السياسية في ثورتهم إيجابيا للغاية إذ أنه أعطى أساسًا متينًا لذلك النضال.

سينيست: لقد أضفت عليه طابعًا أكثر أصالةً.  

جيلو بينتكورفو: أجل، لقد أعطت هوية أكثر قومية.

إدوارد سعيد: لم تختزل ابتكارات الفيلم في كونها قصة أفراد فقط (علي لابوانت، والعقيد ماتيو، وساري قادر، والنساء اللاتي شاهدناهن)، ولكن في قصة تتضمن الجمعي أيضا، ما أشرت أنت إليه بـ”الشخصية الكورالية”.

جيلو بينتكورفو: كان هذا بالضبط ما جذبنا أنا وسوليناس. فقد كان من الصعوبة بمكان إشراك شخصية كورالية في فيلم روائي ولكن لم يكن من المستحيل جعل الجمهور يتماهى معها. في سياق سياسي، أهم غاية تتمظهر في فيلم بن مهدي الذي يشرح الفرق بين الإرهاب والحراك الجماعي. “لا تتحقق انتصارات الحروب بالإرهاب، كذلك شأن الثورات. الإرهاب هو الاستهلال، ومن بعدها يتحتم على الشعب التصّرف”. لقد جعل هذا النهج العثور على منتج للفيلم أمراً صعباً. من بين أولئك الذين تواصلنا معهم كان أنجيلو ريزولي، والذي كان وقتئذ أهم منتج إيطالي. وعندما اقترحت عليه الأمر، سألني ما الذي يجعلني أعتقد أن الإيطاليين سيكترثون بالزنوج! شرحت له أولاً “الجزائريون بيض، مثلي ومثلك”. قال: “لا يوجد بطل رئيسي، ولا تريد استخدام أي ممثل على الإطلاق، وفوق ذلك تريد تصويره بالأبيض والأسود. ماذا تقرأ على جبهتي “مغفل”؟ ” لذلك، نظرًا لعدم رغبة أي منتج في إنتاج الفيلم، قمنا بإنتاجه بأنفسنا، بالمال القليل الذي كان بحوزتنا. كنا معوزين في ذلك الوقت لدرجة أنه لم يكن في الطاقم سوى تسعة أشخاص فقط.  

إدوارد سعيد: هل كان النص مكتوباً بشكل مسبق أم أنك أعددته فيما كنت تصور؟

جيلو بينتكورفو: عملنا أنا وسوليناس بجد على السيناريو. طرأ تغيير على بعض الأشياء بالطبع خلال التصوير، إلا أن السياق كان مُسبق التحديد. 

إدوارد سعيد: إذن فقد أُعدَّ الأمر بعناية فائقة. 

جيلو بينتكورفو: باستثناء نهاية الفيلم. لقد عثرت وجها استثنائي بين الكومبارس. لقد كانت المرأة في نهاية الفيلم لذلك شرعت في إعداد نهاية مختلفة.

إدوارد سعيد: كيف كانت النهاية الأصلية؟

جيلو بينتكورفو: كانت مشابهة لكن ليس بالقدر  نفسه من الحرية. عندما أُسأل عما إذا كان إعداد الفيلم صعبًا، أوضح بصدق أنه لم يكن صعبًا كما يبدو. وعلى الرغم من أنك تقابل الكثير من الأشخاص، لأنه بمجرد اختيارك لهذه التيمة، ستشعر بأنك تشم رائحة الحقيقة. قامت القناة الرابعة في إنجلترا بإعداد برنامج عن معركة الجزائر بعنوان “ديكتاتورية الحقيقة”. بمجرد اختيارك ديكتاتورية الحقيقة، سيكون الأمر أشبه بتسلق سلم في الظلام ولكن بوجود درابزين لإرشادك. يجب أن تشعر على الدوام أن هذا خيال، وبأن هذه هي الحقيقة، وأن تتخلص من كل ما ليس حقيقاً. مستلهما وجه هذه المرأة، قررت أن أنهي الفيلم بعرضٍ للباليه كتحية إشادة لجميع المناضلات من أجل التحرر. والآن، عندما تصمم رقصة باليه في نهاية فيلم خاضع لدكتاتورية الحقيقة، فهذه هي اللحظة الوحيدة الصعبة حقًا من منظور إخراجي. تحتاج للعثور على شيء يتسم بخفة الباليه أو الرقص ولكن في الوقت نفسه لا تريد كسر وحدة الفيلم أو استمراريته. أعتقد أنه من الواضح للجميع أن نهاية تدفع فيها الشرطة الحشد للوراء فيما تواصل هؤلاء النسوة العودة، ليست بالضرورة واقعية أو أنها تجسد الحقيقة.

