إضاءات في طريق الشعر العربي الأمريكي

تزامنت بداية الحركة الأدبية العربية الأمريكية (المهجر) مع ظهور العديد من الجمعيات والصحف الأدبية والحركات الثقافية ومن أهمها تأسيس الرابطة القلمية (1920)1. ظهرت العديد من المجموعات الشعرية لشعراء عرب في المهجر منها “غريب في الغرب” (1895) لميخائيل رستم س. حويري، و”نحلة في الغرب” (1901)  للويس سابونجي، و”نسمات الغصون” (1905) لسليمان دافيد سلامة، و” نفحات الرياض” (1906) لرزق حداد، نُشرت جميعها باللغة العربية في حينها[1]. إلا أن أدب شعراء المنفى شهد ازدهاره  مع ظهور رابطة القلم التي أسسها جبران خليل جبران وأمين الريحاني وآخرين ينتمون إلى مدرسة المهجر للكتاب العرب الأمريكيين[2]. تقدم الباحثة والشاعرة الفلسطينية الأمريكية ليزا سهير مجج تتبعًا تاريخيًا لأصول الأدب العربي الأمريكي وتطوره، وتلخص سردًا تاريخيًا للنصوص الأدبية المنشورة خلال هذه الحقبة منذ ظهور “كتاب خالد” لأمين الريحاني (1911) والذي قدم فيه بحثًا فلسفيًا بحتًا عن الصدق والمتصوفين، وشرح عن التلقين والهجاء الاجتماعي والسياسي [3]. ويُذكر أن للريحاني العديد من الأعمال الشعرية المكتوبة باللغتين العربية والإنجليزية. وفقًا لمركز خيرالله لدراسات الشتات اللبناني ، فإن لدى الريحاني مجموعة شعرية واحدة مكتوبة باللغة العربية بعنوان “هتاف الأودية” (1955) نُشرت بعد وفاته، وولديه خمس مجموعات شعرية أخرى باللغة الإنجليزية.

ظهر جبران، بعد الريحاني،  باعتباره الشاعر الرومانسي والصوفي والفلسفي في عصره. إذ أصبح كتابه البارز “النبي” (1923) ثاني أهم مخطوط بعد الكتاب المقدس في أمريكا لأنه رفع مستوى روحانية الإنسان وتأمله4. وفي نفس الفترة، اكتسب اثنان من الشعراء البارزين شهرة في الشرق الأوسط أكثر من أمريكا الشمالية، وهما ميخائيل نعيمة وإيليا أبو ماضي. إلا أن نعيمة لم يتلق التقدير الذي يستحقه في الولايات المتحدة مثل جبران والريحاني على الرغم من ترشيحه مرة واحدة لجائزة نوبل في الأدب[4]. ويعد كتابه “كتاب مرداد: منارة وميناء” بنفس أهمية وقيمة كتاب “النبي” لجبران فهو كثيف بموضوعات الألوهية والروحانية و”له أصداء قوية على غرار الكتاب المقدس وعظات زرادشت لشعبه5. أما الشاعر الرابع في الرابطة فهو إيليا أبو ماضي الذي نشر شعره باللغة العربية واكتسب شهرة في العالم العربي لا سيما من خلال مجموعته الشعرية الثالثة “الجداول”  (1927).

إن الموضوعات المرتبطة بالتقاليد العربية والهوية والوطن والوجود في المنفى التي قدم لها جيل شعراء المهجر الأول تختلف بالأسلوب والشكل عما قدّمه  شعراء الأجيال اللاحقة، الجيل الثاني، والثالث وما بعدهما. فالوطن عند الشعراء المهجريين الأوائل يقع على بعد الأميال الجغرافية، ومفهوم العودة المادية بالنسبة إليهم مرتبطٌ بالعودة الحقيقة الملموسة. أما مفاهيم الوطن والعودة عند الشعراء المهجريين اللاحقين فتختلف عما كانت عليه، فنرى أن المنفى  يشارك الموطن الأصلي وطنيته وانتمائه المكاني، وتأخذ العودة معنىً يتعدى السفر والزيارة لتصبح،وكذلك عودة رمزية ومجازية تتحقق بالنص الشعري.

