المشيُ كفعلٍ معرفيّ في تشكيل القول الشعريّ

موفق الحجّار، شاعر سوري

تعود علاقتي بفعل المشي إلى مراحل الطفولة الأولى، وكنت قد تعلمت هذه العادة عن جدّي الذي كان له موعد ثابتٌ للمشي اليومي، مشيٌ على طريق الشيخ سعد في المزّة في دمشق، مشيٌ يمارس من خلاله الحياة. لم تكن ممارسته تلك، سوى ممارسة للحياة، للتأمل، للتواصل، وللسلام. سلام على الآخرين، ولقاء بهم. ومن ذلك الرجل، الذي كان يعقد يديه خلف الظهر ويمشي في السوق، يصدر صفيراً لطيفاً أحياناً ويتمتم أحياناً أخرى، يردد السلام على الباعة وعلى الأشياء من حوله، منه فقط، ورثت المشي. المشي الذي علمني أن أرصف طريقي الخاص في كل مدينة عشتُ فيها.

إن الكتابة عن المشي، فعلٌ لا يختلف في صلبه عن المشي نفسه، وأنا إذ أكتب الآن، أمشي مع هذه المفردات نحو وجهة غير بعيدة، أو نحو وجهة غير قريبة، فليس هناك من قرب ومن بعدٍ ومن مسافات حين نقرر المشي المنفرد. يتحدث المفكر الفرنسي ميشال دو سيرتو Michel de Certeau (1925 – 1986)  عن المشي، في حياتنا اليومية في كتابه (The practices of everyday life) حيث يصبح فعل المشي، انعكاساً لفقدان المكان[1]، فيكون المشي هو البحث عن المكان، أو محاولة ذلك. أن نمشي، يعني أننا ننقص شيئاً. يعني أننا لا نملك كرسياً أو مجلساً أو متكأ. يعني أننا هائمون.  ومعنى أن يكون المرء هائماً، هو أن يكون المرء قلقاً، وأن يكون المرء موجوداً فما الوجود إن لم يتخلله القلق؟

إنني في كل مرة أفكر فيها بالوجود، أتذكر استعارة هايدغر الدقيقة، إننا نعيش في حالة غرائبية، حالة (فقدٍ للمأوى)، وأختارُ هنا أن أترجمها هكذا عن not-being-at-home لأن المأوى مفردة قادرة على محو مفردة القلق تماماً، وبدقة أكبر من المنزل، أو من البيت. فالوجود إذن، هو حالة فقد ونقصان وهكذا في هذه الحالة من فقدِ المأوى، يشعر الواحد منّا بالقلق، فيتحرك. وإن هذه الحركة تعني التحرر أو محاولة التحرر، فيخلق التوتر مرةً أخرى من الحركة، يتحرك الواحد منّا أي يقلق أي يتوتر كما تتوتر كل العناصر من حوله بحثاً عن مأواه أو مثواه. وإن أحد أهم أشكال هذا البحث، القلق، التوتر، هو المشي. المشي القادر على مجابهة القلق، أو على ترسيخ الشعور بالوجود. المشي الذي سيقودنا إلى المأوى الذي سنعيش ونموت باحثين عنه.

لا بدّ من مشيٍ إذن.

أدخلني أبو العلاء المعرّي، مرةً، في متاهات قوله، عبر بيت شعر واحد وبسيط، يقابل فيه بينه وبين الزمان، ويكتب لنا عن غياب قدرته على القول، فيقول: “فما لي لا أقولُ ولي لسانٌ وقد نطقَ الزمانُ بلا لسانِ[1]والسؤال الذي ظل ماشياً في ذهني كان عن هذا القول الذي يكتب عنه المعرّي في بيته “الشعري” هذا. فإن كان يريد أن يكتب الشعر فقد حدث، لكنّه كما يبدو يريد القول؛ القول الشعريّ، الذي يختلف عن البيت الشعري. كما يختلف الشِّعر عن القصيدة.