إدوارد سعيد: يبدو الأمر شاعرياً بطريقة ما. 

Brahim Haggiag (center, with arm outstretched) as revolutionary leader Ali La Pointe in a scene from Gillo Pontecorvo’s THE BATTLE OF ALGIERS (1965). Photo courtesy of British Film Institute/Rialto Pictures.

جيلو بينتكورفو: ما يهم حقًا هو ألا يشعر الجمهور بوجود قطيعة في استمرارية الفيلم الأسلوبية عند مشاهدتهم له. لذا قمنا بتصوير هذا المشهد ثلاث مرات مختلفة طوال فترة الإنتاج. بالطبع، أخذت أيضًا أربعين لقطة لمشهد واحد لبراندو[1] في فيلم ” المحرقة”! كنا نشاهد اللقطات القادمة من روما في غرفة عرض وخالجنا شعور بعدم الارتياح، وشعرنا بأن المشهد كان مزيفًا، لذلك واصلنا إعادة تصويره. في النهاية، آمل -وقد قيل لي هذا مرات عديدة- ألا يُلاحظ الاختلاف الأسلوبي. 

سينيست: هلا حدثتنا قليلاً عن فرانكو سوليناس؟

جيلو بينتكورفو: كتبت جميع أفلامي مع فرانكو عدا فيلم واحد. كانت لدينا الأفكار السياسية نفسها. كلانا أحب القفز المظلي واشتريت منزلًا صغيرًا على الشاطئ بالقرب من منزله. أحياناً نُؤثرُ على بعضنا البعض بطريقة فظيعة. لكتابة سيناريو فيلم “كابو” نأينا بأنفسنا إلى قرية صغيرة كي لا يشتت انتباهنا أي شيء. ومع ذلك، بطبيعة الحال عندما تكون مع شخص ما طوال اليوم وتبدأن بالشجار فقد يحتدم الأمر للأسوأ. في مرحلة ما أثناء الكتابة، اقترح فرانكو أن نقدم قصة حب صغيرة بين سجينة وحارس. ظننت أن من شأن ذلك أن يكسر وحدة الفيلم الأسلوبية وأخبرته بذلك. فأصرّ عليهما وكنت أقول: “أنا مندهش منك!” ثم يقول: “لماذا؟” فنبدأ بعدها بتبادل الإهانات. في النهاية حزمنا حقائبنا وغادرنا، ولم يكلم أحدنا الآخر لمدة أسبوعين. كان لدى فرانكو عقلية رجل سرديني وأنا مثله تقريبًا، لذلك لم يحدّث أحدنا الأخر. بعد خمسة عشر يومًا رتبنا لقاءً بالتنسيق مع المنتج وقال فرانكو: “لقد كنتَ على حق بالفعل، لقد كان تنازلاً كبيرا”. قلت: “لا، بل أنت على حق، لأنني أدركت أنه دون ذلك ستكون القصة مفرطة القسوة ولن يذهب أحد لمشاهدة فيلم كهذا”. وكان يقول: “لا، أنت على حق”، وهكذا، لقد كانت هذه هي الطريقة التي نجمع بها القصة في النهاية. لقد كان كاتبًا عظيمًا. أنا أدين له بالكثير. كما كان لدينا أيضًا التّشكل السياسي نفسه.

سينيست: الحزب الشيوعي الإيطالي. 

 جيلو بينتكورفو: حسنًا، لقد تركت الحزب عام ١٩٥٦، إلا أن سوليناس لم يترك الحزب قط. كان غاضبًا مني وكنت غاضبًا منه لنقيض السبب، لكننا لطالما بقينا صديقين مقربين.

سينيست: من الواضح أن علاقة العمل الخاصة بك مع سوليناس كانت مثمرة. ويفترض المرء أن كل واحد منكما قد جلب صفات مكملة لها. كلاكما سياسيان إلى حد كبير، لكن ثمة شعور بأن تأثيرك الفني اتسم بالعاطفة في التصوير البصري للفيلموحتى موسيقيًا في حين أن توجه فرانكو كان إيدلوجيا بشكل أكبر.