يوجد فرق بين الهوية والوطن كفكرة عاطفية وحميمية أو كهمٍ وطني. إذ تباين الأسلوب الذي تناول به شعراء المنفى في التعبير عن هوياتهم ومواطنهم الأصلية أو أصولهم العرقية أو الدينية، مما دفع الباحثين إلى تناول جميع الشعراء العرب الأمريكيين عبر الأجيال من خلال دراسات مقارنة مع مراعاة الظروف السياسية والأيديولوجية والثقافية والاجتماعية التي طرأت مثل الهجرة والحروب والمجازر والتدهور الاقتصادي وطرائق البحث عن المعرفة أو وسائل التواصل مع العالم عبر نصوصهم الأدبية.

شهد الأدب العربي الأمريكي تحولاً هادئاً بين الموجتين الأولى والثانية من المهاجرين. الفترة التي كانت فيها عمليات الاندماج في المجتمع الأمريكي عالية وكان الارتباط بالتقاليد العربية غير مؤكد وغير ذي صلة. وفقًا لليزا سهير مجج ، فإن الريحاني وجبران وغيرهم من الكتاب (شعراء الجيل الأول) قد “شددوا على هويتهم المسيحية وأصلهم الجغرافي في” الأرض المقدسة ” و”روحانياتهم “، مستخدمين الخطاب التوراتي والمتواليات الدينية. أما الجيل الثاني من الكتاب العرب الأمريكيين فقد أصبحوا أكثر أمركة وأقل انبهارًا بعروبتهم وثقافتهم الأصلية. لقد فقدوا المقاربة الكونية والعالمية للكتابة وتلاشى صوتهم “العالمي” [ببطء] ليصبح صوتًا أمريكيًا أكثر وضوحًا في الخمسينيات والستينيات [5]. بعد عام 1960، بدأت الموجة الثالثة من الشعراء العرب الأمريكيين في الوصول إلى الولايات المتحدة حيث ظهرت مجموعة جديدة من مهاجري مناطق الحرب الذين عانوا من الحروب الأهلية والأزمة الاقتصادية العالمية. وبسبب هذه الظروف  أصبح الشعراء العرب بحاجة ماسة إلى “شكل جديد من أشكال التعبير عن الذات”، وبالتالي وجّهوا اهتمامهم إلى “الأدب والفنون”، والتي، على عكس الكتاب الأوائل، “حفزت العرب الأميركيين (المقيمين) على الانخراط بشكل مباشر أكثر في الثقافة والسياسة العربية [6].

إلى جانب المشروع السياسي الأدبي، أوجدت الأجيال العربية الأمريكية الثانية مثل ناتالي حنظل، ونعومي شهاب ناي، ووسام الحزوو، وسام حمود، وجاك مارشال، وغيرهم ممن قاموا بأمركة أسمائهم، مهمتها في الشعر كوسيلة للتعبير عن أسمائهم وهوياتهم المفقودة أو الضائعة، فكتبوا عن التاريخ، والوطن، والذكريات وتمثلوها ذاتيًا وجمعيًا. ناضل هؤلاء الشعراء ضد الاندماج الكامل في المجتمع الأمريكي، فبدأوا بسرد قصصهم التي تبرز أصولهم القومية والدينية وتعكس تجاربهم العرقية كعرب أو مسلمين أو مسيحيين في المنفى. قد يكون لهؤلاء الشعراء بطاقة هوية تحمل الجنسية الأمريكية -وهو حال معظم العرب الأمريكيين تقريبًا الذين قُبلوا من خلال عمليات التجنيس الأمريكية- إلا أنه لا توجد وثيقة رسمية (بطاقة هوية) لأي إنسان من أصل عربي تحمل تعريف الجنسية العربية. ومن هنا تكون العروبة جزءًا لا يتجزأ من هوية المرء التي يشعر بها ويعيشها ويتوق إليها، ولكن بدون أي إثباتات أو تعريفات رسمية. يحمل العديد من الشعراء العرب الأمريكيين جنسيات عربية أخرى أقل شمولية  لفكرة عربيتهم، مثل  لبناني، سوري، أردني، فلسطيني، عراقي، مغربي، ليبي، تونسي، يمني… إلخ. ومن هنا تظهر في أعمال الجيلين الثاني والثالث من الشعراء العرب الأمريكيين، الكثير من الأجناس الشعرية والأدبية، وكذلك النصوص المتنوعة التي يظهر فيها التجريب الجديد لتقنيات ما بعد الحداثة وما بعد الاستعمار في التعبير عن الولاءات للوطن والانتماء للهوية، والتعددية الثقافية والاجتماعية والسياسية.