إنّ ما يبحث المعرّي عنه، ويقلقه، هو قولٌ مختلفٌ وفريد. يستطيع أن يعبّر عن فقدانه في بيت شعرٍ فراهيديّ، لكنّه لا يعرف كيف يعبّر عنه، أو كيف يقوله. إنّه يبحث عن قولٍ لا يُقال. إنّه يبحث عمّا سمّاه محمد بن عبد الجبّار بن الحسن النّفّري[2] بـ”ما لا ينقال”. والإحالة للنّفّريّ هنا تساعد على فهم هذه التجربة الشعرية. تجربة القول الشعري، لا البيت الشعري. حيث اعتبرت نصوص النّفّري “المواقف والمخاطبات” أفضل محاولات اللغة العربية في جعل النصّ النثري نصّاً أدبياً، بفضل ما زوده النّفّري به من بصائر وأخيلة تبلغ النائيات على حدّ تعبير يوسف سامي اليوسف في مقدّمته للنّفّري، وقد دافع أدونيس طويلاً عن شعريّة الكتابة النّفّرية والصوفيّة بشكل عام. لكنّ هذه الشعريّة الموجودة، تأتي من فكرة متاخمة الحدود اللغوية، أو متاخمة حدود القول العادي، للوصول إلى القول الشعري، والذي يمكننا أن نسمّيه بقول ما لا ينقال.  فما هو القول الشّعريّ عربيّاً؟ ليس مفاجئاً أن يكون هنالك تعريفات واضحة للقول الشعري في التراث العربي. بل ربّما ينمّ فعلاً عن فهمٍ للشعر والقصيدة برؤية حداثية وأكثر انفتاحاً مما قد نستخدم اليوم في تعريفات “الشّعر العربيّ” أو “القصيدة العربيّة”.

عرّف الفارابي القول الشعري بالاعتماد على مفهوم “التخييل” العربيّ، بمعزل عن الوزن والإيقاع والموسيقا. وقد وصف التخييل -وهو من أوائل من اشتغل على المفهوم وليس آخرهم- بأنه الاستجابة الذهنية، والانفعال الناجم عن القول الشعري في نفس متلقيه بشكل واع أو غير واع.

“جودة التخييل يقصد بها أن تنهض نفس السامع إلى طلب الشيء المخيل والهرب منه أو النزاع إليه أو الكراهة له (..) ويقصد بجودة التخييل أن يتحرك الإنسانُ لقبول الشيء وينهض نحوه وإن كان علمه بالشيء يوجب خلافَ ما يخيل له فيه.”[3]

إنّ التخييل الجيّد قادر إذن على استنهاض النفس، وتحريك السامع أو القارئ، أي على إحداث الحركة، أو تغييرها، فهو بهذا، القوةُ التي تستطيع تغيير الوضعية الحركية. وهذا التخييل، الذي أتحدث عنه والفارابي، لا يعني القارئ فقط، بل إنه يعني الشاعر/الكاتب بالدرجة الأولى، فالتخييل، هو ما يستنهض الشاعر كي يبدأ نصّاً، ومنه وبه يستنهض الكاتبُ القارئَ ويدفعه إلى الانفعال، أي إلى الحركة. يبدو إذن، أن الشاعر/ الكاتب/ القارئ في حالة حركة مستمرة، إذ تغيّرُ إيقاعَ حركته “قوة” التخييل.

والتفريق بين القول الشعري وبين القصيدة، يعني للفارابي أن يغيب الوزن والموسيقا. فإن حضرا كان القول قصيداً. وهذا التعريف الإجرائي تعريف صحيح وفقاً لقواعد وتقاليد القصيدة العربية. لكنّنا إذ نفكّر بالشعرية العربية، فإنه علينا أن ننظر إلى الأمر بطريقة مختلفة. إنّ الأمر كلّه يتعلق في (ما ينقال)، و(ما لا ينقال). إنّ القصيدة التي لا تنفكّ تقول ما ينقال، هي قصيدة من غير شعر. وأن تكون القصيدة العربيّة قصيدةً من غير شعرٍ هو فخٌ مغرٍ لسهولة وقوعه.

ولا أعني بذلك أن القصيدة العربية ميّالة إلى ما ينقال، بل أريد أن أشير إلى أن إمكانية حدوث ذلك أعلى في القصائد التي يحكمها الأسلوب والتقليد المنضبط. لقد استطاعت الحواسيب، أن تكتب القصائد، وأن تقلّد الشعراء، في أساليبهم، في مفرداتهم وبأصالتهم. لكنّها احتاجت لذلك عديد الأمثلة والنصوص. وإنّ آلية عمل الخوارزميات تعتمد اعتماداً كبيراً على “المحاكاة” (وإن اختلفت هذه المحاكاة الرياضية عن المحاكاة كمفهوم فلسفي وأدبي) وبالتالي، فإن عمل هذه الخوارزميات يصبح أسهل، مع وجود نماذج ذات أساليب واضحة وقاعديّة. ولذا فإن كتابة قصيدة عربية بدون شعر، أمر ممكن.

أسمّي هذه القصائد بقصائد الخوارزميات. فهي تعتمد على تدوير كل ما قد تمّت كتابته قبلاً باللغة والوزن والموسيقا العربية. إننا في هذه القصائد نقوم بإعادة إنتاج النصوص، وهذه مسألة رياضية يمكن فعلاً أن يتم حسابها باستخدام قوانين الاحتمالات الرياضية. ما احتمالات الأبيات الشعرية التي يمكن توليدها من عدد مفردات اللغة العربية (حتى وإن كانت هذه المفردات بحراً، إنها نهائية) وما احتمالات هذه الأبيات في بحور الشعر العربي الموزون المختلفة؟ إنّ كل هذه الأسئلة الرياضية، أسئلة ذات إجابات، وإن كانت إجاباتها هائلة الكم والتعداد، لكنها ذات إجابات نهائية وهذا تماماً هو ما ينقال.