جيلو بينتكورفو: أخالفك الرأي. لم يكن هناك مثل هذا التقسيم للعمل. كنا متشابهين على نحو كبير في الأذواق. الشيء الوحيد الذي اختلفنا بشأنه حقًا هو أن سوليناس لم يعِ أو يعرف الموسيقا. أما بالنسبة لي فالموسيقا مهمة للغاية. وُلِدَت موسيقا معركة الجزائر أثناء كتابة السيناريو. قمت بتغيير النص في لحظات معينة قائلا لنفسي: “لا، سأضع موسيقا هنا.” عندما كنا نكتب السيناريو، غضب فرانكو في مرحلة ما لأنني قلت: “بمقدورنا قطع كل شيء في هذا المشهد لأننا سنستخدم الموسيقا”. افرض أنك تتخيل مشهدًا يضم حشداً، لكن إذا وجدت أربعة وجوه واستعملت نوعا معينا من الموسيقا، فلربما لن تكون بحاجة لمشهد الحشد بعد ذلك.

لذلك أخبرت فرانكو: “من فضلك، افعل هذا من أجلي. اسمع سمفونية برامز الأولى عشر مرات ورباعية بيتهوفن الوترية عشر مرات، ثم استمع إلى الكورس الأول لمقطوعة باخ St. Matthew Passion”. بعد ذلك، أحب فرانكو الموسيقا، وبذلك سوّينا أحد خلافاتنا. في رأيي، تشتمل الأفلام على علاقة إيقاعية بين الصورة والصوت. الأمر أشبه بعُرسٍ لمن المنافع حيث يحصل الطرفين، العروس والعريس، على تلك المنافع بتواجدهما معاً. لا تلعب الصورة الدور الأهم دائماً. أظن أنك إذا وضعت موسيقا باخ على شاشة بيضاء، فإنها ستفي بالغرض.

سينيست: لقد تدربت كموسيقي في مرحلة مبكرة من حياتك ومن الواضح أن لديك ذوقا موسيقيًّا جيد جدا. كنت تعمل أيضًا مع أحد أعظم مؤلفي الأفلام في العالم لمقطوعة معركة الجزائر. هلا حدثتنا عن علاقة العمل الخاصة بك مع إينيِو موريكوني.

جيلو بينتكورفو: عندما عملت معه لأول مرة، لم يكن موريكوني الشخص نفسه. كان نجما صاعدا. في أفلامي الأولى، بما في ذلك الأفلام الوثائقية، استعنت بملحنين في العام الأخير من دراسات الموسيقا لأنهم أقل تكلفة. أوصى سوليناس لي بموريكوني قائلاً: “الجميع يقول إنه جيد”. عندما قابلته في المرة الأولى شعرت بالحرج قليلاً. طلبت منه أن يعزف مقطوعات صغيرة من الموسيقا وأدركت فوراً أنه كان مميزا.

مع ذلك فيما يتعلق بمقطوعة معركة الجزائر، لم يرق لي عمله كثيرًا. وجدنا الثيمات المطلوبة في النهاية فقط عندما اضطررنا إلى الإسراع؛ لأن الفيلم قد قُبِلَ في مهرجان البندقية السينمائي. لقد قبل بعض الثيمات التي أقترحها عليه، وكنت متحمسًا لبعض ما كان يقترحها هو. أما في أفلامي اللاحقة فقد اعتمدت كليًا على موريكوني، الذي أعدّه عبقريًا موسيقيًا حقيقياَ. فيما يتعلق بفيلم “المحرقة”! كتب موريكوني التسجيلات بأكملها، باستثناء مقطوعة موسيقية واحدة، والتي وضعتها من باب التطيرّ أكثر من أي شيء آخر. 


[1]  براندو: مارلون براندو الابن Marlon Brando, Jr ممثل ومخرج أمريكي تمتد مسيرته الفنية بما يقارب ستين سنه، حصل خلالها على جائزتي أوسكر كأفضل ممثل. كما كان ناشطاً حقوقياً للعديد من الحركات مثل حركة السكان الأمريكيين الأصليين، عُرَّف براندو بأفلام الواقعية الحركية وهو معروف بدور في فيلم العرّاب The Godfather بشخصية ڤيتو كوريليوني Vito Corleone. (المترجم)