على الرغم من أن أدب الكتاب العرب الأمريكيين يمتد لأكثر من قرن من الزمان، إلا أن البحث المتاح المخصص لدراسة الشعر العربي الأمريكي ضئيل للغاية. يتوفر عدد لا بأس من أطروحات الدكتوراه ورسائل الماجستير والمقالات الأكاديمية في مجال الشعر العربي الأمريكي، إلا أنها ليست بتلك الشمولية التي يستحق أن يتلقاها. وبينما اكتسب الأدب العربي الأمريكي -عامة- المكتوب باللغة الإنجليزية الاهتمام والاعتراف بعد أحداث 11/9، ظهرت موضوعات “التبني الثقافي ، والدراسات الهجينة، وتجربة الشتات” في كثيمات بحثية في الكثير من المؤسسات والجامعات المهتمة بأدب الأمريكيين من أصول أخرى.

وفقًا للمالح، تعد ثيمة ” تكوين الهوية وخلق الوطن” في الشعر العربي الأمريكي حديثة، وتتخذ مسارًا اجتماعيًا ومتعدد الثقافات منذ السبعينيات. تعبر قصائد هذا العصر عن موضوعات الخسارة والعودة والحنين إلى الوطن والغربة والهوية الممزقة والأسرة والمجتمع والأمة وغير ذلك من الموضوعات المرتبطة بالرحيل والاغتراب. وصقلت فكرة “الهوية الثقافية المعقدة” التجربة الشعرية العربية الأمريكية وهيأت لها المساحة السياسية والتاريخية والاجتماعية والتعددية الثقافات لتتجاوز الحاضر وتنتقل إلى بعدٍ زماني مكاني يتحدى نظام الوعي التقليدي للهوية والوطن.

في دراسة “أطفال المهجر: قرن ممتد من الأدب العربي الأمريكي”، تذكر إلماز أبينادر أن الكاتبات العربيات الأميركيات ظهرن منذ سبعينيات القرن الماضي وهو الأمر الذي أصبح جزءًا من “التيار القومي في الولايات المتحدة” [7]. ظهرت الكاتبات مثل إيتل عدنان ودي. اتش. ملحم، ونعومي شهاب ناي، وإيفلين شاكر، وناتالي حنظل، وليزا سهير مجج، وديما هلال، وليلى حلبي، وسهير حماد وأخريات عُرفن كشاعرات وروائيات. وتعد مجموعة إيتل عدنان “إطلاق القمر” – Moonshots- (1966) الشعرية أول مجموعة شعرية كاملة نشرها شاعر عربي أمريكي باللغة الإنجليزية.

الشاعرة إيتل عدنان

شجعت وفرة الإنتاج الأدبي للمرأة في هذا العصر العديد من النقاد على دراسة أعمالهن جنبًا إلى جنب مع الموضوعات المتعلقة بالهوية والوطن والإرث وما بعده. ومع التركيز على الكاتبات العربيات الأميركيات في الدراسات النقدية، إلا أن أعمالهن تستدعي المزيد من الاهتمام والدراسة كونهن يمثلن شريحة مهمة من الكاتبات اللواتي يعكسن ثقافتهن العربية والأمريكية معا، وشكلت أعمالهن نقلة نوعية كبيرة في تاريخ الشعر العربي الأمريكي.