إنّ (ما ينقال)، هو ما تستطيع الخوارزمية قوله، وما يستطيع شعراء الخوارزميات قوله. وما يستطيع القارئ أن يتكهنه من قوافٍ حين يستمع إلى قصيدة. ولا يقتصر (ما ينقال) على القصائد الموزونة، فليست عملية التدوير هذه تقتصر عليها، وإنما تنتقل إلى القصائد الحرة، غير الموزونة. حيث يعتمد التكرار على مفردات دون أخرى وأساليب وقواعد دون أخرى. إننا نراها الآن أكثر من أي وقتٍ مضى. وبالتالي، إننّا في (ما ينقال) نتحدث عن حالة معرفيّة دون غيرها، عن نقص في التحرك، وفي السعي. عن فقدٍ لحالة (فقد المأوى)، عن قلةٍ في القلق. ربّما.

يعتمد القول الشعريُّ على التخييل، ويساعد التخييل في استنهاض المرء. إنها عملية تعتمد على الحركة. وهذا ما كان يبحث عنه المعريّ. هذا تماماً هو (ما لا ينقال) الذي يدفعنا النّفّري إليه. ما لا ينقال، يحتاج التحرك، والتأمل، والتحرك مرة أخرى. وأنا أحاول هنا أن أقترح ضرورة التفكير بالمشي كحالة معرفية كاشفة. فإذا كان السرد عملية تقوم أثناء حدوثها ببناء العالم، أو تمثيله على أقل تقدير[4]. وتحمل القرّاء إلى تخيّل العالم كخريطة. فإنّ الشعر هو حالةُ المشي في هذا العالم، هو القلق الباحث عن مأواه. ولذا يحتاج القول الشعري إلى المشي، كما يحتاج العالم إلى القول الشعري.

إنّ كتابة (ما ينقال)، تشبه الجلوس في غرفةٍ عتيقة في متحف عريق، نأخذ منها بعض العناصر ونضعها في جعبةٍ واحدة، أما كتابة (ما لا ينقال) فهي حالةٌ من المشي المنفرد، المشي الهائم دون هدى، المشي إلى وجهة غير بعيدة ولا قريبة. وليس المشيُ الذي أعنيه مشياً مجازياً، بل إنه فيزيائي كذلك، إنّه المشي في عالم سرديٍ لا ينفكّ يقلقنا، ولا ينفكّ يشعرنا بحالة الفقد الذي يحيط بالوجود. ولذا أرى أننا اليوم في الشعر العربي، نحتاج إلى شعراء مشائين أكثر من أي وقتٍ مضى. نحتاج إلى مشيٍ حقيقيٍ قادر على إنتاج القول الشعريّ الذي أقلق المعرّي في بيته وحلم به النّفّري وسمّاه إذ جرّبه بما لا ينقال.

 فليكن مشياً إذن.

 

المراجع باللغة العربية:

النّفّري، محمد بن عبد الجبار بن الحسن. الأعمال الصوفيّة، مراجعة: سعيد الغانمي، كولونيا، منشورات الجمل،2007 .

كيليطو، عبد الفتاح. أبو العلاء المعري أو متاهات القول، ط١، الدار البيضاء، دار توبقال للنشر، 2000.

الإدريسي، يوسف. التخييل والشعر حفريات في الفلسفة العربية الإسلامية،بيروت: منشورات ضفاف،ط 2012، .

المراجع باللغة الإنكليزية:

De Certeau, Michel. The practices of everyday life, trans. Steven Rendall, University of California Press: Berkeley 1984.

T. Tally Jr, Robert. spatiality, NewYork: Routledge, 2013.


[1] De Certeau, Michel.”The practices of everyday life” trans. Steven Rendall, )University of California Press, Berkeley 1984 (113 .

[2] أبو العلاء المعري، لزوم ما لا يلزم، مجلد ثاني، (بيروت: دار صادر،2012)، 314.

[3] انظر: محمد بن عبد الجبار بن الحسن النّفّري، الأعمال الصوفية، مراجعة: سعيد الغانمي، (كولونيا: منشورات الجمل، ٢٠٠٧)

[4] يوسف الإدريسي، التخييل والشعر حفريات في الفلسفة العربية الإسلامية، (بيروت: منشورات ضفاف، ط١، 2012) 165.

[5] Robert T. Tally Jr. “spatiality”, (NewYork, Routledge:2013) 49.