الآن ظهر الكثير من الشعراء العرب المعاصرين الذين قدموا القصيدة النثرية بأساليب فنية حداثية تفكيكية تخضع فيها المضامين من رموز واستعارات وتشبيهات للعبة الشكل الفني المرسوم والمبني على حركة القصيدة على الصفحة الفارغة بشكل يعكس الموضوع التي تتناوله. أما بالنسبة للموضوعات العامة التي تشغل بال الشعراء العرب الأمريكيين الآن فهي الطريقة والشكل التي تتحدث فيها قصائدهم عن هوياتهم المتعددة ومقاومة الصور النمطية عنهم وعن أصولهم من خلال إنتاج قصائد تاريخية تتجاوز الوقت وتستمر في مواجهة الأطر السياسية والاجتماعية والجندرية للتمثيل الأدبي. فنرى أن الهوية والوطن والذكريات والأصول التاريخية لهؤلاء الشعراء أصبحت أفكارًا تخترق تقانة العصر ومعطياته من خلال دمجها بالنشر الإعلامي عبر وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة وعبر الأداءات الشعرية التي تتجاوز غلاف الكتاب المطبوع لتقفز على منصات ومسارح كرسالة سياسية عامة تثبت هويتهم الذاتية وارتباطها بالهوية الجمعية عبر الفن والموسيقى وتداخلات الأجناس الأدبية الأخرى، فيصبح النص الشعري مفتوحًا للتأويل وخصخصة الذائقة الأدبية والتعددية الثقافية. ومثال على هؤلاء الشعراء: جورج إبراهيم، طارق دوبز، وزينة السوس وفادي جودة.

في الوقت الحاضر، يحمل العديد من الأدباء العرب الأمريكيين إلى عضوية مؤسسة “راوي” RAWI التي تبذل جهدًا ثمينًا في جمع الكتاب العرب الأمريكيين وتزويدهم بفرص الأداء على خشبة المسرح أو الكتابة والنشر والتسويق لمحاضراتهم وورشات العمل معهم. مما يخلق الكثير من الفرص لإيجاد أساليب أدبية جديدة ومبتكرة في الكتابة والبحث وظهور أنواع شعرية تستحق الدراسة في الأدب العربي الأمريكي.

المراجع:

Abinader, Elmaz. “Children of AL-Mahjar: Arab American Literature Spans a Century.” U.S. Society &

Values February 2000: 11-17. US Dept of State, International Information Programs. 18 June 2020. <http://kremesti.com/rami/amalid/Arab_Pride/Arab_American_Literature.h

أبي نادر، إلماز. “أطفال المهجر: أكثر من قرن على الأدب العربي الأمريكي.” يو اس سوسيتي آند فاليوز : نيويورك، 2000

ويشار إليه ب (أبي نادر)

Al Maleh, Layla. Arab Voices in Diaspora: Critical Perspectives on Anglophone Arab Literature.

Ed. Layla Al Maleh. New York: Rodopi, 2009.

المالح، ليلى. أصوات عربية  في المنفى: وجهات نظر نقدية حول الأدب العربي المكتوب باللغة الإنجليزية. نيويورك: رادوبي، 2009.  ويشار إليه ب (المالح)

Handal, Nathalie. The Poetry of Arab Women: A Contemporary Anthology. Ed. Nathalie Handal.

Northampton, 2001.

حنظل، نتالي. شعر المرأة العربية: أنثولوجيا معاصرة.  نورثامبتن:   ، 2001. إنترلينك. ويشار إليه ب (حنظل)

 

Majaj, Lisa Suhair. “Arab-American Literature: Origins and Developments.” American Studies Journal 52

(2008): 1-21.

مجج، ليزا سهير. “الأدب العربي الأمريكي: الأصول والتطورات”. مجلة الدراسات الأمريكية، العدد 52، 2008.  ويشار إليه ب (مجج)

الهوامش:-

[1]  (عبد الدايم 15).

[2] مجج، 2.

[3]  ليلى المالح، ص. 431

[4]  (أبينادر 12 ؛ ألن 267)

[5] “(المالح 432)

[6]  مجج، ليزا سهير. الأدب العربي الأمريكي: الأصول والتطورات. ص.2. (المصدر باللغة الإنجليزية).

[7]  أبي نادر، ص. 3